رسائلُ العد التنازلي لانهيار التهدئة: تذكيرٌ أخيرٌ بمخاطر التعنت
المسيرة | خاص
منذ انتهاء الهُدنة وَجَّهت صنعاءُ وقيادتُها الثوريةُ والسياسيةُ لتحالُفِ العدوانِ الأمريكيِّ السعوديّ الإماراتي العديدَ من الرسائل التي أكّـدت من خلالها على ثباتِ موقفها التفاوضي، وحذرت من عواقب محاولة الالتفاف على هذا الموقف، لكن الرسائل التي وُجهت خلال الأيّام القليلة الماضية جاءت مميزة بدلالات واضحة على أن المسار التفاوضي وصل إلى نهاية مسدودة، وأن التصعيد بات وشيكاً إذَا لم يسارع تحالف العدوان ورعاته إلى تغيير موقفهم، وهو الأمر الذي يعني أنه لم يعد هناك مساحة كافية للمراوغة وتضييع الوقت، وأن على الأعداء أن يبدؤوا بحساب كلفة موقفهم قبل فوات الأوان.
أهمُّ الرسائل الأخيرة التي وجهتها صنعاء لتحالف العدوان والتي أكّـدت على انسداد أفق التفاوض، جاءت في خطاب قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي الأخير بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد، حَيثُ أكّـد بكل وضوح أنه لا يوجد أي تقدم إيجابي وأن جهود تجديد الهدنة والدفع نحو السلام تواجهُ “مشكلة كبيرة” يصعُبُ تجاوزها، وهي تعنُّتُ الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أَسَاسي ورفضها صرف مرتبات الموظفين من إيرادات النفط والغاز ورفع الحصار عن المطارات والموانئ، وقد قدّم القائد هذه التأكيداتِ بشكل أعطى انطباعًا واضحًا بأنه لا يمكن القبولُ باستمرار هذا الوضع وإتاحة المجال لتحالف العدوان لاستغلال غطاء المفاوضات، مِن أجل كسب الوقت.
الرسائلُ التي وجّهها القائدُ في الخطاب الأخير وما تضمنتها من تأكيد صريح على الجهوزية لخوضِ تصعيد كبير، تعتبر بمثابة بداية عد تنازلي للوضع الراهن سياسيًّا وميدانيًّا، والطريق الوحيد للحيلولة دون الوصول إلى نقطة الانفجار هو تغيير هذا الوضع من خلال تغيير موقف تحالف العدوان ورعاته.
نائبُ وزير الخارجية بحكومة الإنقاذ حسين العزي كان هو أَيْـضاً قد أشار قبل أَيَّـام إلى انسداد أفق المحادثات والوصول إلى نهاية وشيكة لحالة التهدئة الهشة، إذ أكّـد أنه “لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على تراجع دول العدوان عن إصرارها الغريب على استئثار مرتزِقتها الفاسدين بثروات اليمن النفطية والغازية” وأن “هذه المماطلةَ والتلكؤ الطويل إزاء مطالب إنسانية محقة وعادلة ومحدودة، إضافةً لحجز السفن وإجراءات تصعيدية أُخرى.. كُـلُّ ذلك يؤكّـدُ تصميمَ هذه الدول على عودة وشيكة للحرب”
والتأكيدُ على أن الفترة الماضية لم تشهدْ تحقّق أي تقدم يذكر، ينسِفُ كُـلَّ دعايات وتصريحات المبعوث الأممي إلى اليمن هانز غروندبرغ ومسؤولي دول تحالف العدوان المتكرّرة حول “دعمهم لاستمرار جهود تجديد الهدنة”، إذ أصبح واضحًا أنه لا توجد أصلاً جهودٌ حقيقية حتى يتم دعمها، وأن كُـلّ ما يحدث هو محاولة لوضع صورة مغلوطة تصور للرأي العام وللمجتمع الدولي أن دول العدوان ورعاتها بصدد صناعة “السلام” في اليمن.
وإشارةُ قائد الثورة إلى أن تحالف العدوان ورعاته يريدون دفع صنعاء نحو “الاستسلام” تحت عنوان السلام، تؤكّـد أن سببَ تعثر المفاوضات ليس فقط مُجَـرَّدَ تعنت العدوّ بخصوص تفاصيل الموقف التفاوضي لصنعاء، بل إن المشكلة هي في عدم رغبة دول العدوان وأمريكا خَاصَّةً بالتوصل إلى أية حلول أصلاً، ما يعني أنها ومنذ البداية تستخدم عملية التفاوض نفسها كوسيلة مراوغة (تفاوض لأجل التفاوض)، وبالتالي فَـإنَّ الاستمرارَ لا جدوى منه، الأمرُ الذي يعني بدوره أن أية مخطّطات تعمل عليها دول العدوان لإطالة أمد هذا الوضع قد تموتُ قبل أن تولد أصلاً.
وفي هذا السياق، يؤكّـد عضو المكتب السياسي؛ لأَنَّصار الله علي القحوم معلقاً على ما ورد في خطاب السيد أنه “ما يردّده الأمريكيون من أسطوانات مشروخة ليس إلَّا للتغطية على جرائمهم وأطماعهم الاستعمارية فما يريدونه وما يصبون اليه هو الاستسلام والقبول بمشاريعهم الشيطانية”.
وكان نائبُ وزير الخارجية قد أوضح أَيْـضاً في هذا السياق أن حديث قائد الثورة في الخطاب الأخير يؤكّـد أنه “لا يوجد في قاموس الأعداء أية صيغة لأي سلام حقيقي”.
ووفقاً لذلك، يمكن القول إن عودة الأمور إلى نقطة الصفر يتوقفُ على انتهاء الفرصة التي منحتها صنعاء لدول العدوان لمراجعة موقفها وهي الفرصة التي كان الرئيس المشاط قد تحدث عنها مؤخّراً بشكل واضح في سياق تأكيده على أن بعضَ أطراف العدوّ قد وصلت إلى قناعة بضرورة البدء بالتوجّـه نحو السلام الفعلي، حَيثُ يبدو الآن أن هذه الأطراف اختارت تفويت تلك الفرصة.
ويؤكّـد القحومُ أن على دول تحالف العدوان “التقاطَ رسائل قائد الثورة الأخيرة واستيعابها ومراجعة حسابهم وألا يخطئوا في ذلك؛ لأَنَّ المرحلة المقبلة ستفرض معادلات التوازن والردع وستضع نهاية للعملاء والخونة والمستعمرين وفي الجعبة الكثير والكثير من المفاجئات والأيّام المقبلة حبلى بالمفاجآت” وهو ما يعني أن المسافة نحو التصعيد باتت أقل من أي وقت مضى، ولم تعد تكفي لتجاهُلِ التحذيرات والبحث عن المزيد من الحيل؛ لأَنَّ الفترة الماضية كانت تكفي لاستغلال فرص السلام الفعلي.
والحقيقةُ أن إنذارَ قائد الثورة من تداعيات عودة التصعيد في خطابه الأخير حملت نبرة مميزة تؤكّـد بشكل واضح على أن صبر صنعاء بدأ ينفد، وأن محاولةَ العدوّ لاستغلال التهدئة، مِن أجل تمرير أية خطوة تصعيد أُخرى (ميدانية أَو اقتصادية) ستؤدي مباشرة إلى انفجار غير مسبوق.
وكان عضوُ المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، قد أكّـد مؤخّراً وبشكل واضح أن رهان الأعداء على عامل الوقت والمماطلة لن يحميهم من تداعيات استمرار التعنت.
ومن أبعاد هذه الرسائل والإشارات والتأكيدات، تذكيرُ تحالف العدوان ورعاته بحقيقة مهمة يصعُبُ تجاوزها وهي أن صنعاء قبلت بالتهدئة من موقع قوة، وبالتالي فَـإنَّ تعاطيَها الإيجابي مع جهود تجديد الهدنة ليست نقطة ضعف يمكن استغلالها لفرض الشروط وتوجيه الضغوط عليها؛ لأَنَّها ما زالت تمتلكُ القوةَ التي أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية على الهرولة نحو الهدنة في المقام الأول، وقد حرصت صنعاءُ على أن توضحَ لتحالف العدوان ورعاته طيلة الفترة الماضية أن خيارات القوة التي تمتلكها متنوعة وبإمْكَانها أن تتعامل مع كافة المتغيرات، فسواءٌ أكانت الولايات المتحدة من يصر على استمرار العدوان والحصار أَو أدواتها الإقليمية فَـإنَّ صنعاء ستظل قادرة على الرد بما يحقّق الأثر المطلوب والضغط الكافي على المعتدي مهما كانت هُــوِيَّته.
وعلى رأس قائمة خيارات القوة التي حرصت صنعاء على أن تجذب انتباه العدوّ نحوها خلال الفترة الماضية، خيار المواجهة البحرية التي توعد رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية اللواء الحاكم بأنها ستكون المعركة الأشد منذ بدء العدوان.
وبالتالي فَـإنَّ تحالُفَ العدوان الآن أمام خياراتٍ واضحةٍ ومحدودة جِـدًّا ولا مجالَ للالتفاف عليها: إما تلبية كافة مطالب الشعب اليمني بشكل جاد وعاجل، أَو الاستعداد لتصعيد مفتوح على كافة الاحتمالات، أما التعويل على المبعوث الأممي والوسطاء لإطالة أمد حالة اللا حرب واللا سلام، فلم يعد خياراً متاحاً مهما كانت الحيل التي يعدها؛ لأَنَّ الضامن الوحيد لاستمرار التهدئة هو أن يستفيدَ الشعب اليمني منها وأن تفتح آفاقا حقيقية للسلام، ولا سبيلَ لتحقيقِ ذلك بالمراوغة.