الشهيدُ المجاهد أحمد شرف.. السائرُ إلى رضوان الله
أصر على إنقاذ جرحى سعوديّين كان يستغيثون بعد إصابتهم في إحدى المعارك وهذا الموقفُ كان سبباً في انضمام أحد الجنود السعوديّين إلى أبطال الجيش واللجان الشعبيّة
عثر المجاهدون على جثته بعد مرور شهرين من استشهاده والعجيب أن جثته لم تتحلل
المسيرة | أيمن قائد – عبد القوي السباعي
لكُلِّ شهيدٍ حكايةٌ وليست كأية حكاية من الحكايات، ولكل شهيد قصة تاريخية سجلت بقلم مداده دماء التضحية والفداء وبندقيةِ مؤنتها الهدى والبصيرة والقضية، لتتحقّق معاني العزة والكرامة.
وحينما نقف متأملين إلى قصص وسير الشهداء نجد أن وراءهم عشقاً كبيراً للحياة بكرامة، ومن بطولاتهم نستلهم أسمى معاني الولاء وصدق التولي وشجاعة منقطعة النظير، وبهذا نكون مع قصة شهيد من شهداء الدفاع المقدس وهو من ضمن من تركوا متاع الدنيا الزائل وتوجّـهوا نحو ميادين البطولة والاستبسال حينما سمعوا داعي الله ينادي للجهاد.
وَالشهيد أحمد شرف الدين صالح المهدي من أبناء أمانة العاصمة، وهو من مواليد 1975م، متزوج ولديه اثنان أولاد وبنت، ومستواه العلمي جامعي ماجستير علوم محاسبة، وكان رئيس قسم الاستثمار في المؤسّسة العامة للاتصالات.
نشأة الشهيد وأبرز صفاته
نشأ الشهيد أحمد شرف الدين المهدي في بيت علم وصلاح، حَيثُ كان والده من العلماء الزهاد وكان قيم مسجد الحي، فامتلأت طفولته بالعلم والحكمة والصلاح إلى جانب الشجاعة والإقدام والإنصاف، وتميز بكاريزما قيادية منذ الصغر وكان اسمه المشهور بين سكان الحي “أحمد شرف”، وقد تحمل المسؤولية في سنٍ مبكرة، فعلى الرغم من كونه كان الطفل المدلل لوالده إلَّا أن مرض والده بالسرطان جعله يتحمل أعباء الاعتناء به وقضاء حاجياته، فانقطع أحمد شرف ذلك الفتى المفعم بالحيوية والنشاط والمتميز بتكوين الصداقات مع أقرانه في الحي وخارجه، فاعتكف لخدمة والده لمدة عامين، وبعدها توفي والده العلامة شرف الدين صالح المهدي وهو ساندٌ ظهره إلى حجر أحمد الذي لم يتجاوز حينها الـ19 من عمره، والذي استقبل هذه الفاجعة بكل قوة ورباطة جأش وأمر جميع النساء في البيت بعدم الجزع والتهويل والصراخ، بل عليهن الدعاء للمتوفي الراقد بين يديه.
أصبح أحمد شرف كبير العائلة ورجل البيت الأول وتحمل المسؤولية عن رعاية والدته وإخوانه القصّر، فقطع دراسته الثانوية لتدريسهم، واشتغل في عدة حرف، منها لدى عيادة الدكتور عبدالسلام عثمان كسكرتير لقطع ورق المعاينة، وتأمين كافة الخدمات والمنافع الخَاصَّة بالعيادة، وتعلم قيادة السيارة بمهارة في خدمة العيادة، وَبعد ثلاث سنوات تزوج أحمد شرف في سنٍ مبكر بناءً على رغبة والدته، الأمر الذي أضاف إليه أعباء إضافية أُخرى.
ونظراً لسمعته الطيبة وما امتاز به أحمد من الأمانة والإخلاص والنزاهة والسمعة الطيبة انتقل للعمل لدى إسماعيل العوامي كسائقٍ خاص، فكان لمديره الجديد بمثابة الأخ الأصغر والابن البار، حَيثُ كان يثق به في كُـلّ شيء ويعينه على كُـلّ شيء في العمل والبيت.
لم يكن طموح أحمد شرف يتوقف عند الوظيفة والعمل كسائق، بل كان يتجاوز ذلك مع إدراكه أن هذا لن يتحقّق إلَّا بالعلم، فقام بالتسجيل في مدرسة (سيف بن ذي يزن) الثانوية سعياً منه لنيل الشهادة الثانوية العامة التي جعلها هدفه المرحلي لتحقيق طموحاته المستقبلية، وبالفعل حصل على تقدير ممتاز رغم الفترة القصيرة في الدراسة، وسجل في كلية التجارة والاقتصاد بخمر، وهو لا يزال يعمل سائقاً مع الأُستاذ إسماعيل، ثم حصل بعدها على درجة البكالوريوس في المحاسبة، ولأن طموحاته لا تحدها حدود، فقد تقدم للوظيفة العامة لتحسين وضعه الوظيفي والمعيشي، وتدرج من السلم الوظيفي الأول الذي بدأ مراسلاً، فاشتغل وثابر في المؤسّسة حتى قيل عنه أنه تزوج بالمؤسّسة العامة للاتصالات.
أخذ العديد من الدورات الداخلية في اللغة الإنجليزية حتى وصل إلى “التوفل” وأُخرى خارجية في مجال الحاسوب في تركيا وغيرها، وأصبح مَثَلاً أعلى للعائلة وللحي بأكمله في الجد والاجتهاد والمثابرة كرجل عصامي؛ كونه بدأ من الصفر، حتى ترقى في الأعمال والمناصب بحسب الكفاءة التي كان قد بلغها.
ولم يصل الأمر به إلى هذا الحد، بل واصل دراسة الماجستير في العلوم المحاسبية، وكان الله سبحانه وتعالى يهيئ له الأسباب، ومضى في صناعة ذاته وتأمين مستقبل أبنائه وأسرته والذي كان دائماً ما يجعل راحتهم في سلم أولوياته.
وعلى الرغم من مشاغله الكثيرة إلَّا أنه كان يخصص العشر الأواخر من شهر رمضان للاعتكاف في المسجد وللخلوة مع الله، متعللاً ذلك بأن طوال العام لعمله وهذه العشر لربه، وَكان كريماً معطاءً سخياً، لم يبخل يوماً على من طلبه، وَكان يأبى الظلم والضيم على نفسه وعلى الآخرين، وكان دائماً يقول إن سلاحه القلم، حتى صار يطلق عليه زملاءه بالعمود الفقري لإدارته في العمل.
التحاقُه بالمسيرة القرآنية
ومع بداية المسيرة القرآنية حينها لم يكن الشهيد المهدي يعرف عنها أي شيء نتيجةً للتشويه والدعايات التضليلية التي كانت تنتهجها الترسانة الإعلامية لنظام عفاش، أَو تلك التي كانت تسبح في نفس التوجّـه.
وعندما وصل المجاهدون إلى محافظة عمران شمالي البلاد، بدأ يتساءل عن هذه الحركة، وهذه الثقافة التي كان الناس والدولة والإعلام يتحدث عنها بذلك القبح والبشاعة، وَكيف لها إذَا أن تسطع بكل هذا التألق والعنفوان، فقرّر في ذات جمعة أن يحمل أسرته على متن سيارته والذهاب إلى عمران للتنزه ومن ثَمَّ معرفة حقيقة هذا المشروع القادم من صعدة، وحين وصل إلى عمران لفت انتباهه تلك العبارات المكتوبة في لوحات النقاط الأمنية (الترتيبات الأمنية لكم وليست عليكم) وذلك الأمن والأخلاق التي يتصف بها المجاهدون وتلك الحركة الطبيعية في كُـلّ شيء، فعاد إلى صنعاء وفي مخيلته ترتسم العديد من علامات الاستفهام والكثير من الأسئلة عن هذه المسيرة.
أراد أن يدرس ماهية هذه المسيرة التي كانت محصورة في يومٍ من الأيّام في منطقة محدّدة في صعدة والقادمة بقوة إلى صنعاء وربما إلى اليمن، وأرادها دراسة علمية بحثية تتسق مع أُسلُـوب البحث العلمي ومعطياته ومنهجية البحث العلمي المتسمة بالتحليل المنطقي، فنسق مع صديق له للزيارة إلى صعدة وفيها تفاجأ بالحقائق الصادمة التي شاهدها رأي العين، وانتقل إلى مران وزار القشلة وشاهد ذلك الخراب والدمار وسمع القصص والحكايات الملحمية حين زار قبر الشهيد القائد، فبدأ يتأمل في صاحب هذا المشروع القرآني ولماذا حورب هذا العالم الرباني وهذا المشروع الروحاني؟
وبعد عودته إلى صنعاء قبل أن يذهب إلى المنزل عرج على مكتبة الرسول الأعظم لشراء ما أمكن شراؤه من الملازم، وَلفت انتباهه ملازم “خطر دخول أمريكا” “الإرهاب والسلام” “الهُــوِيَّة الإيمَـانية” وشاهد دروساً في معرفة الله، وظن للوهلة الأولى أن الشهيد القائد خصصها لناس من البدو بل لناس لم يدخلوا الإسلام بعد، وَقام بشراء الأخريات لكن البائع أعطاه ملزمة معرفة الله هدية مجانية، فأخذه الفضول للبدء فيها والتمعن في قراءتها وعاد ذلك مرات حتى خرج بمقولته: “لم أكن أعرف الله حتى قراءتها”.
وبات من ذلك التاريخ لا ينظر إلى الأشياء إلَّا وفق المنظور القرآني، وكان دائماً ما يصرح بالشعور بالندم للفترة التي قضاها في التيه دون اللحاق مبكراً بركب المسيرة.
لقد تعمق أحمد شرف في قراءة الملازم والتدبر فيها، فوجد أنه تأخر عن حركةٍ فكريةٍ جهادية جاءت بمثابة لازمة فطرية لشخصيته المبنية على التقوى والورع، وعلى الشجاعة والشهامة، وَعلى العزة والكرامة، وكأنه وجد ضالته فيها متجسداً أخلاقياتها ومسارها العملي إلى أن جاء العدوان في أول ليلةٍ منه، فحمل بندقيته وخرج إلى الشارع يدعو الناس إلى الجهاد، وإلى حمل السلاح في وجه هذا العدوان، وهذا الطغيان وكان دائم الربط بين الأحداث في الماضي بالحاضر معززاً الروح الجهادية والهُــوِيَّة الإيمَـانية الأصيلة، وكان يشق طريقه الجهادي بنفسه فبدأ عن وسيلة تنقله للمشاركة في إحدى الجبهات، فقيل له: أنت قلت سلاحك القلم، فقال: لا بد من سلاح وقلم لكي تنهض الأُمَّــة.
الكثير من معارف أحمد شرف لم يتوقعوا منه يوماً أن يحمل السلاح، ربما هي مسألة وقت حماسي وطفرةٍ آنية نتيجة الحرب والعدوان، لكنها كانت بداية التحول، ورغم أن الكثير ممن أحبه حاول تثبيطه أَو ثنيه عن ذلك إلَّا أنه كان من السباقين إلى جبهة عدن، حَيثُ استمر أكثر من شهر متغيباً عن البيت ليعود بمعنويات عالية وجهوزية تامة للتحشيد والدعوة للجهاد سواءً من العائلة أَو الحي، وتردّد كَثيراً على جبهات مختلفة وباتت العائلة التي كانت لا تطيق يوماً فراقه أَو تغيبه تتأقلم شيئاً فشيئاً.
المواقف الجهادية للشهيد
انطلق الشهيد أحمد شرف إلى جبهة صرواح بعد أن اشترى بدلته العسكرية والجعبة والمنظار من شارع القيادة من ماله الخاص إلى جانب بندقيته التي ورثها عن والده، قبل أن يتم تكليفه للعمل بالمؤسّسة العامة للاتصالات، كعملٍ جهادي لمدة ستة أشهر، ثم انتقل للجبهة في محاذاة سد مأرب، ووثق بعدسته جرائم العدوان وغاراته الهستيرية على أبناء تلك المناطق وأعيانها وطرقاتها ومشاريعها الحياتية المختلفة.
وفي الوقت الذي كان أحمد شرف قبل التحاقه بركب المسيرة يعاني الكثير من الأمراض كالانزلاق في العمود الفقري والشقيقة النصفية والتهاب الغدد، ولا يذهب مكاناً إلَّا وعلاجه في حوزته، حتى انطلق إلى الجبهة فتلاشت تلك الأمراض وما عاد يستخدم أي نوع من الأدوية، وكان عندما يعود من الجبهة يتجمع الأهل حوله ليحدثهم عن العناية والتأييد الإلهي الذي كان يحظى به المجاهدون أمام هول وضخامة وتأثير أسلحة العدوان وإمْكَاناته التي نزع الله بأسها عنهم وكيف أن مجاميع صغيرة من المجاهدين كانوا يصدون زحوفاً جرارة أَو يهاجمون ألوية بكامل عتادها وعدتها ويحقّقون انتصارات هائلة على الأعداء.
ومع نهاية عام (2015م) تم تكليف أحمد شرف للعمل الجهادي في صنعاء كثقافي ومؤهل ثقافي لما وجد فيه من الاطلاع والوعي والبصيرة وقوة التأثير في إبلاغ الحجّـة، وانطلق على يديه الكثير من أهله بما فيهم ابنه الأكبر أمير الدين، وبني عمومته وشباب حارته وشارعه، وما كان يدخل مجلساً إلَّا وقرأ للحاضرين من ملازم الشهيد القائد، ويقوم بالتحليل والتفنيد لأُطروحات الشهيد القائد بأُسلُـوب علمي شيق جذب أسماع الكثيرين وشدهم نحوها.
وكان عندما يعود ابنه أمير الدين في أوقات الإجازة إلى البيت يأخذه جانباً ليحثه عن الانتصارات وعما صارت عليه الجبهات ويسأل عن فلان ويستبشر أن سمع فلاناً استشهد بالقول: “هنيئاً له الشهادة”، سائلاً الله أن يلحقه به، وَلم يستقر به الوضع في المكوث في صنعاء؛ كونه يدرك أن الله فضّل المجاهدين على القاعدين درجة، ودون سابق تنسيق مع قيادته قرّر الانتقال إلى الجبهة.
اقترض عشرين ألفاً وأخذ عدته وعتاده العسكري وطلب من أخيه أن يوصله إلى الفرزة، وحاولت أمه وزوجته التأثير على قراره بحجّـة أن ابنه في الجبهة ومن سيقوم بهم؟ وكيف سيتركهم دون عائل؟ فقال كلمته: “من كان يرزقكم في وجودي هو نفسه من سيرزقكم في غيابي”، وانطلق قاصداً صعدة.
نزل صعدة ومنها إلى ضحيان، حَيثُ واجه ممانعة، فهذا الرجل لا يعرفه المجاهدون وجاء بدون تنسيق ويريد الدخول إلى الجبهة وهم لا يعلمون عنه شيئاً، وَأرسل رسالة للمشرف المباشر له والذي في صنعاء مفادها: “اسألك بالنور الذي بيني وبينك ألَّا تعيق سيري إلى رضوان الله”، فتواصل المشرف بالقادة الميدانيين وعرفهم عليه وأوصاهم به، فانتقل في دورة عسكرية قصيرة كان فيها من المتفوقين، ثم خضع لدورة ثقافية أصبح فيها هو المؤهل بما امتلك من ثقافة قرآنية فتمسك الجميع به، إلى أن جاء أحد القادة الميدانيين يطلب سبعة أفراد تعزيزاً للدخول إلى محور جيزان، فكان أحمد شرف أول الصاعدين على متن الطقم العسكري رافضاً النزول، واستسلم الجميع لرغبته وسط الإلحاح الشديد المعزز بأُسلُـوب الإقناع الفريد.
قصة استشهاده
وصل -رحمه الله- محور جيزان إلى تبةٍ قبالة جبل الدود، ليصبح هو قائد الفريق لكبر سنه وخبرته في مجال التخطيط والطبوغرافيا والعمل على الخرائط وتحديد المسافات، وبعد ثلاثة أَيَّـام من تجهيز الخنادق واعتماد أساليب الإخفاء والتمويه تحديداً يوم بتاريخ (20/10/2016م) عند الساعة السابعة مساءً بدأ الطيران السعوديّ تمشيط المنطقة وترمي حمولاتها المتعددة في الأرجاء فما من شيءٍ يتحَرّك إلَّا وناله نصيب من حمولتها.
هدأت الغارات الجوية، واقتربت أصوات محركات الدبابات السعوديّة والعربات وبدأت الخوذ تتحَرّك في الخنادق، وبدأ الزحف صعوداً نحو المجاهدين، فخرجوا من بين أكوام التراب كأنهم زروع نبتت فجأة، بل قبورٌ بُعثت في اللحظة، رصاصاتها المنطلقة صوب الجمع الزاحف تخترق الصدور وتقتلع الرؤوس، فتساقطت أفئدة الأعداء قبل جثثهم من هول ما رأوا من مهابةٍ وإقدام وشجاعة، فطفقوا هاربين شاردين، بعرباتهم ودباباتهم منزوعة البأس مخلفين وراءهم جثث القتلى والجرحى، وحتى وقتٍ متأخرٍ من الليل لا يزال المجاهدون يسمعون صرخات استغاثة تنطلق من أسفل منهم لمرتزِقة فاتهم الركب الهارب دون أن يعيرهم أدنى احترام لأدميتهم.
لم يتحمل أحمد شرف السماع أكثر لتلك المستغيثة حتى وإن كانت من عدوٍ كان قبل دقائق يسعى حثيثاً لقتله، لم يتحمل فتطوع بالنزول للبحث عن الناجين وإسعافهم، وصل وانضم إليه ثلاثة أفراد وصلوا إلى مصادر الصوت واستطاعوا انتشال ثمانية أفراد من قوات الأعداء وأوصلوهم إلى الموقع لتلقي الإسعافات الأولية، ثم تريثوا قليلًا علهم يسمعون صوتاً آخراً، وبالفعل كان هناك نشيجٌ حزين يصدر من بعيد تطوع الشهيد لإحضاره، ووصل منتصف الطريق جاءت الرسائل الصوتية عبر اللاسلكي بعودة الطيران مجدّدًا رفاقه ينادون: “ارجع إلى هُنا”، ولكن الطيران بات قريباً ربما سيكتشف الموقع، فقرّر التمويه على الطائرة المعادية بالاتّجاه نحو مكانٍ يخلو من المجاهدين، والطيران يرصده بعد أن توقف في نقطة معينة، جاءت الغارة الأولى بصاروخ، ينادونه رفاقه بالجهاز وهو يجيب ضاحكاً، متحريًّا لهم ألَّا تصدر منهم أية حركة فيكتشف موقعهم، ثم يبتعد أكثر لتتابعه طائرةً أُخرى بصاروخين أطفأت جهازه اللاسلكي نهائيًّا، ومع بداية الخيوط الأولى للفجر انسحبت المجموعة مع الأسرى الجرحى لعدد ثمانية من جنسيات مختلفة، وَلم يكن أحمد شرف يعلم أن من ضمن الجرحى الذين أصر على انتشالهم قبل ضرب الطيران سعوديّ سيشفى ويعود ليقاتل في صفوف المجاهدين.
وفي الصباح تطوع أربعة من المجاهدين في مهمة البحث عن جثة الشهيد أحمد شرف، الذي باع الدنيا وطموحه الدنيوي وتحول إلى السعي وراء طموحه الأُخروي، وهو نيل الشهادة في سبيل الله، وحتى ظهر ذلك اليوم في البحث والتحري حتى عن أثر لم يجدوا شيئاً، وتم إبلاغ القيادة المباشرة التي اعتقدت أن الغارة أصابته مباشرةً.
تم إعلان العائلة وتم إقامة صلاة الجنازة (جنازة الغائب) عليه ومراسيم العزاء، ومر شهران كاملان على العائلة ولا يزال الحزن على فراق الشهيد من ناحية وعلى عدم التيقن من استشهاده من ناحيةٍ أُخرى، وَفي الأثناء كان المجاهدون قد سيطروا فعلياً على تلك المنطقة وباشرت فرق الهندسة بنزع الألغام منها، وعند نقطة معينة بدأ جهاز الفحص يظهر للمهندس إشارة ما حفر قليلًا فإذا بها بدلة عسكرية أراد تفعيلها له، فتابع الحفر حتى أخرج جثة الشهيد أحمد شرف وكأنه يأخذ قيلولة في ذلك النهار رغم فترة الشهرين، إلَّا أنه بدا ضامراً وكأنه فارق الحياة قبل يومين فقط وبحوزته بندقيته الشخصية وبندقية أحد رفاقه الذي جرح فحملها عنه.
تم إبلاغ القيادة وتم أخذ الجثة إلى صنعا، وَكان الطبيب الشرعي قد أكّـد أنه فارق الحياة قبل شهرين لكن العجيب كيف احتفظت الأرض بالجثة من التحلل، وتم إعلام العائلة وابنه الأكبر أمير الدين بالنبأ فغمر البيت فرحةً وسعادةً لا توصف.. كيف لا؟ فهذا هو الشهيد المجاهد أحمد شرف الدين صالح المهدي الذي صدق مع الله.. فصدقه الله.. واحتضنته ملائكة الأرض جسداً كما احتضنته ملائكة السماء روحاً.. فسلام من الله عليه وعلى سائر الشهداء العظماء.