عطاءُ الشهداء.. ديونٌ لا تُسَدَّد.. بقلم/ محمد يحيى الضلعي
يمكنُ للإنسان أن يرُدَّ الدَّين مهما بلغ ويمكن أن يَرُدَّ الجميل أَيْـضاً بجميلٍ أكبرَ، لكن الحيرةَ عندما تقفُ أمامَ دُيُونٍ يصعُبُ تسديدَها وأمام رجال تعجز حائراً عن الوصف أَو ذكر ما يستحقونه من قول، فتعود حاملاً خيبتك مستسلماً لا تجد سوى الإيمَـان بما قدموه كعظمةٍ ليس بعدها عظمة والمضي على دربهم والاهتمام بذويهم والسعي لنيل جائزتهم حتى نكون دائنين لا مدينين.
فالشهداء قصةٌ لا يكتمل فيها السرد ولا تكفي مجمع روايات لتحوي الوصف، عظماء بكل ما تحمل الكلمة من معنى لا شيء يعادل عطائهم ولا مقام يصل لمستواهم، ففضلهم كبير وعطائهم عظيم وهم ليسوا مُجَـرّد قصة أَو رقم أَو قيمة يمكن قياسها فعطائهم وواقعهم أبعد من ذَلك بكثير، فقد ينفق المنفق أي شيء وبأعلى قيمة لكنه لا يصل إلى عطائهم وقيمة تضحيتهم، قد نوضح ذلك في معنى أنك تنفق مالك كله أَو نصفه لكن المعنى الأكبر والعطاء الأعظم هو أن تعطي نفسك في سبيل الله وما تملك تاركاً كُـلّ شيء خلف ظهرك ليس لشيء بل لوجه الله وفي سبيله فعن أي عطاء تتحدثون؟
قد يجعلك الشهيد في مربعٍ ضيق أعجز من بعده في التضحية والفداء فماذا تقول وماذا تعمل وماذا تصف نفسك وماذا قدمت حتى تبرهن بنفسك أن تكون بالمستوى الذي وصلوا إليه في طريق سبيل الله مجاهداً طامحاً في شهادةٍ برفقة الأنبياء والصالحين والشهداء.
لقد كان الشهداء مجاهدين عُظماءَ زهدوا عن كَثيرٍ من ملذات الحياة وتجاوزوا كُـلّ المطامع والشهوات وحب الدنيا وتركوا الزوجات والأولاد غير نادمين أَو جاحدين بنعم الله عليهم بالتوفيق بالشهادة التي بها استمدوا الكرامة وعشنا معنى الكرامة نتيجة تضحياتهم، فغمروا تراب الأرض بالدم فأنبتت هذه الأرض عزةً وكرامةً وإباءً وأنفةً ومجداً لا يغرب أبداً مادام هناك عظماء سقطوا لأجل هذه القيم العظيمة.
تدنس الأرض وتدنس الأعراض عندما تخلو الأوطان من مقامات الشهداء وروضاتهم، وتقدس الأوطان وتعتبر أرضاً مقدسة تخلو من الوصاية والاحتلال والاستعمار عندما تكون التضحية بدماء الشهداء الزكية والمعاني والمقامات والدروس التي قدموها في سبيل العزة والكرامة، وسنحتفل بذكرى العظماء وبأسبوع الشهيد وذكرى التحرير وبيوم الشهيد ولنا بذَلك فخراً لا يوصف ولا ينتهي.
روضات الشهداء هي معنى مجد للذكرى ورسالة ووصية للأجيال بالحفاظ على المنجزات في سبيل الحرية والنصر، فامضوا على دربهم وقصوا القصص للأجيال ماذا قدم آبائكم وأجدادكم وأخبروهم أن الخيار هو بالحفاظ على المكتسب ولا قبول لضياع القضية التي دفعنا فيها ثمناً غالياً من خيرة أبنائنا.
اختصرنا الطريق بالعبور للمربع المراد الوصول إليه وكلفنا ذَلك كَثيراً، كلفنا ذلك دماءً زكية فحصلنا على بطاقة النصر واستشعرنا معنى التحرير من العبودية والوصاية وكل ذلك ثمار التضحية التي قدمها الشهداء وبما أن الرجوع للخلف ليس سهلاً فنحن قدمنا ما لم يقدمه غيرنا نحن دفعنا ثمناً باهظاً ويصعب على الآخرين تسديد الثمن.
استشعرنا في واقعنا ثمار تضحيات الشهداء وأدركنا المعاني الواقعية في حياتنا وأننا نعيش برغدٍ وحرية نظير تضحياتهم التي قدموها لأجلنا، والسؤال ماذا علينا تجاه الشهداء ولو البسيط كرد جميل واجبٍ ولا خيار آخر غير ذلك، ماذا علينا تجاه أسر الشهداء وذويهم، إلا أن نقف اليوم قيادةً وحكومةً وشعباً وأفراداً برد الجميل لأبناء وذوي الشهداء كدينٍ في رقابنا عليهم الذي لو نقف ألف عام لما استطعنا أن نفيهم حقهم.
إنا على العهد يا أصدق القوم، على العهد يا رموز النصر وصناعه، لقد مزجت هذه الأرض ترابها بدمائكم لتصنع منه راية النصر والكرامة، وتعبر فوق أشلائكم إلى بر الأمان وشاطئ التحرير، فلا عذر لنا إن نسينا، ولا عذر لنا إن تجاهلنا، ولا عذر لنا إن تراجعنا، معكم وإليكم وكل أسرة في حدقات أعيننا قبل أسرنا، فطوبى لكم وهنيئاً هذا التكريم العظيم، وسنمضي لنيل ما نلتموه إن أراد لنا الله ذلك أَو سنكمل المشوار حتى تحين ساعة الانتصار.
ومن هذا المنبر وصيةً لكل يمني حر، كونوا أوفياء بالعهد المقطوع مع من أوفوا به مبكراً، إياكم والتراجع أَو التهاون فيما قدموه، إن كُـلّ لحظة أمن وكل استقرار وكرامة نعيشها دفع ثمنها أُولئك المؤثرون بدمائهم الطاهرة، فلا خير فينا إن نسينا ولا خير فينا إن تراجعنا، وكل أسرة شهيد هي أسرة كُـلّ يمني لنرد ولو شيئاً مما قدموه رغم استحالة ذلك.