التطوُّعُ والمبادَرةُ في الخطاب القرآني “2” منهجيةُ ذي القرنين.. ريادةٌ وإنجاز..بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
“قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهم سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا”.
يقدِّمُ الخِطابُ القرآني –من خلال البنية السردية السابقة– أسس المنهجية الرائدة، والرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة، الخَاصَّة بكيفية تفعيل القوة الجمعية، وتوحيد وتكثيف الجهود والطاقات الفردية، في إطار العمل الجمعي، ويمكن القول إن ذا القرنين –بما مكَّنه الله من قوة وألهمه من حكمة– قد وضع المرتكزات الرئيسة، لأول مبادرة مجتمعية في التاريخ البشري، حَيثُ ارتبط فعل التمكين وحكمة التوجيه، بالعامل المساعد والمساند والمعين، ممثلاً في القوة الجمعية، في تكامل مذهل وناجح بامتيَاز، بين معطيات التخطيط وآليات التنفيذ، لترتسم أمام المتلقي، مبادرة مجتمعية تكاملية، ناجحة ومتميزة على كافة المستويات.
بالرغم من التمكين الإلهي لذي القرنين، وتهيئة أسباب كُـلّ شيء له، إلَّا أنَّ بذل السبب البشري كان ضرورياً ولازماً ولا بد منه، ولذلك اتبع ذو القرنين سبباً ووسيلة، لتحقيق مقتضى التمكين الكامل؛ ولأنَّ ذا القرنين قد بلغ من التمكين والقدرة والاستطاعة، ما لم يبلغه غيره ولم يتوفر لسواه، لجأ إليه قوم بين السدين –بمجموعهم الكلي –مؤمِّلين في إمْكَاناته –وهو فرد –القدرة على دفع الضرر عنهم، وتحقيق خلاصهم من عواقب فساد يأجوج ومأجوج، ومقابل ذلك سيدفعون له “خرجاً” من أموالهم، كمقابل وأجر لتلك المنفعة والمصلحة، التي سيحقّقها لهم، لكنه أعرض عن ذلك الأجر المادي قائلاً “ما مكَّني فيه ربي خير” من أموالكم، التي وإن كانت وسيلة من وسائل الحياة، وجُزءًا من التمكين الإلهي للبشر، إلَّا أنَّ ذا القرنين علَّمهم أنَّ المال ليس كُـلّ شيء، وهناك تمكين إلهي أكبر وأهم، وهو الإلهام والحكمة واستعمال العقل، فأرشدهم ذو القرنين إلى أهميّة وعظمة العمل الجمعي، وأن قوة الجماعة يجب أن يرافقها العقل والحكمة، حَيثُ قال لهم: “فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا”، ومن خلال استغلاله لقوة المجتمع –بوصفهم الثروة البشرية– استطاع تحقيق حلمهم، وكف أذى وشر يأجوج ومأجوج عنهم، بعد أن تحمَّلوا ذلك الشر والأذى فترة من الزمن، ليكتشفوا بعد ذلك أنَّهم قد بنوا ذلك الحاجز الهائل، بسواعدهم وجهودهم الذاتية، ولم يكن من ذي القرنين إلَّا أن رسمَ الخطة، ووزع الأدوار، ثم وجههم لتنفيذها، وبهذا يمكن القول إن ذا القرنين قد جسَّد ومثَّل معهم، حقيقة التمكين المجتمعي بمفهومه المعاصر، مؤكّـداً أنَّ المجتمعات قوة لا تقهر ولا تعرف المستحيل، وأن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية، التي يعوَّل عليها في تحقيق التنمية الحقيقية، وإنجاز المشاريع التنموية، ومواكبة عجلة التطور والتقدم والازدهار، من خلال استغلال الثروة البشرية والقوة الجمعية، وتظافر الجهود وتكاتفها، وتوجيهها التوجيه السليم، من قبل إدارة حكيمة، ذات معرفة وخبرة في هذا المجال.