الطابورُ الخامس.. بين الماضي والحاضر..بقلم/ عبد القوي السباعي
الطابور الخامس مصطلح متداول في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية والعسكرية، نشأ أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام 1936م، واستمرت ثلاث سنوات، وأول من أطلق هذا التعبير كان اللواء (إميليو مولا) أثناء مؤتمر صحفي مع صحفيين أجانب، حَيثُ سُئل اللواءُ عن أي الطوابير الأربعة التي يتكوّن منها جيشه سيفتح مدريد، عندئذٍ رد اللواء مولا قائلاً: إن هذه ستكون “مهمة الطابور الخامس”، في إشارةٍ ضمنية إلى الجماعات الموالية للقوات الملكية التي كانت تعمل في الخفاء داخل العاصمة.
هذه الكلمات غير المتحفّظة كانت ذريعة لسلسلةٍ طويلةٍ من عمليات القتل والتخريب وإثارة القلاقل داخل العاصمة مدريد، ولم يكتفِ اللواء “مولا” الذي كان قائداً لجيش الشمال في قوات الملك الإسباني “فرانكو”، بذلك التصريح بل قال خلال برنامجاً إذاعياً بعد انتصار القوات الملكية على قوات الثوار الجمهوريين الانقلابية، كما وصفت في عام 1939م: “كان لدينا أربعة طوابير تقدمت باتّجاه مدريد، لكن الطابور الخامس تحَرّك في الوقت المناسب، وبفضله تم إحراز الانتصار”، وسرعان ما شاع هذا التعبير بين الصحفيين، ونُقل إلى اللغات الأُورُوبية الأُخرى بمعنى الطابور الخامس في كُـلّ لغة.
بمعنى أن “فرانكو” عندما هاجمت قواته قوات الجمهورية المحاصرة داخل العاصمة مدريد بأربعة طوابير عسكرية، عمد إلى تشكيل طابور خامس سري داخل المدينة، مؤلف من أنصاره، كانت مهمتهم بث روح الهزيمة واليأس وضعضعة الثقة في نفوس أنصار الجمهورية وزرع الانقسامات وتغذيتها، وذلك عن طريق جملة من الإجراءات منها نشر الشائعات المختلفة فضلاً عن القيام بأعمال تخريبية، إلى أن صار هذا المصطلح يطلق على كُـلّ الحالات المشابهة.
ويصف مصطلح الطابور الخامس مجموعة من الأفراد والجماعات التي تعمل غالبًا على محاصرة الدولة المستهدفة من الداخل، وتعمل لصالح قوى العدوّ وهم إمّا من أُولئك الذين فقدوا مصالحهم أَو الناشطين الطامحين في المناصب المستقبلية والطامعين إلى الثراء أَو ممّن تسلقوا مراكز المسؤولية داخل النظام والدولة ولا يزال ارتباطهم سرياً مع القوى الأجنبية.
والملاحظ أن أنشطة الطابور الخامس قد تأتي بشكلٍ علني أَو سري، وفي بعض الأحيان تقوم هذه المجاميع بمحاولة حشد الناس علناً لمساعدة هجوم خارجي أَو لفرض توجّـه معين، وقد تمتد تأثيرات هذا المصطلح أَيْـضاً إلى الأنشطة التي تنظمها الدولة المستهدفة داخل الجبهة العسكرية، كما يمكن لأنشطة الطابور الخامس السرية أن تنطوي على أعمال تخريبية وتجسس، وتضليل وحشد تعاطف قاصري الوعي وإبراز بعض السلبيات التي يمارسها أصلاً بعض المحسوبين عليه، على أنها جرائم ومظلوميات بحق الشعب، وعادةً ما يتساوق معها ويُنفذها مؤيدو وعملاء القوى الخارجية ضمن خطوط الاستهداف بكل حرفية.
في العصر الحديث شكّل هذا المصطلح سمة من السمات المتميزة، ومن أهم أبجديات وبرامج الحروب النفسية التي وجهتها أمريكا والإمبريالية الغربية عُمُـومًا، سواءً قبل غزوها لأفغانستان والعراق، أَو تلك التي لا تزال تستخدمها في مواجهة كُـلّ الأنظمة المناهضة لهيمنتها، بدءًا بروسيا والصين وإيران وانتهاءً بسوريا وفلسطين ولبنان.
ولا يختلف اثنان أن قوى العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي الصهيوني وعلى مدى السنوات الماضية، كانت ولا تزال تستفيد من مصطلح الطابور الخامس، بل وتجسدهُ واقعاً مواكباً لكل أعمالها وبرامجها وعملياتها الحربية والنفسية، على اليمن (الأرض والإنسان)، فعلى الرغم من كُـلّ التوجّـهات في الآونة الأخيرة نحو تعزيز الهدنة الأممية، إلا أن قوى العدوان تمارس نشاطها هذا والمعروف بها حكراً.
إن الحرب النفسية اليوم والتي توجّـهُها أمريكا وعملاؤها في المنطقة، نحو اليمن مهمتها الأَسَاسية وهدفها الرئيس هو فرض إرادتها على الإرادَة اليمنية الحرة، والتحكم في أعمالها وتصرفاتها في الميدان، بطرقٍ غير العسكرية، ووسائل غير الاقتصادية، بل مواكبة لها، من خلال تنظيم نشاط حربها النفسية وطابورها الخامس، على المدى القصير والبعيد، وبتنوع الاستهداف عبر استخدام الدعاية الاستراتيجية الخَاصَّة ودعاية القتال البيني، ونشر وترويج الأخبار الزائفة الهادفة إلى خداع البسطاء بطرقٍ منظمةٍ ومحكمة، وإشعال النسيج الاجتماعي، وخلخلة الجبهة الداخلية، وتفعيل كُـلّ ما من شأنه أن يعبّد الطريق أمام قواتها وأدواتها وعملائها للسيطرة على كامل الأرض اليمنية واحتلالها ومصادرة قرارها ونهب ثرواتها.