نحوَ استراتيجيةٍ وطنية ثقافية..بقلم/ عبدالرحمن مراد
على الرغم من الأوضاع الصعبة التي يمر بها أبناء الشعب اليمني الأبي، وهي أوضاع أنتجها العدوان والحصار الاقتصادي، وبالرغم من توقف المرتبات إلا أن الشعب اليمني ضرب أروع الأمثلة في الصمود والثبات والتلاحم وتماسك الجبهة الداخلية، واستطاع بإيمانه وبعدالة قضيته مواجهة أعتى الجيوش اعتزازاً بهُــوِيَّته الوطنية اليمنية والإيمَـانية، الأمر الذي أصاب قوى العدوان باليأس والإحباط من تحقيق أي انتصار عسكري يذكر، ولهذا لجأ العدوان وعملائه وأذنابه إلى الحرب الناعمة، لتفكيك الجبهة الداخلية والنيل من تلاحم وصمود الشعب اليمني، عبر مجموعة من المشاريع الثقافية الهدامة والتي تحمل شعارات براقة وتهدف إلى مسخ وتمزيق الهُــوِيَّة الوطنية.
ولولا المشاريع الثقافية والجهوية لما تمكّن العدوان من احتلال المحافظات الجنوبية، ولما وجد من أبنائها من يعينه ويسانده في مهمته، ولولا المشاريع الثقافية المناطقية والطائفية وَ… إلخ، لما تحولت محافظة تعز إلى ساحة حرب يعبث بأمنها وأبنائها أمراء الحرب.
ولولا المشاريع المشبوهة المعدة والممولة من الأجهزة الاستخباراتية الغربية والمنفذة بأدوات عربية ومحلية لما تمكّن المستعمر من فرض ثنائية الهيمنة والخضوع على المجتمعات العربية والإسلامية في الكثير من البلدان ومنها اليمن وأخص من اليمن المناطق الواقعة تحت سيطرة المستعمر مهما تعددت الأوجه، ولهذا لا بُـدَّ من إطلاق مشروع ثقافي وطني يستوعب كُـلّ مفردات التنوع داخل الهُــوِيَّة الوطنية، ويستوعب كافة الطاقات والإبداعات والمواهب والإمْكَانيات الوطنية، ويلم شتات الموروث الشعبي ويحول دون ضياعه، ويوظف كافة الطاقات الشبابية والإبداعية، ويستوعب القامات الوطنية وأصحاب الرأي ويترجم الرؤية الوطنية لبناء الدولة، والهُــوِيَّة الإيمَـانية التي أطلقها السيد القائد عبدالملك الحوثي-حفظه الله- وذلك عبر مجموعة من البرامج الواقعية والشمولية والهادفة والقادرة على التصدي لمشاريع العدوان المشبوهة، وإثارة وتحريك المشهد الثقافي، واستيعاب المثقفين والكتاب والمبدعين بمختلف مشاربهم وطيفهم السياسي.
ومن أجل تنشيط المشهد الثقافي والسيطرة على موجهاته ومقاليده، وصناعة واقع ثقافي مساند للتوجّـه السياسي الهادف إلى قيم الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية، وفي سبيل إعادة تعريف مفردات الحرية والوطن والوطنية والاستقلال والمساهمة في حَـلّ إشكالاتها يلزم تحريك المياه الراكدة في مجرى المشهد الثقافي الوطني.
ولعل الواقع الثقافي اليمني اليوم أضحى متعثراً؛ بسَببِ الاضطرابات، فالمصطلح الثقافي والأدبي فقد طاقته الدلالية اليوم، وهناك شعور طاغٍ لدى الكثير –وأنا واحد منهم– أن اللغة فقدت طاقتها وقد أخفقت اللغة في استيعاب التطورات التي تحدث قدراً من الانفعال والحركة في الواقع.
فالاضطراب العام وعدم استقرار الحياة أفقد اللغة مصادرها في التعبير فأضحت عاجزة عن فهم طبيعة الحقيقة الخارجية فالأديب ينظر إلى ما وراء الطبيعة لإيجاد منابع للاستقرار والإيمَـان ولذلك أرى أن اللغة أخفقت في استيعاب التطورات المتحقّقة في حقول المعرفة فكل الذي يحدث اليوم طحالب ولنا أن نطوف في شبكة التواصل الاجتماعي لنكتشف مشاهيرهم وننظر في المحتوى الذي يقدم.
فاللغة تواجه خطراً محدقاً وكذلك المجتمع، وأنا أرى أننا لن نصل إلى الاستقرار ولا إلى النظام ولا إلى الثبات إذَا فشل الفنان والأديب من التجرد من محاكاة الأشياء الحية غير المستقرة.
فحين يبدو كُـلّ شيء حولنا في الطبيعة كعنصر مهدّد لنا، وفوضى، نشعر بحاجتنا إلى إقصاء سمات الزوال والتنافر بين الكائنات، فنحن هنا خارج معادلة الفوضى ولا نشعر بالمعنى الحقيقي لوجودنا في طبيعة سماتها الفوضى والفناء.
لكن ما يحدث اليوم هو حركة تعطيل وثبات وموت، وهي مرحلة تتبلد فيها اللغة لكنها ستعود، حدث مثل ذلك قبل عصر النهضة وهو يحدث اليوم، ولا يقظة إلا بتفعيل دور اللغة، وقعنا في عمق الأزمات المعقدة، ولم نستطع حَـلّ قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال، وفكرة تطوير المجتمع، وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال الحركة الثقافية في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أَو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر، وينفعل ويتفاعل، في بيئةٍ اجتماعية وثقافية محدّدة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطى يشارك الأفراد في تكوينه.
ومع هذا التصور الدينامي للثقافة، تكون الهُــوِيَّة بحد ذاتها كجدلٍ إنساني واجتماعي، وتكون في ضوء هذه المقاربة صيرورة تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حَيثُ يتطورون معًا.
ومن هنا تصبح حاجتنا إلى استراتيجية ثقافية من الضرورة بمكان حتى نتمكّن من إدارة معركتنا مع العدوّ في كُـلّ المستويات، والتهاون بهذا الأمر ليس من الحكمة فالمستعمر ينفق أموالاً كثيرة في سبيل تدمير قيم المجتمعات وتعويم المصطلحات والمفاهيم للوصول إلى الشعور بالضياع والتيه.