مكافحةُ الفساد بين الواقع والطموح..بقلم/ د. حبيب الرميمة
مما لا شك فيه أن الفساد هو إحدى العاهات التي تبتلى به الدول، وله مضار كبيرة سواءً ما ينعكس منها على المجتمع مثل ضعف تقديم الخدمات وتنفيذ المشاريع المتعلقة بالبنية التحتية وكذا المتعلقة بالتنمية، والشعور بعدم المساواة في الحصول على الخدمة، وعدم وجود معايير موحدة في التعامل مع الأفراد، ومنها ما ينعكس على الدول (السلطة الحاكمة) منها إهدار المال العام والموارد العامة واستغلال الوظيفة العامة للإثراء غير المشروع، وهو ما يؤدي إلى ضعف الثقة بين الأفراد والدولة (السلطة).
ولأن الدولة في حقيقتها مفهوم معنوي تدار عن طريق مجموعة من السلطات، فهي لا تعود كملك خاص لشخص معين كما هو الحال في الملكية الخَاصَّة (كالشركات التجارية والممتلكات الخَاصَّة) لذلك تعمد الدول إلى إيجاد مجموعة من الأجهزة الرقابية التي تكون مهمتها الحفاظ على المال العام، وتطوير التقنيات التي تهدف إلى سد الثغرات للحد من إهدار المال العام وتطوير النظم المؤسّسية، وفرض العقوبات، بما يعزز من بناء الثقة بين المجتمع والدولة.
لكن هذه الجهود (مكافحة الفساد) في واقع الأمر، ليس كما يتصورها البعض من السهولة القيام بها في وقتٍ قصير، أَو بمُجَـرّد تغيير شخص أَو مجموعة من الأشخاص أَو بمقدار ما يتم إحالة ملفات أشخاص فاسدين إلى النيابة العامة، ولو أن هذا جزء هام من المهمة، إلا أنه ينبغي أن ندرك أن مكافحة الفساد هي منظومة متكاملة ومتطورة، تحتاج إلى توافر عدد من العوامل أبرزها عاملين:-
العامل السياسي: يرتبط أَسَاساً بطبيعة السلطة الحاكمة التي تسيطر على الحكم ومن ثم مدى استقلاليتها وانسجامها ورؤيتها، فمتى ما توافرت تلك الشروط نكون بصدد دولة أَو بمرحلة (الطموح لبناء الدولة) ومتى ما غابت الشروط السابقة أَو بعضها نكون بصدد شبه دولة (سلطة توازنات سياسية أَو سلطة تقاسم نفوذ)، وللأسف الشديد فَـإنَّ بلادنا وخلال عقود من الزمن كانت تحكم بسلطة التوازنات السياسية؛ بسَببِ خضوعها للنفوذ الخارجي الإقليمي والدولي وهو ما أفقدها (الاستقلال السياسي) ومن ثم بروز قوى سياسية متنافرة غير منسجمة الأمر الذي انعكس على الشرط الثالث (سقوط الرؤية أَو ضعفها) -وهذا العامل أشرنا له في دراسةٍ سابقة-.
العامل القانوني: وهو يرتبط بشكلٍ كبير بالعامل السابق، فالتقنين، مجموعة القواعد الإجرائية والموضوعية التي تستند عليها سلطات الدولة عند أدائها لعملها، ابتداءً بالدستور ثم القانون ثم مجموعة اللوائح والقرارات بحسب تراتبيتها المعروفة..
من الإنصاف القول إن العامل السياسي -بشروطه السابقة- بعد ثورة ٢١ سبتمبر تحقّق بوجود الإرادَة السياسية والثورية، وانسجامها بحيث أصبحت معظم التيارات السياسية الوطنية همها الأول والأخير الارتقاء بالوطن بعيدًا عن المهاترات الحزبية المقيتة التي كانت سائدة، وتحت قيادة ومرجعية واحدة وفقاً لمشروعٍ واحد.
يبقى العامل القانوني، وهو بالتأكيد عاملاً يشوبه كثير من الاعتوار، فكثير من المؤسّسات والهيئات تفتقر لبنية التقنيين الملائم، سواءً من حَيثُ إنشائها، أَو من حَيثُ مجموعة اللوائح التي ترتكز عليها، بالإضافة إلى الاختلال المكتسب للهيكل الحكومي القائم كموروثٍ من (سلطة التوازنات السابقة) والتي كان العامل السياسي من خلال التقاسم الحزبي يلعب الدور الأَسَاسي في إنشائها، فيقسم الهدف والمهمة الواحدة بين وزارات متعددة وهيئات وصناديق ومجالس ولجان يضفي عليها قانون إنشائها أَو قرار إنشائها الاستقلالية مع خضوعها لإشراف الوزير أَو مجلس الإدارة والذي عادةً ما يتكون من أكثر من جهة، وهو ما يخلق المماحكات والتشتت في الاختصاص قانوناً ليكون العامل الشخصي (السلطة الإشرافية للوزير) هو المعيار في فرض الاختصاص والرقابة من عدمه هذا من ناحية، والتدخل متى شاء في عمل تلك الهيئات والتنصل من المسؤولية تحت مبرّر استقلالها متى شاء وهو ما يؤثر على عدم تمكين الأجهزة الرقابية من القيام بدورها بالشكل المطلوب مالياً وإدارياً، ويخلق عدم وضوح الرؤية لمخرجاتها، بل ويخلق الازدواجية على مستوى الامتيَازات للكادر الوظيفي في الوزارات، وللهيئات والمؤسّسات، والتشعب في مسميات الإيرادات الذاتية والإيرادات المركزية، والكادر الوظيفي الخاضع لقانون الخدمة العامة، والكادر الوظيفي الخاص وهكذا دواليك.
على سبيل المثال فيما يتعلق بخدمة الدولة في مجال التعليم رغم واحدية الفكرة، نجد تعدد الوزارات وما يندرج تحتها من هيئات وَمجالس وصناديق ولجان مع أن الهيكل الطبيعي والواقعي أن يكون هناك وزارة تسمى (وزارة التربية والتعليم العالي والفني) بحيث تكون مخرجات الرؤية التعليمية الرسمية تدار بمنظومة واحدة، ولها مخرجات واضحة تقوم على استراتيجية تكاملية بما يحقّق جودة التعليم ويتناسب مع مخرجاته، وبما يسهل في دمج هذا الكم من الهيئات والمؤسّسات والصناديق والمجالس في قالبٍ واحد وفقاً لسلطة تراتبية هرمية، وكذلك الحال بالنسبة للإعلام والثقافة والسياحة وما يتبعها من ملاحق، أَيْـضاً المنظومة الرقابية، وكذلك الحال بوزارة الصحة وما يتبعها من هيئات وصناديق ولجان، وقس على ذلك بقية الوحدات الحكومية، ثم يأتي قانون السلطة المحلية وما يشوبه من ازدواج -حاكتها آنذاك سلطة تقاسم النفوذ بشكلٍ متعمد- ليزيد الطين بلة من خلال تنازع الاختصاص بين قوانين الوزارات المركزية وقانون السلطة المحلية.
الخلاصة نحن عندما نرى أن الفساد الحاصل ناتج عن الاستمرار في نفس هيكلية سلطة التوازنات السياسية أَو تقاسم النفوذ ليس تنظيراً وإنما لنا نموذج واقعي وبسيط عندما تخلصت وزارة الداخلية من ذاك الشتات الموروث عن سلطة تقاسم النفوذ، وأعادت هيكلة وحداتها بالدمج لبعض الأجهزة وتحويل بعضها إلى قطاعات تتبع مباشرة الوزير، لمسنا جميعاً ما تحقّقه الدولة في خدمة الأمن، دوناً عن بقية المجالات.
لذلك باعتقادنا إذَا أردنا الانتقال إلى مفهوم الدولة وفقاً للعامل القانوني بما يتماشى مع العامل السياسي بشروطه السابقة، لا بُـدَّ أن نغادر منهجية سلطة تقاسم النفوذ التي أوصلت البلد إلى مَـا هو عليه من شتات الأجهزة الحكومية وتدني في الخدمات وعدم وضوح الرؤية والتنصل من المسؤوليات، وما ترتب عليه من انتشار الفساد الإداري، وضعف في العمل الرقابي.
وإذا كانت الحالة التي تمر بها بلادنا في الوقت الحاضر غير ملائمة لتفعيل العامل القانوني بشكلٍ عام بإعادة هيكلة الوحدات التنظيمية، نتيجة ما تفرضه ظروف العدوان، ينبغي التركيز على تطوير منظومة التقنيين في المؤسّسات، وعلى وجه الخصوص اللوائح، بالاستفادة من المرونة في تعديلها بما يخدم أهدافها وتطوير عملها وتلافي القصور فيها، ومن ثم التمكّن في هذا الظرف الاستثنائي الذي تفرضه دول العدوان والذي كان أحد رهانات شل وإنهاء مؤسّساتها إلى جعل هذا التهديد فرصة لتطوير منظومة التقنين في المؤسّسات، ذلك أن الفساد المالي –حسب اعتقادنا- مَـا هو إلا نتيجة ضعف بنية التقنين داخل المؤسّسات، وخُصُوصاً اللوائح، وهو ما يؤدي الاستفادة من قصور العامل القانوني في إيجاد مخارج لنهب المال العام أَو إهداره، فوجود جهاز إداري سليم حتماً سيؤدي إلى القضاء على كثير من السلبيات والاختلالات مثله مثل الجسد السليم.