“ترند” الهُــوِيَّة اليمنية.. بقلم/ عبدالرحمن مراد
خلال سوالف الأيّام اشتغل الطرف الموالي للمرتزِقة في شبكة التواصل الاجتماعي على مفردة الهُــوِيَّة الوطنية، الموضوع جاء متسقاً مع فراغ يشعر به الطرف الموالي للقوى الخارجية، بعد أن فقد مصالحه، وأشاحت قوى العدوان بوجهها عن الرعاية التي كانت توليها للقوى التي قامت بتأجير أقلامها وأفكارها لصالح قوى العدوان، وكانت تستلم مقابلاً مادياً من السعوديّة ومن الإمارات ومن المنظمات التي تتبع الجهاز الاستخباري الأجنبي.
الموضوع يأتي في سياق رؤية ذات أبعاد استراتيجية في البعد الثقافي، فقد سبق لتلك القوى أن اشتغلت على مدى شهرين متواصلين على ديواني البردوني اللذين أصدرتهما الهيئة العامة للكتاب بصنعاء، ورأت فيهما ترويجاً للمشروع الفارسي عن طريق الرمزية الثقافية للبردوني حسب زعمهم، وقالوا في سياق حملتهم أن البردوني بشر بالحوثيين في محتوى الديوانين، وأن صنعاء دست قصائد تروج للمشروع الفارسي مستغلة في ذلك رمزية البردوني وتأثيره في الثقافة الوطنية، ولذلك حاولوا بكل إصرار نفي نسبة الديوانين للبردوني رغم أصالة الديوانين له، وبرغم أنهم تناقضوا مع أنفسهم، إذ أن معظم الكتابات للكثير ممن خاضوا غمار معركة نسبة الديوانين للبردوني كانت تطالب بالديوانين، وتقول بضرورة طباعتهما، حتى إذَا تمت الطباعة مالوا إلى نفي الديوانين، ومن الغرائب في سياق الحملة أن أحد وزراء الثقافة في عهد النظام السابق أثبت أسماء الديوانين تحت عنوان “تحت الطبع” أثناء قيامه بطباعة الأعمال الكاملة للبردوني عام 2002م، حتى إذَا طبعا سارع إلى نفيهما، ونفى نسبتهما للبردوني بحجج واهية وغير منطقية على الرغم من أن الشواهد تؤكّـد وجود نسخة مخطوطة بيده، وقد شهد بذاك الكثير من الأدباء، والفكرة وفق حركة التتابع لها لم تكن فكرة عفوية بل جاءت وفق هدف استراتيجي واضح، وهو إفراغ أي محتوى إيجابي من مضامينه، حتى تستكمل عناصر الفصل بين الذات الوطنية وموضوعها الثقافي والحضاري.
ولعله من البديهي القول إن الهُــوِيَّة الثقافية، والهُــوِيَّة الحضارية، والهُــوِيَّة التاريخية، قضايا جزئية تصب في قضية كلية هي الهُــوِيَّة اليمنية الجامعة، فالتنوع من سمات المجتمعات الحضارية الحديثة، ولذلك كان الاشتغال على تجزئة الهُــوِيَّات من قبل قوى العدوان؛ بهَدفِ زعزعة الاستقرار النفسي، والامتلاء التاريخي والحضاري، فكان اشتغالهم على سمات بعينها، فقد أخذوا من الهُــوِيَّة الثقافية جانبها الرمزي للبردوني حتى يفقد الإنسان ثقته بحكومة صنعاء وسلطة المجلس السياسي، وأخذوا من الهُــوِيَّة الحضارية بعداً واحداً وهو بعد “الزي الوطني” الذي يحكي الحاضر ولا يمتد عميقاً إلى الجذر التاريخي، وهذا البعد دال على حركة اضطراب الذات بعد حركة عدم الاستقرار التي واكبت اليمن منذ تفجر الحدث الثوري عام 1962م إلى تفجر الثورات في بداية العقد الثاني من الألفية، وكان قد التبس أمر الهُــوِيَّة الوطنية في بداية العقد الأول من الالفية حينها حاول النظام السابق ترميم المتصدع في جدار الهُــوِيَّة الوطنية، عن طريق الاشتغال على مفردة “العلم الوطني” وكان له نشاط محموم في هذا الاتّجاه -فعاليات جماهيرية، ندوات ثقافية، أناشيد وأغاني، خطاب إعلامي مكثّـف… إلخ- إلا أنه كان اشتغالاً سطحياً لم يترك أثراً في السياق العام، وكان من نتائج تفكيك عرى الهُــوِيَّة الوطنية ما شهدته اليمن من أحداث مطلع العقد الثاني من الألفية – 2011م – وما يزال أواره مشتعلاً حتى اللحظة.
اليوم لا نفترض حسن النوايا من وراء هذا الاشتغال الذي يبدو متسعاً عن سابقه –أقصد الاشتغال الذي شهدنا نشاطه في العقد الأول من الألفية وكان من نتائجه الخضوع لمفردات الهيمنة والتحكم في القرار السياسي وتدمير الكثير من الأسلحة من مخازن القوات المسلحة- فقضايا الهُــوِيَّة يشتغل عليها المستعمر حتى يمهد لنفسه فرض ثنائية الخضوع والهيمنة على الشعوب، فالشعوب التي تشعر بفراغ تبحث عن قيم تعويضية، قد تجدها في المال كما يفعل المرتزِقة، وقد تجدها في الشعور بالانتصار على العداوات التاريخية، وقد تبرّر لنفسها حتى تشعر بالقيم المفقودة، ولذلك فالفكرة التي عليها حال “الترند” تمهد لمشروع تفكيك قادم يسعى المستعمر في الوصول إليه، ومواجهة هذا التوجّـه الثقافي لا يكون إلا بالاشتغال على المشترك الوطني الجامع، فالهُــوِيَّة الجزئية قد تخص طرفاً دون آخر، ولكن الهُــوِيَّة الوطنية الكلية تخص كُـلّ اليمن، وقد تعزز من قدرة القرار السياسي حتى يفشل الاستراتيجيات التي تسعى إلى الاستغلال وممارسة الغبن على اليمن، وهذا التوجّـه يخص كُـلّ الطيف الوطني، فالتعدد سمة غالبة اليوم لا يمكن نكرانها وهي فطرة الله في خلقه، إذ لو شاء الله لجعل الخلق كله أُمَّـة واحدة، لكن جعلهم شعوباً وقبائلَ بتعدد ثقافي وشرائعي ومنهاجي متنوع ومتعدد.
لذلك فالعقل الساسي الجزئي في هذه الحالة لا يتسق مع الظاهرة التي تبرز اليوم بشكل مقلق ولافت للنظر ولا بدّ من تفعيل دور المؤسّسة الثقافية الرسمية حتى تتكامل مع غيرها لخوض معركة الهُــوِيَّة بكل أبعادها الثقافية والتاريخية والحضارية، فالأمر الذي نحن عليه غير مستوعب لقضايا الاستهداف ولا بُـدَّ أن نكون على يقظة تامة حتى نتمكّن من إدارة المعركة الثقافية وننتصر، كما أدرنا المعركة العسكرية وانتصرنا.