المبادراتُ المجتمعية في القرآن الكريم..بقلم/ عدنان علي الكبسي
القرآن الكريم ليس كتابًا يختص فقط بالتعليمات الروحية لأداء الصلاة، والعبادة في المساجد، وكيفية أداء مناسك الحج… إلخ، القرآن ليس فقط للقراءة والتلذذ بتلاوته، وليس فقط للتعبد الروحي، بل هو منهاج حياة، هو كتاب شامل بشمولية الحياة، هو نظام لكل شؤون حياتنا، فيه الهداية للبشرية في جميع مجالات الحياة، مهما تشعبت وتقدمت الحياة، مهما اتسعت عمارة الأرض، يظل القرآن أوسع، وأشمل، وأكمل.
القرآن الكريم قدم الكثير من القصص التي حصلت في التاريخ البشري لنأخذ منها الدروس التي نستفيد منها في واقعنا كأمة إسلامية، ولنأخذ العبرة من أُولئك لننتفع بها في حياتنا، وقدم لنا القرآن نماذج راقية في كيفية إصلاح الحياة، ولم يغفل القرآن عن أي شيء يمكن أن يستفيد منه الإنسان في عمارة الأرض وبناء الحياة، فالقرآن فصَّل كُـلّ شيءٍ تفصيلًا {لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُـلّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ}.
القرآن الكريم ركز كَثيراً على العمل الجماعي، على التعاون، على التحَرّك بروحية الفريق الواحد وخَاصَّة في القضايا المهمة، وقل ما تجد أمر من أوامر الله تكون بصيغة فردية، ولكن معظمها بصيغة جماعية، وذلك لأهميّة العمل الجماعي في النهوض بالأمة والارتقاء بها.
فقضية المبادرات المجتمعية قد تدخل في إطار التوجيه الجماعي في مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ}، والمصالح العامة للمجتمع تعتبر من أعمال البر ويجب على الجميع أن يتعاونوا في إقامة أَو إصلاح مصالح عامة ينتفع منها المجتمع.
ولكن هل تجد أنموذجًا للمبادرات المجتمعية في القرآن الكريم؟!، هل هناك أُمَّـة قامت بعمل مشروع كبير يعود مصلحته لتلك الأُمَّــة؟!، هل المصالح العامة والمشاريع الضخمة كانت تمولها جهات مختصة أم كانت بتمويل وعمل وتعاون مجتمعي؟!، وَإذَا كانت في الأمم السابقة مشاريع ضخمة ومهمة لا بُـدَّ أن يذكر الله في القرآن الكريم نموذجًا مثاليًا لمثل تلك المشاريع، ولا بُـدَّ أن يذكر الله كيفية بناء مثل تلك المشاريع، ومن أين تمويلها، وكيف تم العمل فيها.
في سورة مهمة لطالما الجميع يهتم بقراءتها أسبوعيًا، ومن أولويات الكثير أنه لا بُـدَّ أن يقرأ هذه السورة يوم الجمعة، ألا وهي سورة الكهف، وفي الجزء الأخير من سورة الكهف ذكر الله فيها مشروع عظيم أقامه ذو القرنين بتمويل وعمل من المجتمع.
عندما كان ذو القرنين في نزول ميداني وعند وصوله بين السدين وجد هناك قومًا لديهم مشكلة وهم بحاجة إلى حلها بإقامة مشروع عملاق، {ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا، حَتَّىٰٓ إذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا}، وصل، فقالوا: يا ذا القرنين لدينا مشكلة يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، أفسدوا حياتنا ومعايشنا، فهل نجمع لك مالًا كي تعمل لنا مشروع بناء سد بيننا وبينهم؟!، {قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا}.
ماذا قال ذو القرنين؟!، هل قال سنرفع بتقرير إلى الجهات العليا لتعتمد لكم هذا المشروع؟!، هل قال سنبحث عن منظمة تتبنى تمويل هذا المشروع؟!، هل قال بإمْكَاننا أن نراجع الجهات المختصة في دعم هذا المشروع، واصبروا حتى نبحث عن فاعلي خير يدعموا ويمولوا أم ماذا قال؟!، {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا}، طلب منهم العون بأبدانهم وأيديهم وممتلكاتهم ليعمل بينهم وبين أعدائهم ردمًا وهو أكثر من السد. اجتمع الجميع ليعينوّه في بناء السد، وأثناء العمل يخاطبهم {ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِ}، فتعاونوا على جمعه وآتوه، فواصل هو وهم في ردم الحديدَ بعضه على بعض حتى سدَّ ما بين الجبلين وبلغ بناؤه بالحديد رؤوس الصدفين، {حَتَّىٰٓ إذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ الصَّدَفَيۡنِ} طلب منهم أن يلهبوا النار فيه وينفخوا عليه {قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا} فلما التهب النار طلب منهم أن يقدموا النحاس المذاب ليصبه على الحديد، {قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا}، وبعد بناء هذا المشروع العظيم لم يستطع قوم يأجوج ومأجوج أن يعتلوه لارتفاعه وتمام ردمه، ولم يستطيعوا أن يثقبوه لقوته وصلابته {فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا}، وهنا يقول ذو القرنين: بتعاونكم ومساهمتكم ومبادرتكم تجلت رحمة الله في إنجاز هذا المشروع العظيم بأيديكم حتى لا يتمنن به أحد عليكم، {قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا}.
فذو القرنين قام بتفعيل المجتمع نفسه ليتبنى المبادرة المجتمعية في إقامة هذا المشروع العظيم، وتحَرّك وطلب منهم العون {فَأَعِينُونِي}، وطلب معداتهم {ءَاتُونِي}، وطلبهم النفخ {ٱنفُخُواْ}، وطلبهم النحاس المذاب {ءَاتُونِيٓ}، وبتعاون ومساهمة المجتمع أقام المشروع العملاق، بلا دعم خارجي، ولا تمويل حكومي، ولا قرض من صندوق النقد الدولي، ولا مساعدة المنظمات.