صواريخ الفصائل.. سرديةُ المقاومة تهزمُ سردية الكيان المحتلّ ميدانيًّا وإعلاميًّا.. بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
كانت معركة “سيف القدس” نقطة التحول الكبرى، في مسار جهود ونضال وتضحيات المقاومة والشعب الفلسطيني، حَيثُ تحولت وتغيرت طبيعة المواجهة، وطبيعة الفعل المقاوم، الذي انتقل من المواجهات المحدودة، والردود البسيطة والتضحيات الجسيمة، بين يدي آلة القتل والتدمير الصهيونية، وكان الشعب الفلسطيني يدفع ثمن كُـلّ رد فعل مقاوم، الغالي والنفيس من أرواح أبنائه ومن نطاقه الجغرافي، وأراضيه ومدنه وقراه، لصالح كيان الاحتلال الغاصب، لتضاف إلى رصيد مستوطناته السرطانية، المنتشرة على جسد الأراضي الفلسطينية المحتلّة، غير أن معركة “سيف القدس”، قلبت الموازين، ووضعت معادلات جديدة للمواجهة والمقاومة، أرغمت قيادة الكيان الصهيوني، على الخضوع والاستسلام، أمام صمود غزة والمقاومة، التي كسرت جحافله الغازية، وترسانته العسكرية بحجمها وتقنياتها، ولم تحل مجازره الوحشية بحق المدنيين الأبرياء، دون توجيه أقسى الضربات الصاروخية المؤلمة، إلى عمقه الاستراتيجي الحيوي، وإصابته إصابات قاتلة، أجبرته على الخضوع لهدنة بشروط المقاومة، ورغم ما خلَّفته صواريخ طيران الاحتلال، من موت ودمار وإجرام لا متناهٍ، في قطاع غزة، إلا أن الفعل المقاوم -في صيغتيه الفردي والجماعي- لم يتوقف مطلقاً، بل يمكن القول إنه اتخذ مساراً تصاعدياً، ما بين عمليات دهس وطعن واستهداف نقاط أمنية، وُصُـولاً إلى عمليات “عرين الأسود”، التي مثلت إضافة نوعية وقوة كبيرة، في رصيد وجسد المقاومة الفلسطينية، حتى أنها أصبحت الرقم الصعب والتهديد الأكبر، لكيان الاحتلال الصهيوني، الذي وضعها على قائمة أولوياته، وسعى للقضاء عليها واجتثاثها مطلقاً، بكل ما لديه من إمْكَانيات عسكرية واستخباراتية، ولكنه عجز عن ذلك، وفشل فشلاً ذريعاً.
بدأت أُسطورة الجيش الذي لا يقهر، تتهاوى وتترنح عند أقدام مخيم جنين، على أيدي أبطال “عرين الأسود”، وغيرهم من أبطال المقاومة، على أكثر من صعيد جغرافي، الأمر الذي كان له انعكاساته وتداعياته، في الداخل الإسرائيلي، على كافة المستويات والأصعدة، وإن كان الصعيد السياسي أكثرها حضوراً واحتداماً، بما انطوى عليه من أزمات سياسية تراكمية متصاعدة، وصراعات بين أجنحة وأطراف حكومة الكيان الغاصب، التي استمرت في التفاعل والغليان، رغم تبادل الأدوار والتمثيل السياسي للحكومة الغاصبة، حَيثُ عجز الخلف عن اجتراح مسار سياسي عام، ينقذ الوضع من مخاطر أزماته، التي خلَّفها السلف، وأوشكت على الانفجار، ونظراً لذلك الكم الهائل، من الهزائم المخزية المتوالية، التي أسقطت أُسطورة الهيمنة الصهيونية، وجيشها الذي تعود على اجتياح العواصم العربية، والبلدات الفلسطينية دون تضحيات تذكر، ولهذا الأمر تداعياته الكبيرة عالية الخطورة، التي تمس وجود وكينونة الكيان الصهيوني، وتنذر بزواله الوظيفي في المنطقة العربية، وبالتالي فقدان القوى الاستعمارية الكبرى، ربيبتها في تموضعها الوظيفي المهيمن؛ بهَدفِ ابتزاز وسرقة ونهب وتدجين الشعوب العربية، وتمكين الهيمنة الإمبريالية من رقاب الشعوب المستضعفة، ولذلك سرعان ما لجأ هذا الكيان إلى القيام بتحديد تموضعه الجديد، وقياس مدى إمْكَانية استمراره في ممارسة دور التسلط والهيمنة، من خلال استفزاز مشاعر المسلمين، باقتحام المسجد الأقصى، في شهر رمضان الكريم، وتمكين المستوطنين من تدنيسه، والاعتداء المتكرّر على المعتكفين والمرابطين فيه، والإعلان عن عزم الكيان تلبية طلب مستوطنيه، إخلاء المسجد الأقصى؛ ليتمكّنوا من إقامة طقوسهم التلمودية داخله، وقد تزامن ذلك مع العشر الأواخر من رمضان، وآخر جمعة فيه؛ كونها خَاصَّة بإحياء يوم القدس العالمي، وهنا كان الاختبار الحقيقي، لجميع مكونات محور المقاومة، ومدى التحامها وتماهيها، مع فصائل المقاومة الفلسطينية في الداخل؛ حَيثُ ردت مجتمعةً بصليات رمزية من الصواريخ، التي استهدفت عمق الكيان الصهيوني الغاصب، في رسالة مفادها أن المقدسات عامة، والمسجد الأقصى خَاصَّة، خط أحمر، وأن المقاومة كُـلّ لا يتجزأ، حاضرة للتدخل والرد والردع، وأن زمن الاستفراد بفصيل أَو مكون ينتمي إلى المقاومة، سيكون جوابه بلسان وفعل كُـلّ المحور، وبهذا تحقّق السقوط الثاني، لهيمنة وغطرسة الكيان الصهيوني، الذي لجأ إلى تسويق هيمنة زائفة، واصطناع نصر إعلامي وهمي، من خلال قيامه بضربات انتقامية، استهدفت أراض خالية في جنوب لبنان والجولان، وتوجيه ضربات محدودة في قطاع غزة، ليقوم الوسطاء بالتدخل لإيقاف سيل الهزائم، عن هذا الكيان الصهيوني المحتلّ.
يبدو أن الكيان الصهيوني، لم يستوعب رسائل رد المقاومة الموحد، وكأنه يريد مزيداً من التأكيد، لذلك لجأ إلى سلوك الاستفزاز مرة ثانية، من خلال استراتيجية اغتيال قادة المقاومة، من حركة الجهاد الإسلامي، محاولاً عزلها عن محيطها المحلي والإقليمي، واستراتيجية اغتيال وتصفية القادة، هي سلوك إجرامي متأصل في شخصية الصهيوني الغاصب، تعكس غباء وحمق وفشل السياسة الإسرائيلية، التي يوحدها خبث النفوس، وهمجية العقول وتوحش القلوب، بوصفه منهجاً عاماً، يمثل عمق تكوين الشخصية اليهودية، عبر التاريخ، الحافل بعمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية، التي قام بها اليهود، سواءً على المستوى الفردي/الجمعي الشعبي، أَو على المستوى الرسمي الحكومي، رغم عدم جدواها، في إخماد أصوات المقاومة، أَو إضعاف فصائلها، أَو ثني أفرادها عن فعلهم التصعيدي المقاوم، أَو حرف مسارهم التحرّري؛ لأَنَّ المقاومة أكبر من الشخصنة، وفوق المسميات والمراتب الوظيفية، وَإذَا كان القادة بالأمس أفراداً، فقد أصبحوا اليوم أجيالاً، تتوهج بحس القيادة والتضحيات، وما من عرق أَو جنس أَو طائفة، يتعرض لعمليات إبادة جماعية، فَــإنَّه يصبح أعمق تجذراً، وأقوى نسغاً، وأنمى انتشاراً، وأخصب تناسلاً، وأكثر حضوراً وعدداً واستمراراً.
لم تنجح سياسة الاستفراد، ولا استراتيجية الاغتيال الصهيونية، وهو ما أثبته رد فصائل المقاومة الفلسطينية، الذي باركته دول محور المقاومة، وأكّـدت وقوفها إلى جانب المقاومة الفلسطينية، واستعدادها للتدخل، متى ما رأت ضرورة لذلك، وقد كان رد فصائل المقاومة، بمثابة صفعات مدوية، وضربات مزلزلة أسقطت ما تبقى من وهم القوة والغطرسة، ومرغت عنجهية قادة الكيان، في مستنقعات الخزي والهزيمة، وأجبرت قطعان المستوطنين على ملازمة الملاجئ، وشلت بصليات صواريخها الحياة في مستوطنات غلاف غزة، وأوقفت الملاحة في مطار بن غوريون، واستهدفت عدداً من المواقع الاستراتيجية والحيوية، في عمق عاصمة الكيان الصهيوني، “تل أبيب”؛ بما تمثله من رمزية سياسية وقومية وأمنية، ما تزال صليات صواريخ فصائل المقاومة، متواصلة تباعاً، متزامنة مع استمرار عمليات القتل والاغتيال، من قبل طيران العدوّ الصهيوني، وبالنظر إلى عملية الرد والردع، التي نفذتها الفصائل بمئات الصواريخ الباليستية، متعددة المديات، حَيثُ تم في اليوم الأول فقط، إطلاق حوالى خمسمِئة صاروخ، على أهداف حيوية مختلفة، بمسافات متنوعة ما بين قصيرة ومتوسطة وبعيدة، ابتداءً من مستوطنات غلاف غزة، ووُصُـولاً إلى “تل أبيب” وما حولها من المستوطنات، ولهذا الأمر دلالاته الكبيرة والعميقة، في قدرة المقاومة على الرد والردع، وفرض معادلة المواجهة، التي عجز الاحتلال الصهيوني، بكل ما أوتي من قوة، عن كسرها وتحويل مسار المواجهة لصالحه، رغم توحشه وإيغاله في إراقة دماء المدنيين الأبرياء، محاولاً الانتصار لسردية هيمنته، وإثبات وفرض قوته وسلطته مجدّدًا، لكن النصر الساحق، كان هذه المرة، من نصيب سردية فصائل المقاومة، الماثلة في ميدان المواجهة، عسكريًّا وإعلامياً، على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
حملت عمليةُ “ثأر الأحرار“ الكثير من الدلالات والرسائل، التي تؤكّـد في مجملها تناميَ قوة الرد والردع لدى فصائل المقاومة، ووحدتها الوثيقة، في إطار وحدة محور المقاومة، وامتلاك تلك الفصائل مخزوناً استراتيجياً كبيراً، من الصواريخ عالية الدقة، وقدرتها على التصنيع والتطوير، بالإضافة إلى مهارة أبطالها في توجيه الضربات الموجعة، بمهارة واحترافية عالية، كما أن استمرار الرد والردع، على مدى أربعة أَيَّـام متوالية، يعكس التفوق العسكري والاستخباراتي، لفصائل المقاومة، وعجز سلاح الجو الصهيوني، عن حسم المعركة، وإيقاف أَو الحد من وتيرة الرد، وما يروج له من استهداف منصات إطلاق صواريخ هنا أَو هناك، ليست إلا من قبيل الحرب النفسية، وإيهام قطعانه بإنجازات وهمية، وكلما استمر فعل رد المقاومة أكثر، ظهر عجز الكيان الصهيوني، عن تتبعه مكانياً، وقصف منصاته، وهو ما يعني أن الفصائل، تمتلك استراتيجيات عسكرية، لا يمكن أن تبلغها العقلية الصهيونية، وأن لديها قدرة على الانتقال والتخفي، أكبر من أن تحيط بها منصات التجسس والمراقبة، وكذلك الحال بالنسبة للنطاق الجغرافي المستهدف، في مدياته الثلاثة، الذي جعل مستوطنات غزة -في مداها القريب وفي مداها المتوسط- تحت السيطرة النارية المباشرة بنسبة 100 %، بينما وقعت “تل أبيب”، وما حولها من المستوطنات -في مداها البعيد- تحت السيطرة النارية الصاروخية بنسبة 70 %، على أقل تقدير، وذلك بناءً على نوعية الأهداف، ودقة الضربات، وأهميتها الحيوية والاستراتيجية، علاوة على أن استهداف مطار “بن غوريون”، وتعطيل الملاحة الجوية فيه وغيره من المطارات، بما لها من أهميّة حيوية، ورمزية سياسية وسيادية، تعني السقوط التام لمسمى الدولة كياناً ووظيفةً، خَاصَّةً في ظل تعطل كُـلّ مظاهر الحياة، وإفراغ المدن والقرى والمستوطنات، من جموع المستوطنين الغاصبين، إلى ضيق الملاجئ، بوصفها كُـلّ ما يمكن لحكومة الكيان الصهيوني، تقديمه لرعاياها، الذين وعدتهم بمزيد من الأمن والرفاه.
يمكن القول إن عملية الرد والردع، والمعادلة التي فرضتها الفصائل، ما هي إلا عملية تحذيرية فقط، وأن المقاومة الفلسطينية لم تصل إلى مرحلة خوض الحرب المصيرية والمواجهة الحاسمة بعدُ، مقارنةً بما يحمله بنكُ أهدافها، المتنوع حيوياً وجغرافياً، وما تملكه من ترسانة صاروخية دقيقة متطورة، مختلفة المديات والقوة التدميرية، وما لديها من الخبرات في التصنيع العسكري، والقيادات ذات التأهيل العالي، القادرة على إدارة المعركة، في مختلف الأحوال وأصعب الظروف، وما أحدثته عملية الرد والردع تلك، من الذعر والهلع والخوف، في أوساط المستوطنين، وانعكاس ذلك على توقف كُـلّ مظاهر الحياة، للتجمعات السكنية الواقعة ضمن النطاق الجغرافي المستهدف، وتعطيل القدرة العسكرية للكيان الصهيوني، إلا من عربدة الطيران الحربي، على رؤوس المدنيين العزل، وهنا لنا أن نتساءل: هل وعى الكيان الصهيوني حكومةً ومستوطنين، حقيقة الوضع الذي أوصلهم إليه بنيامين نتنياهو بحماقته ورعونته، وهل يدركون ما هي مآلات الاستمرار في عنجهيتهم الفارغة، خَاصَّةً وأن سلاح الجو قد أثبت عجزه وفشله عن حسم المعركة، وما هي تقديراتهم وحلفاؤهم للوضع مستقبلاً، في حال وصول فصائل المقاومة إلى امتلاك أسلحة دفاع جوي، تقطع دابر عربدة الطيران الصهيوني، في سماء أرض فلسطين المحتلّة، وذلك أمر وارد حتماً، بالإضافة إلى جاهزية كُـلّ دول محور المقاومة، للتدخل والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.