الأزمةُ السودانية الراهنة.. من التوقيع على اتّفاق العلاقة مع الكيان الصهيوني إلى الاقتتال! (ح1)
المسيرة – إعداد/ محمد محسن الحوثي:
الأزمةُ السودانيةُ بطبعها ليست وليدةَ اليوم أَو صنيعة الأحداث القائمة، بل لها جذورٌ وأسبابٌ محلية وإقليمية ودولية؛ فالسودان معروف بالانقلابات العسكرية على مدى العقود الأخيرة، تأتي هذه الانقلابات عادة بدعم خارجي؛ لتحقيق مصالح وأغراض ليست ضمن مصالح الشعب السوداني بالضرورة.
تعرض السودان لمؤامرةٍ أَدَّت إلى زعزعة استقراره وانفصال جنوبه الغني بالنفط، بعد حروب طويلة منهكة بدعم غربي وصهيوني، ثم دخل دوامةً جديدةً من الاقتتال الداخلي في دارفور وغيرها من المناطق، التي أفرزت ميليشيات خارجة عن القانون وظّفها نظام البشير لإخماد التمرد في دارفور، ثم استخدمها النظام القائم في قمع المظاهرات المطالِبة بالحكم المدني.
“إذا كنت تظن أن الصراعَ مقتصرٌ على البرهان وَحميدتي فأنت واهم، وإن كنت تعتقد أن الأجندة ستقف عند حدود السودان فأنت غارق في أوهامك، زعزعة السودان ستطال مصر وَالسعوديّة، في مخطّط قذر تُستخدم فيه الإمارات مطيّة لدعم ميليشيات التمرد وإعادة رسم المنطقة بما يخدم الصهيونية العالمية”.
هذه التغريدة للسياسي السوداني تاج السر عثمان ربما تلخِّصُ ما يجري حَـاليًّا في السودان، ولمزيد من تفاصيل الأحداث نقرأ سوياً هذا البحث الذي فيه اعتمد الباحثُ على منهج تحليل الأحداث، وتوجد حلقة مفقودة في البحث تعمد الباحثُ إخفاءَها ليدركها الباحثون والمهتمون علمياً.
أولاً: صفقة –ترامب- القرن: السودان- “إسرائيل” محطات متقاربة!
لقاء عنتيبي/ أوغندا 3 فبراير2020م: قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال حديثه للصحفيين قبيل مغادرته إلى أوغندا في 3 من فبراير2020م: “إسرائيل تعود إلى إفريقيا بشكل كبير، وإفريقيا قد عادت إلى أحضان إسرائيل”، ويجسِّدُ ذلك حجمَ الإنجازات التي حقّقها الكيان المحتلّ في غزو القارة السمراء واختراقها من أكثر من اتّجاه.
وَجاءت الزيارة المهمة التي قام بها رئيس وزراء الكيان المحتلّ لأوغندا لتكلل هذا الجهد الدبلوماسي المكثّـف؛ فالزيارة بجانب أنها جاءت في سياق الترويج لصفقة القرن والبحث عن حلفاء جدد؛ وهو ما يتضح من خلالِ أمرَينِ مهمين على هامشها:
1- لقاء عنتيبي الشهير والمثير للجدل، بين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان.
2- الاتّفاق على تطبيع العلاقات بين البلدين، وهي الخطوة التي يراها البعضُ إنجازاً يُحسَب لرئيس الوزراء الإسرائيلي – المرشح للانتخابات ([1]) – بما يغض الطرف عن اتّهامات الفساد المتورط فيها والتمهيد نحو ولاية جديدة له ([2]).
وسارعت من خلالها تل أبيب إلى الإعلان عن الاجتماع ومخرجاته، نتيجة طبيعية، وربما متوقعة تماماً، لجهود “إسرائيل” المُستمرّة في القرن الأفريقي، ومساعيها إلى اكتمال وإحكام حلقة وجودها هناك، بشمول السودان ضمن دائرة النفوذ والإخضاع.
ويرى باحثون أن لقاء نتنياهو – البرهان عبّد الطريقَ أمام الأخير؛ مِن أجل الانفراد بشؤون الحكم في السودان.. فقد جاء الاجتماع بعد أَيَّـام قليلة من إعلان نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب «صفقة القرن»، التي تعني ضمنياً مشروعاً لتصفية القضية الفلسطينية.. كما عَبّر التوقيتُ عن هيمنة إثيوبية واضحة على ملفات عديدة في مسار المرحلة الانتقالية السودانية، حَيثُ جاء الاجتماع بعد دعوات إثيوبية إلى تطبيع عربي – إسرائيلي، وإن اختُصّت الإمارات بدعوة إلى اجتماع بين نتنياهو وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ينسّقه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
والهدفُ الأهمُّ من “التطبيع” سيكون المساعدة في رفع اسم السودان من “قائمة الدول الراعية للإرهاب”، وضمان مساهمة “إسرائيل” في أيَّة ترتيبات أمنية في البحر الأحمر عبر بوابة السودان، إلى جانب شراكتها المتميزة مع إثيوبيا وإريتريا ([3]).
وبالفعل بدأت تظهر علامات الرضا الأمريكي في يوم اللقاء 3 فبراير 2020م، تلقى “البرهان” دعوةً رسمية لزيارة واشنطن، وعد بتلبيتها في القريب العاجل –وتمت الزيارة- تبعها الإعلان في مستهل مارس 2020م عن تلقي البنك المركزي السوداني إخطاراً بخطاب من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC التابع للحكومة الأمريكية يفيد “بأن القرارات التنفيذية أرقام 13412 و13067 الصادرة في أُكتوبر 2017م أصبحت سارية المفعول وبذلك تنتهي المُقاطعة الأمريكية للسودان رسمياً”، وهي أولى المكافآت الأمريكية/ الصهيونية للعسكرية السودانية في نسختها المزيفة التي وضع أسسها البشير للأسف! ([4])
وضمن التواصل في تغريدة له بتاريخ 24 مايو 2020م “اتصل نتنياهو برئيس مجلس السيادة السوداني/ عبد الفتاح البرهان.. وبحث العلاقة بين البلدين”.. ونوقش موضوع آخر، وهو الوضعُ الصحي للديبلوماسية نجوى قدح الدم (مستشارة في مجالات الطاقة النظيفة)، وتعد واحدةً من أكثر المقربين من الرئيس الأوغندي يوري موسفيني وكبيرة مستشاريه، ونجحت من خلال ذلك، بتحقيق مصالحة تاريخية بينه وبين الرئيس السوداني المعزول عمر البشير؛ ما قاد إلى تطور كبير في العلاقات بين الخرطوم وكمبالا.. لعبت فيه “قدح الدم” دور الوسيط لإصلاح علاقة كمبالا بالخرطوم. ورتبت زيارة شهيرة لموسفيني إلى الخرطوم، حتى أن موسفيني أصر على زيارة منزلها في حي العباسية في مدينة أم درمان والتقى بأسرتها ([5]).
و”قدح الدم” مقرَّبةٌ جِـدًّا من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ومهندسة العلاقات السودانية الإسرائيلية، وكانت كذلك ضمن من حضر اللقاء، والوحيدة التي ظهرت صورها وهي تصافح نتنياهو، ووفقاً لقناة 13 الإسرائيلية “أنه قبل عام ونصف العام، بدأت نجوى قدح الدم بنسج العلاقات السرية التي أَدَّت إلى اللقاء بين نتنياهو والبرهان في 3 فبراير 2020م في عنتيبي في أوغندا”، وصرّح المحامي نيك كاوفمان للقناة “13” أن “قدح الدم دِبلوماسية فذة، ولولا نشاطُها لَما كانت هناك علاقاتٌ بين إسرائيل والسودان”. وكاوفمان كان شريكاً مع قدح الدم بتبادل الرسائل الأولى بين نتنياهو والبرهان ([6]).
وأفَادت القناة 13 الإسرائيلية بأن طائرةً صغيرةً انطلقت صباح الاثنين، من مطار بن غوريون هبطت في مطار الخرطوم، وعلى متنها طاقم طبي من 8 أفراد ومعدات وأدوية لمعالجة كورونا، وَأَيْـضاً مسؤول إسرائيلي كبير مختص بالعلاقات مع السودان، وجاءت بغرض إجلائها من مستشفى “علياء” التابع للسلاح الطبي للعلاج خارجاً، لكن الفريق الطبي اصطدم بتأخر حالتها ([7]).
ووفق القناة، كان من الممكن أن تبقى هذه الرحلة سرية، إلا أن مسارها الاستثنائي التقطته رادارات تطبيقات المراقبة في الإنترنت، ما أثار اهتمام الكثيرين في “إسرائيل” والسودان، وأعلن في العاصمة السودانية الخرطوم الأربعاء 27 مايو 2020م، عن وفاتها؛ بسَببِ إصابتها بفيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” ([8]).
لقاء أبو ظبي:
بعد اتّفاق البحرين-إسرائيل تسربت أخبار عبر وسائل الإعلام أن القادم هو السودان، في تهيئة للرأي العام العربي والإسلامي، وبالفعل بدأت الخطوة الأولى عندما قام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بزيارة للخرطوم في شهر أغسطُس وأثار مسألةَ إقامة السودان علاقات مع إسرائيل، وأبلغه رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك آنذاك بأنه ليس لديه تفويض بذلك، وما هي إلا أَيَّـام معدودة حتى أذاعت وسائل الإعلام عن محادثات بين وفد من القادة السودانيين برئاسة عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ووزير العدل نصر الدين عبد الباري والأمريكيين –نيابة عن الإسرائيليين- في “الإمارات”، استمرت ثلاثة أَيَّـام، واختتمت يوم23سبتمبر2020م، وذكرت وكالة أنباء سونا أن رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وصل بلاده بعد مباحثات وصفها بأنها “اتسمت بالجدية والصراحة”.. وذكرت وسائل إعلام سودانية أن المحادثات “بحثت بشكل مستفيض عدداً من القضايا أهمها:
– رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب
– دعم اقتصاده بمبالغ ضخمة (حسب وسائل الإعلام)!
– بالمقابل “موافقته على التطبيع مع إسرائيل” ([9]).
الهوامش:
[1] حينها والآن هو رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
[2] محمد مهران؛ “اكتمال القرن الأفريقي – الإسرائيلي: خدعة التطبيع توقع بالسودان”، السبت 15 شباط 2020م، نوقع الأخبار، على الرابط:
https://www.al-akhbar.com/Arab/284213/%D8%A7%D9%83%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%84-
[3] رندة عطية؛ “القوى الناعمة.. سلاح “إسرائيل” الفتاك لغزو القارة الإفريقية”، موقع ن بوست 23/02/2020م، على الرابط:
https://www.noonpost.com/content/36060
[4] السفير بلال المصري؛ “سد النهضة الإثيوبي يضع نهاية لمرحلة طويلة من وحدة الأمن المائي المصري – السوداني” موقع صحيفة رأي اليوم، على الرابط:
https://www.raialyoum.com/index.php/%D8%B3%D8%AF-
[5] متابعات جعفر محمد أحمد- موقع الإمارات اليوم؛ “وفاة «قدح الدم» مهندسة لقاء نتنياهو – البرهان بفيروس كورونا”، 28 مايو2020م، على الرابط:
https://www.emaratalyoum.com/politics/international/2020-05-28-1.1354807
[6] موقع الميادين؛ “بعد محاولة “إسرائيل” إسعافها.. وفاة دبلوماسية سودانية بكورونا”، 27مايو2020م، على الرابط:
https://www.almayadeen.net/news/politics/1400857/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-
[7] الأناضول؛ “قناة عبرية: طائرة إسرائيلية حطت بالخرطوم الاثنين لإنقاذ “قدح الدم”، 27 مايو 2020م، على الرابط:
https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-
[8] متابعات جعفر محمد أحمد- موقع الإمارات اليوم؛ “وفاة «قدح الدم» مهندسة لقاء نتنياهو – البرهان بفيروس كورونا”، 28 مايو2020م، على الرابط:
https://www.emaratalyoum.com/politics/international/2020-05-28-1.1354807
[9] روسيا اليوم؛ “ختام محادثات سودانية أمريكية حول “السلام مع إسرائيل” في الإمارات”، 23 سبتمبر 2020م، على الرابط:
https://arabic.rt.com/middle_east/1156784-%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D9%85-