الدرس الأول للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام.
الإثنين 1/ذو الحجة/1444هـ 19/يونيو/2023م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
نبارك لأمتنا الإسلامية عمومًا بمناسبة حلول هذا الشهر المبارك شهر ذي الحجة الحرام، الذي هو من أهم الشهور، وفيه مناسبات دينية متعددة، ففيه تقام فريضة من فرائض الله العظيمة والمهمة، وهي فريضة الحج، التي هي ركن من أركان الإسلام، حيث تؤدى في أيام هذا الشهر المبارك، وفيه أيضًا مناسبة عيد الأضحى، التي هي مناسبة مهمة وعيد مبارك للمسلمين، وهي تخلد ذكرى لدرسٍ عظيم للبشرية في التسليم لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في قصة نبي الله وخليله إبراهيم “عَلَيهِ السَّلَامُ” وابنه نبي الله إسماعيل، في مسألة الذبح، التي وردت في القرآن الكريم، وما فيها من الدروس المهمة، وفيه أيضًا ذكرى يوم الولاية، الذي هو مناسبة مهمة، ويومٌ عظيم فيه كمال الدين وتمام النعمة، ومناسبات أخرى كذلك، لكن هذه أبرز ما في هذا الشهر المبارك.
والعشر الأوَل من شهر ذي الحجة لها فضلها، ووردت بشأنها الأحاديث، التي تحدثت عما فيها من الفضل، وعن مضاعفة الأجر والثواب للعمل فيها، للعمل الصالح، وعن أهمية الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في هذه الأيام، التي سمّاها الله في القرآن الكريم بالمعلومات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}[الحج: 28]، ففي الإكثار من ذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فيها فضل كبير، وأجر عظيم، وأهمية كبيرة، وهي كغيرها من الأيام المباركة، التي يأتي الحث على عبادات معينة فيها، وأذكار معينة، تعتبر محطة تربوية لتزكية النفس الإنسانية، وهي ذات أهمية كبيرة، فالإنسان بحاجة ملحة إلى ما يساعده على تزكية نفسه، كمال الإنسان الإنساني، والإيماني، والأخلاقي، وسمو روحه، مرتبط بالتزكية، يحتاج بشكل مستمر إلى تزكية نفسه، ومن أعظم العطاء الرسالي الذي أتانا من خلال كتب الله ورسله، وأتانا في رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إلينا كبشر: هو جانب التزكية للنفس البشرية، ما يساعدها على الارتقاء والسمو والكمال، فيتحقق للإنسان إنسانيته، بمزاياها ومقوماتها ومؤهلاتها الأخلاقية والتربوية، التي يَشرُفُ بها الإنسان، ويكرُمُ بها الإنسان، ويحقق لنفسه المنزلة العظيمة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بذلك، والشرف الكبير في واقع حياته، وصلاح حياته؛ لأن زكاء النفوس أمر ضروري لاستقرار حياة الإنسان، وصلاح حياة الإنسان، تصرفاته وأعماله وأقواله وأفعاله، نابعة من واقعه النفسي، فإذا زكت نفسه، زكت أعماله، زكت تصرفاته، زكت أقواله، فتحرك زاكيًا في هذه الحياة، صالحًا في هذه الحياة، عنصرًا خيـِّرًا مصلحًا في هذه الحياة، متوازنًا ومستقيمًا في أعماله، في تصرفاته، في مواقفه، فيكون لذلك الأثر الكبير على واقع حياته، فيما يتركه من أثر في الواقع، بمستوى ما يحمله، وبمستوى ما يتمكن من التأثير فيه، وأيضًا فيما له من أثر على مستوى واقعه الشخصي، فهو يؤثر في واقعه العام بمستوى معين، وفي واقعه الشخصي كذلك بمستوى معين.
لهذا الجانب أثره أيضًا على الاستقرار النفسي، والهدوء النفسي، وله أهمية كبيرة في حياة الإنسان وتحمُّلِه للصعوبات والمشاق، ولدوره الراقي والإيجابي في هذه الحياة، فالجانب التربوي، وتزكية النفس: هي من المتطلبات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان، وهي من العطاء المهم والمتميز للرسالة الإلهية: لكتب الله، ورسل الله، والهداة من عباد الله، وهي أيضًا ضرورة وحاجة يحتاج إليها الإنسان، لا سيما في هذا العصر، والبشرية بشكل عام مستهدفة في قيمها الإنسانية، في فطرتها الإنسانية، في أخلاقها الإنسانية، في هذا العصر يتحرك اللوبي اليهودي الصهيوني بكل إمكاناته، بكل قدراته وفي كل مجال، يسعى، وهو يسعى لإفساد النفس البشرية؛ لأنه يرى في إفساد الناس وسيلةً سهلة للسيطرة التامة عليهم، واستعبادهم واستغلالهم، يراها على هذا الأساس، وإلا هو لا يهمه أن يقدم للناس ما قد يتصور أنه يشبع رغباتهم وشهواتهم، ويلبي أهواءهم، ليس بهذا الهدف، هو بهدف الإذلال للإنسان، والاستغلال للإنسان، بعد تدمير زكاء نفسه، بعد تحطيم قيمه الإنسانية، بعد الوصول به إلى حالة سيئة من الانحطاط والرذيلة، والضياع، وانعدام التوازن، وانعدام الحكمة، فيتهيأ لهم السيطرة المباشرة على الإنسان.
ولذلك يتحرك اللوبي الصهيوني اليهودي، ويحرك معه الغرب الكافر، وعلى رأسهم أمريكا، التي حملت راية الفساد، وحملت لواء الرذيلة بشكلٍ علني فاضح، وقبيح ومُخزٍ، الرئيس الأمريكي بنفسه يتحدث عن المثلية، يروِّج لها، ويحاول أن يعممها، وأن يقدم لها الدعم السياسي والدعم القانوني، ويحاول أن يفرضها في بقية البلدان، ومعه الإدارة الأمريكية والمؤسسات الأمريكية، وهكذا بقية الدول الغربية، تتجه في نفس الاتجاه، لمحاولة نشر الرذيلة، والتدمير للأخلاق والقيم، وهذا من أسوأ أشكال الاستهداف للإنسان؛ لأنهم يريدون أن يفرغوه من فطرته، وقيمه الإنسانية، والأخلاقية، والإيمانية، وأن يبعدوه عن الصلة الإيمانية بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وبتعاليمه القيِّمة، التي تُصلح الإنسان، وتصلح حياته، وتحصنه، وتحفظ له منَعَتَه وكرامته الإنسانية، هم لا يريدون أن يبقى للإنسانية كرامة، ولا شرف، ولا قيم عظيمة، ولا أخلاق كريمة، هم يريدون أن ينحطوا بالمجتمع البشري، وأن يصلوا به إلى الحضيض، وأن يسيطروا عليه، بعد أن يدنسوه وأن يفرغوه من كل القيم العظيمة، وأن يتمكنوا من خلال ذلك من الاستعباد التام له والسيطرة التامة عليه.
في هذا السياق، في سياق التركيز على ما يساعد على زكاء النفوس، وما يمكن أن نستفيد منه على مستوى التزكية، وعلى مستوى الحكمة، والبصيرة، والوعي، وعلى مستوى النور والهداية، نقدم دروسًا في مقدمتها مقتطفات من وصية أمير المؤمنين، علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” لابنه الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وقد كتب له وصيته بعد انصرافه من صِفِّين، نحن نورد إن شاء الله في هذه الدروس- في هذه الأيام- مقتطفات من هذه الوصية، للتأمل فيها والاستفادة منها، والانتفاع بها إن شاء الله، نسأل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن ينفعنا وإياكم بالهدى والنور.
هذه الوصية التي نورد منها مقتطفات، هي من أشهر ما سجَّله التاريخ، وما ورد ورُوى وأُثِر عن أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”، فهي وصية شهيرة، اشتهرت جدًا؛ بما تضمنته من الدروس العظيمة، والوصايا القيِّمَة، والحِكَم المفيدة، وتضمنت- فعلًا- ما يفيد الإنسان، ما يضيء له الدرب، تضمنت دروسًا مفيدة جدًا.
الوصية عادةً عندما يوصي الإنسان، وهو في آخر حياته، ويقدم الوصية، فهو يُضَمِّن وصيته ما يمثل أهمية كبيرة عنده، تجاه من يوصي إليه، وتجاه ما يركز عليه هو، باعتبار أنه يرى له أهمية كبيرة، ولذلك فقد ضَمَّن أميرُ المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” وصيته هذه، ضمَّنها الأشياء المهمة، التي يركز عليها، يدرك أهميتها، يعرف كم يحتاج إليها الإنسان، هذا له أهمية بهذا الاعتبار: أنها وصية، ثم الموصي هو من؟ أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”، بما يمتلكه من علم، ونور، وهداية، وبصيرة، وزكاء نفس، وسمو روح، وطهارة، وحكمة، واهتمامات صائبة، أمير المؤمنين الذي قال عنه رسول الله “صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”: ((عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ))، فهو الذي ضَمَّن ما يقدمه من حِكَم، من مواعظ، من نصائح، من توجيهات، ضَمَّنَها من نور القرآن وهداية القرآن؛ لأنه مقترن بالقرآن بشكل دائم، لا يفارق القرآن أبدًا لا في رؤية، ولا في فكرة، ولا في موقف، ولا في قول، ولا في فعل، ولا في توجه، ولا في غير ذلك، وهو الذي قال عنه رسول الله “صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”: ((عليٌّ مع الحق، والحقُّ مع عليّ، يدورُ معهُ حيثُما دار))، فهو يقول الحق، ويقدم الحق فيما يقول، وهو يتبنى الحق دائمًا، ويتحرك على أساس الحق في مواقفه وتوجهاته، وهو من قال عنه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((أنا مدينةُ العِلمِ وعليٌّ بابُها، فمَن أرادَ المدينةَ فليأتِ الباب))، فهو باب عِلم المصطفى “صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، هو الأُذُن الواعية، عندما دعا له الرسول بعد نزول قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة: من آية:12]، قال “صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”: ((سألتُ اللهَ أنْ يجعلَها أُذُنَكَ يا عليّ))، فهو النموذج والمصداق الأول في هذه الأمة للأذن الواعية التي وعت هدى الله، وعت ما قدمه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، الوعي والاستيعاب والفهم الذي تجلى في حكمة أمير المؤمنين، في التزامه، في بصيرته العالية، فيما كان عليه من الهدى والاستقامة، ثم أيضًا بما يمتلكه من تجربة في الحياة، وهو الذي خبرها، وعرف أسرارها، وعاش واقعها بكل ما فيه، عاش مصائبها، معاناتها، آلامها، آمالها، أوجاعها، مشاكلها، همومها، وذاق حلوها ومرها، فهو صاحب تجربة كبيرة جدًا، وبرؤية ثاقبة وعميقة، ولذلك فما قدمه في هذه الوصية هو مفيد جدًا، وعلينا أن نسعى للاستفادة منه.
من هذه الوصية، قال “عَلَيهِ السَّلَامُ”، مخاطبًا لابنه الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وهي وصية لكل الناس يستفيد منها الجميع، ((فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ أَيْ بُنَيَّ))، الضابط الأساس، الذي يضبط مسيرة الإنسان في حياته ومواقفه وأفعاله وتصرفاته بشكل صحيح: هو التقوى، تقوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولذلك فالأمر بالتقوى والحث على التقوى يتصدر النصائح والتوجيهات والتعليمات المهمة، فيكون عادةً في البداية؛ لأهميتها الكبيرة، ولأنها- هكذا- تضبط مسيرة الإنسان بشكل عام، ضابط عام في تصرفات الإنسان، ولمسيرة حياته، فهي تتصدر النصائح، وتكون في البداية، و أيضًا تقترن في كثير من الأحيان مع التوجيهات المهمة، سواءً فيما فيه توجيهات بالأمر، يأمرنا الله به، أو تقترن أحيانًا بالتحذير تجاه ما ينهانا الله عنه، فيأتي مع النهي الأمر بالتقوى، بالتحذير من المخالفة تجاه ذلك النهي، أو هكذا مع الأمر الإلهي؛ لأهمية التقوى وما يترتب عليها.
التقوى هي ثمرة الإيمان، ثمرة الإيمان بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثمرة الإيمان بكتب الله ورسله وأنبيائه وملائكته واليوم الآخر، حيث يبني الإنسان المؤمن تصرفاته، وأقواله، وأفعاله، ومواقفه، على أساس تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأوامره ونواهيه، من واقع إيمانه بخطورة المخالفة لتوجيهات الله وتعليمات الله، وما يترتب على ذلك من عواقب سيئة جدًا على الإنسان، وعلى الحياة من حوله، في الدنيا والآخرة، ومن واقع الإيمان بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي من تأثيراته أنه يدفعك بالتوجه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مذعنًا بعبوديتك له، مؤمنًا به، ومتجهًا لطاعته، وبما يحمله الإيمان من مبادئ ومعانٍ، من التعظيم لله، من المحبة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتسليم لأمره، وبالتالي الالتزام، الالتزام العملي الذي يميز الإنسان المؤمن المتقي لله عن الآخَر، الذي هو فوضوي عشوائي مزاجي، يتحرك في هذه الحياة، في تصـرفاته، في أعماله وفق أهواء نفسه، وفق ميوله، وفق غرائزه، ولا يبني مواقفه على أساس من تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فحالة الانضباط والالتزام في هذه الحياة، تجسد حالة التقوى في مختلف الظروف والأحوال، عند الغضب، عند الرضا، عند الأطماع والأهواء، عند المخاوف، عند الرغبات والطموحات، وفي غير ذلك.
ولأهمية التقوى، أتى الحث عليها كثيرًا في القرآن الكريم، سواءً بشكل منفرد، أو مقترنًا مع غيرها من التوجيهات، وأتى الوعد والوعيد أيضًا في الحديث عنها مرتبطا بها، من ذلك قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18]، ولأهميتها فهي وصية الله للأمم بكلها، الأولين والآخرين، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء: 131].
والنقص في التقوى هو حالة خطيرة، وهي الحالة التي يعاني منها المجتمع المسلم، ما ينتج عن كثير من المخالفات لأوامر الله وتوجيهات الله، من آثار سيئة، من نتائج سيئة، تؤثر على الناس في حياتهم، وفي كل واقعهم، في الواقع السياسي، في الواقع الاقتصادي، في الواقع الأمني، في الواقع المعيشـي، في كل مجالات الحياة، تلك الآثار السيئة، النتائج السيئة، العواقب السيئة، هي ناتجة عن المخالفة لتوجيهات الله وتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الإنسان عندما يخالف أوامر الله وتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو يسبب لنفسه، وللواقع من حوله، النتائج السيئة، الآثار السيئة، انتشار الجرائم في واقع الحياة البشـرية، في واقع المجتمع البشـري، وما يعاني من ذلك، هو يعود إلى المخالفة لتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما يترتب على المعاصي من نقصٍ في البركات، من نقص في الخيرات، ويتسبب به الناس لأنفسهم، نتيجةً لمخالفة توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو نقص في التقوى، ونسبة الالتزام بالتقوى في واقع المسلمين، المسلمين دع عنك بقية البشـر، هي نسبة ضعيفة، بمعنى: الكثير من الناس لا يدركون أهمية التقوى، ولا يبنون مسيرة حياتهم على أساس التقوى، فيوطنون أنفسهم على الالتزام بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في مسيرة حياتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، في تصـرفاتهم، بل الكثير من الناس يخضع في تصـرفاته، في مواقفه، في أعماله، لأهواء نفسه، لمزاجه الشخصـي، للرغبات، فيتصـرف بناءً على ذلك، يتصرف غريزيًا، وكأنه حيوان، ولذلك هي حالة خطيرة جدًا، فالآثار السيئة التي يعاني منها المجتمع المسلم، وتعاني منها البشرية بشكل عام، تعود إلى مخالفة توجيهات الله، فهي نقص في التقوى، فلذلك لم يَقِ الإنسان نفسه، إنما يخالف توجيهات الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
الوعود الإلهية في القرآن الكريم ارتبطت بالتقوى، الوعود في الدنيا، الوعود في الآخرة، ما وعد الله به عباده المتقين في القرآن الكريم، وكذلك قبول العمل، الله يقول في القرآن الكريم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: من الآية 27]، فالعمل الصالح يكون مقبولاً مِن من؟ من المتقين، الجنة لمن أعدها الله، قال في القرآن الكريم:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: من الآية 133]، قال أيضًا: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً}[مريم: 63]، ضمان النجاح والفلاح في هذه الحياة، ولمستقبل الإنسان الأبدي في الآخرة، مرتبط أيضًا بالتقوى، تَحقُّق الثمرة والنتيجة الإيجابية لتعليمات الله، لأوامره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، للانتهاء عن نواهيه، تتحقق للإنسان وللبشرية وللمجتمع الذي يتحرك على أساسها ويلتزم بها: من خلال التقوى؛ لأن كل توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” توجيهات مهمة لنا في هذه الحياة، مهمة للإنسان نفسه، مفيدة للإنسان نفسه، تصلحه، تصلح حياته، لها إيجابية في واقعه النفسي، وفي واقع حياته، لكن كيف تتحقق هذه النتائج؟ من خلال الالتزام، من خلال التقوى، كذلك الانتهاء عن النواهي، تتحقق لذلك ثمرة مهمة جدًا، يكسبها الإنسان، لكن بالتزامه، فالمسألة في غاية الأهمية.
فالتقوى هي تشكل وقاية وحماية للإنسان، ولذلك تصدرت هذه الوصية قبل بقية التوصيات الأخرى: ((فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ أَيْ بُنَيَّ، وَلُزُومِ أَمْرِهِ))، الالتزام المستمر بأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” والامتثال الدائم لأوامر الله وتوجيهاته، في كل الأحوال، في كل الظروف، والبعض من الناس قد يكون ملتزمًا إلى حدٍ ما بأوامر الله وتوجيهات الله، وملازمًا للامتثال لأوامر الله، والطاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكن مثلًا في الحالة التي يعيش فيها في ظروف إيجابية وطبيعية، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ }[الحج: 11]، فالملازمة في كل الأحوال، في حالة الرضا، في حالة الغضب، في حالة الظروف الصعبة، في الظروف المتيسرة، التي تتيسر للإنسان فيها أموره ومتطلبات حياته، في مختلف الأحوال، يحرص الإنسان ويوطن نفسه، على أن يُعظِّم أوامر الله- “جَلَّ شَأنُهُ”- وتوجيهاته، أن يدرك أهميتها، أنها من الله، من ربنا العظيم، من إلهانا، من ملكنا، الذي بيده حياتنا وموتنا، وهو الرزاق، والذي إليه مصيرنا، والذي يحاسبنا ويجازينا، والذي يدبر أمورنا في الدنيا والآخرة، أوامره هي أوامر من منطلق رحمته بنا، من منطلق حكمته أيضًا، وفق حكمته، بما فيه الخير لنا، هو غني عنا، وغني عن أعمالنا، فأوامره مهمة جدًا لنا نحن، وفي نفس الوقت يترتب على المخالفة لها عقوبات؛ لأنها أوامر من الله الملك، ملك الناس، ملك السماوات والأرض، الإله الحق المبين، الذي يحاسبنا، ويجازينا، ولمخالفتها نتائج، وعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.
فالملازمة للامتثال لطاعة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” والالتزام بأوامره وتوجيهاته: هي مسألة أساسية، على الإنسان أن يوطن نفسه على ذلك، وأن يُعلِّم نفسه الإذعان لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولهذا نرى في القرآن الكريم، كيف يُعلِّم اللهُ نبيَّه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، أن يقول وهو يواجه الصد عن سبيل الله من جانب الكافرين والطغاة: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ}، الله أمرني، وأنا مُسَلِّم لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”،{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر : 11]، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ}، هكذا عَلِّم نفسك، أنك عبدٌ لله، عليك أن تلتزم بأمره، وأن تتوجه لتوجيهاته، وأن تبني مسيرة حياتك على أساس ذلك.
((وَعِمَارَةِ قَلبِكَ بِذِكْرِهِ))، القلب في الإنسان هو موقع المشاعر، والتفاعل، والتوجهات، مشاعر الإنسان بمختلف مشاعره، مشاعر المحبة، مشاعر الرضا، مشاعر السخط، مشاعر الرغبة، مشاعر الخوف، كل المشاعر موقعها هو قلب الإنسان، التفاعل والتأثر موقعه في البداية هو القلب، التوجهات والاهتمامات، موقعها في البداية هو القلب، القلب مهم للإنسان جدًا؛ لأنه موقعٌ لمشاعره، لتوجهاته، هو مرتبط بذلك كله، وبصلاحه صلاحُ الإنسان، وبخرابه خراب الإنسان أيضًا، كما ورد في معنى الحديث النبوي: ((في جسد ابن آدمَ بِضعَةٌ إذا صلحت صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب)).
والإنسان في واقعه مع قلبه، هو بين الإعمار والخراب، إما أن يَعُمَر قلبَه، وإما أن يُخِّربَ قلبه. إعمار القلب هو بتنمية المشاعر الإيجابية، والنوايا الصالحة، والدوافع الزاكية، والتوجهات الصحيحة في داخل الإنسان، المشاعر الإيمانية الزاكية، التي جذورها وأساسها موجود بالفطرة أصلًا، الله أودع في فطرة الإنسان تعظيم مكارم الأخلاق، والانسجام معها، والنظرة إليها بإيجابية، وأنها كمال للإنسان، وخير للإنسان، وشرف للإنسان، فعندما تَعمُر، تُنَمِّي في قلبك المشاعر الإيمانية الزاكية، فأنت بهذا تَعمُر قلبك، أو تخرِّب قلبك في الحالة الأخرى، وهي عندما تلوث مشاعرك بالمفاسد، والنوايا السيئة، المشاعر السيئة، التي تفسد نفسيتك، تفسد زكائك، والتي أيضًا يقسو بها قلبك، فلا تتفاعل، ولا تتأثر مع الأمور المهمة التي بفطرتك الإنسانية كنت تتأثر بها، وتتفاعل معها، لكن عندما لوثت قلبك خَرَّبته، وتأثرت على مدى فطرتك، التي كنت تتفاعل من خلالها مع الأمور العظيمة، مع الأمور القَيِّمَة، مع الأشياء المهمة، فعندما تلوث نفسك بالمفاسد، والنوايا السيئة، والمشاعر السيئة، أنت تخرب قلبك.
أهم وأول ما يساعدك على أن تعمر قلبك: هو بذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبالتذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذكر لله بكماله العظيم، الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بكل ما ذكَّرنا به عن نفسه، في كتابه الكريم، في هديه العظيم، على لسان رسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ما أودعه في فطرتنا من ذلك، ما له مصاديق كبيرة في واقع الحياة، تُحيي في قلبك ذلك، له أثره الكبير جدًا، على عمارة القلب، على إحياء المشاعر الوجدانية الراقية الزاكية، المفيدة للإنسان التي تمثل دافعًا نحو الأعمال الصالحة، وتوجهًا نحو الأشياء الصحيحة في واقع الحياة، توجهات صحيحة، مواقف صحيحة، ولهذا ورد في القرآن الكريم قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد : 28]، الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بما ذَكَر به نفسه، وذكَّرنا به عن نفسه، والأذكارِ المهمة، لذلك أثره الكبير في إحياء المشاعر الإيجابية في قلب الإنسان، والتوجهات الصحيحة في قلب الإنسان، فيمثل ذلك دافعًا من نفسه في أعماق قلبه، نحو الأعمال الصالحة، نحو الأعمال الزاكية، نحو التصرفات الصحيحة، نحو الأمور المهمة التي يحتاج إلى دافع نفسـي لها، يحتاج إلى دافع كبير لها في مشاعره ووجدانه، وهذه مسألة مهمة جدًا، وأيضًا تحافظ على مشاعر الإنسان، على قلبه، من الخراب.
((وَالاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ))، التمسك بهدي الله وكتابه، الذي يحميك من الضلال والتيه، يضيء لك درب مسيرتك في الحياة، ويجعلك على صلة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من خلال ذلك، فتحظى برعايته “جَلَّ شَأنُهُ”، الرعاية التي وعد بها أولياءه، وتنجو من هوَّة الضلال ومهالك الضلال، وعواقبه السيئة، وهذا يضمن لك النجاح والفوز والفلاح، وهذه مسألة أساسية جدًا؛ لأنها أساسًا هي التي تحقق لك التقوى، أمرُ الله ونهيُه وتوجيهاتُه، في كتابه، في هديه، في نوره، في تعليماته، فإذا تمسكت بها، التزمت بها عمليًا، في واقعك في هذه الحياة، في مسيرتك في هذه الحياة، فهذا هو حبل يصلك بالله، صِلة تصلك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تحظى من خلالها برعايته، ولهذا يقول أمير المؤمنين: ((وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ إِنْ أَنتَ أَخَذْتَ بِهِ))، الإنسان يَحكُم توجهاته، ويؤثر عليه فيما يعتمد عليه من آراء أو مواقف أو توجهات، أنه يرى فيها سببًا ووسيلة لصالحه في تحقيق أهداف معينة، أو مكاسب معينة، أو لحماية نفسه من مخاطر معينة، وأحيانًا يرى فيها وسيلة للارتباط بجهة معينة، قد يتصور أنها تمثل سندًا له، أو عونًا له، أو حمايةً له، أو غير ذلك.
((وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”))
، عروة وثيقة، سبب وثيق، لا ينقطع بك في ظرف معين، لا يتركك الله، ولا يخذلك، ولا يهملك، ولا يتخلى عنك، طالما أنت متمسك بذلك السبب، تحظى برعايته، تحظى بهدايته، تحظى بتوفيقه، تحظى بمعونته، تحظى بما وعد به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهو بمثابة الحبل الذي يرفعك ويرتقي بك، وينقذك ويقيك من هوة الضلال، حتى لا تتردى فيها وتخسر مع الخاسرين.
ثم يعود إلى الحديث عن القلب؛ لأنه يركز في بداية هذه الوصية على الأساسيات، الأمور الأساسية جدًا، الجامعة، التي تتفرع عنها بقية التفاصيل، لاحظنا مسألة التقوى، مسألة العناية بالقلب، مسألة التمسك بالقرآن الكريم وبهدي الله وتعليماته، ((أَحْيِ قَلبَكَ بِالـمَوْعِظَةِ))، مثلما سبق عن عمارة القلب بذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تحدث هنا عن حياة القلب، القلب في حياته وموته، كيف يكون ذلك؟ حياة القلب بحياة المشاعر الراقية الزاكية الطيبة، التي إذا حييت في واقع الإنسان ونمت في وجدانه، كان لها الأثر الكبير كدافع عظيم نحو الأعمال الصالحة، ونحو الاستقامة، ونحو التحرك في واقع هذه الحياة بتوازن، وبطريقة صحيحة، وأيضًا بيقظة مشاعر الإنسان، وبنمو المعاني السامية في وجدانه. أما موت القلب، فهو عندما يموت هذا التفاعل، تلك المشاعر الزاكية، عندما تفقدها من وجدانك، ويحل بدلًا منها المشاعر السيئة، والعقد الخبيثة، والمعاني السيئة، التي تفسد زكاء نفسك، وتمثل دافعًا سيئًا نحو الفساد، نحو الشر، نحو المنكرات، نحو الميول السيئة، التي تفسد الإنسان.
((أَحْيِ قَلبَكَ بِالـمَوْعِظَةِ))، الموعظة هي التذكير الذي يحرك مشاعرك، ويثير في قلبك الاعتبار، والانزجار والانتباه، فيتفاعل قلبك مع الحقائق المهمة، التي يُذَكَّر بها، ويتأثر بها، ومن ذلك ما يعظك الله به في كتابه، وما في واقع الحياة من أحداث وظروف ومتغيرات، لها تأثيرها على قلبك، تحيي فيه حالة اليقظة والانتباه والاعتبار، فيتفاعل مع الحقائق، يتفاعل مع الأشياء المهمة مع التعليمات المهمة، التي فيها نجاة وفوز وفلاح لك أنت، ولذلك عندما يقول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((أَحْيِ قَلبَكَ بِالـمَوْعِظَةِ))، معناه: أن تحرص على أن تكون حي المشاعر، تكون مشاعرك حية، المشاعر الصالحة، المشاعر الإيجابية، ألا تموت في قلبك، فتكون وكأن قلبك قد مات، وفعلًا هذا ملحوظ في واقع الناس، البعض من الناس- مثلًا- أصبح في واقعه، في مشاعره، تجاه ما يشاهد من مآسٍ، من مظالم، من منكرات، من طغيان، من جرائم، لا يتأثر أي تأثر في مسألة الغضب أو الانفعال أو التألم تجاه ذلك، كما يقول الشاعر: ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلاُم، كأنه ميت، مهما حصل من ظلم، كأن الأمر طبيعي، لا تتحرك مشاعره الإنسانية، مهما حصل من فساد، من طغيان، من مظالم، من مفاسد، يكون الأمر وكأنه طبيعي جدًا بالنسبة له، قلبه ميت، ماتت في قلبه المشاعر الزاكية، المشاعر الإنسانية، المشاعر الفطرية، التي تتألم لألم الناس، لأوجاع الناس، لهموم الناس، تتألم عندما ترى المظلومية، تتألم وتستنكر وتستوحش من الفساد، من الظلم، من الطغيان، من الإجرام، فمسألة الحفاظ على حياة المشاعر الزاكية في وجدان الإنسان ومشاعره مسألة مهمة، وتحتاج إلى اهتمام وترسيخ، فالموعظة التي يستفيدها الإنسان من خلال ما وعظك الله به، ذكَّرك به، وفيها زجر لك، تنبيه لك، تحريك لمشاعرك، لوجدانك، بالقدر الذي تتأثر به مع ما في واقع الحياة مع مسؤولياتك، مع التعليمات المهمة والقيِّمة والعظيمة، هذه مسألة مهمة جدًا، فحياة القلب بالمشاعر الإيجابية وتأثره بها، يمثل دافعًا أساسيًا للعمل الصالح وللاستقامة.
((وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ))، أمت في قلبك الأطماع الدنيئة، والأهواء المنحرفة، والطموحات السيئة، والرغبات الفاسدة، أمتها بالزهادة، اسعَ للخلاص من الطمع، للخلاص من الشُحّ، كما قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]، اسعَ لأن ترسخ في نفسك القناعة، التي هي كنز لا ينفد، فتضبط عندك وتضبط في نفسك حالة الاندفاع نحو الأطماع، مما ترسخه، في نفسك من معرفة سلبياتها وعواقبها الخطيرة، وبما توجه قلبك إليه من البدائل فيما ترجوه من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا مهم جدًا؛ لأنه سيخلصك من الضغط النفسي السلبي، الذي نراه في واقع الحياة يؤثر على الكثير من الناس، ماذا يفعل فيهم الطمع، الطمع عندما يشتد في الإنسان، الرغبات والشهوات والأهواء، عندما تشتد في الإنسان، الأنانية، عندما تغلب على تفكيره، على نفسيته، على توجهاته، تدفع بالإنسان إلى أعمال سيئة جدًا، إلى جرائم خطيرة، إلى انحرافات، إلى مفاسد، إلى مظالم، كم في واقع الناس من المظالم، من المفاسد، من الجرائم، التي هي ناتجة ومتفرعة عن الأطماع، فالزهد في هذه الدنيا، بمعنى أن تضبط عند نفسك مدى الرغبات، مدى الأطماع، مدى الأهواء هذه، في أن تحصل على الكثير من هذه الدنيا، له أهمية كبيرة لأن تُميت في نفسك تلك الأطماع، فتضبط عندك حالة الاندفاع نحو ما في هذه الحياة من متطلبات، تبقى متوازنًا، في التعامل معها، تضبط حالة التفاعل معها بالمقدار الصحيح، تتخلص من الأنانية، التي تجعل الكثير من الناس لا يفكر إلا في نفسه، وتفكيره قائم على الاستحواذ على أي شيء، حتى على حساب الآخرين، حتى لو كان الآخرون من الضعفاء، من المساكين، من الفقراء، أو من إخوته ورفاقه، أو غير ذلك، الأنانية هي فرع عن تلك الأطماع الدنيئة والشُحّ المهلك، ولذلك على الإنسان أن يخفف في نفسه هذه الحالة وأن يضبطها؛ لأنها حالة خطيرة على الإنسان.
((وَقَوِّهِ بِاليَقِينِ))، اليقين بالحق يمنح القلب القوة، في قناعاته وفي مشاعره المبنية عليها، وبالتالي يتحرك الإنسان في الواقع العملي بثقة وباطمئنان وثبات؛ لأنه منطلق على يقين، وليس منطلقًا وهو في حالة شك، وحالة تردد، وحالة اضطراب، يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، الإنسان بحاجة إلى هذه القوة، قوة اليقين، لكي يتحرك في الأعمال الصحيحة والمواقف الصحيحة، بثبات وثقة واطمئنان، ودون تردد أو اضطراب، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في إيمان المتقين المهتدين بكتابه: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: 4]، وصلوا في إيمانهم بالآخرة إلى درجة اليقين، ولم يكتفوا بمرتبة الإقرار، بل ارتقى إيمانهم إلى مستوى اليقين، فكان لذلك أثره الكبير في تفاعلهم مع تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هم يوقنون بالآخرة بما فيها، من الحساب، من الجزاء، بالجنة والنار، بكل ما وعد الله به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هم يوقنون بلقاء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا اليقين ترك أثره فيهم، في أعمالهم، في التزامهم، في تفاعلهم مع هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
اليقين درجة مهمة، على الإنسان أن يسعى للوصول إليها، من خلال هدى الله، الذي فيه ما يصل بك في قناعاتك في اطمئنانك، إلى مستوى اليقين، وأيضًا من واقع الحياة، مصاديق هدى الله في واقع الحياة، من يتأملها تصنع فيه اليقين إلى درجة عالية، وإذا حظي الإنسان باليقين، تقوَّت مشاعره الإيجابية، ودوافعه الإيمانية، ونواياه الصالحة، وتوجهاته مستقيمة، فتحرك فيها- كما قلنا- بقوة وثبات، وقوَّتُها إضعاف لنقائضها، عندما يقوى اليقين في قلبك، وتقوى فيك المشاعر الإيجابية، تضعف في المقابل الأشياء السيئة، وهذا يساعدك على أن تمتلك الدوافع الأقوى في الاتجاه الصحيح، في الأعمال الصحيحة، في المواقف الصحيحة، التي ترضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، على العكس من حالة الشك، وحالة التردد، وحالة الاضطراب، تُضعِف عزمك، تضعف توجهك، وبالتالي تضعفك حتى في موقفك، وفي التزامك، وفي أعمالك.
((وَنَوِّرْهُ بِالحِكْمَةِ))، القلب بدون الحكمة مظلم، وظلمة القلب هي حالة خطيرة جدًا على الإنسان، تُسبب للإنسان عمى القلب، وكما قال الله في القرآن الكريم: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46]، الإنسان بحاجة إلى أن ينور قلبه، بما يزيح منه تلك الظلمات، التي إن بقيت في قلبه جعلته أعمى القلب، لا يدرك الحقائق حتى لو ذُكِّر بها، لا يتنَبَّه للواقع، يعيش في حالة تَيه، وفي حالة عمى بكل ما تعنيه الكلمة، الإنسان بحاجة إلى أن ينور قلبه بالحكمة، اكتساب الحكمة من خلال هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن خلال مصاديق هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في واقع الحياة، وما يرتبط بذلك من تجارب الحياة، الحكمة هي نور في القلب، هي بصيرة، هي وعي وإدراك صائب، يضيء ظلمات القلب، ويجعل الإنسان يدرك الأمور على حقيقتها وبمستواها، بمستواها الحقيقي، وبالتالي يمتلك مع التوازن النفسي الرؤية الصائبة، والنظرة الثاقبة، ويتحرك عمليًا في مواقفه، في أعماله، في تصرفاته، على أساس ذلك، فتكون أحواله حكيمة، وتصرفاته حكيمة، وأفعاله حكيمة، ومواقفه حكيمة، فيما غيره يتحرك بغير وعي ولا رشد، متخبطًا في مواقفه وأعماله، وضائعًا عن طريق الصواب، يضيع عن طريق الصواب، ويخرج عن طريق الصواب.
ولأهمية الحكمة يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في القرآن الكريم: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً}[البقرة: من الآية 269]، الله مصدر الحكمة، يؤتي الحكمة من يشاء، وكتابه حكيم، تعليماته حكيمة، أوامره حكيمة، أما البديل عن الحكمة فهي العشوائية، التخبط، الضياع، الانفلات، والتصرفات المزاجية، والأهواء المضلة، ويعيش الإنسان في حالة ضياع، الإنسان بحاجة إلى هذا النور في قلبه، حتى لا يبقى قلبه مظلمًا وأعمى.
((وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الـمَوتِ))، ذلله عن جموحه، عن نزواته، إذا استعرت فيه حالة النزوات والشهوات، والميول الشريرة، والميول السيئة، إذا استعرت بنيرانها في قلبك، وأوشكت على أن تكسر ممانعتك وصمودك والتزامك، فأنت استفد من تذكير نفسك بالموت، وذلل قلبك، حتى تنضبط هذه الحالة في نفسك، وحتى تُخِمد وتُطفِئ نيران الطموحات الفاسدة والميول السيئة، تُخمد نيرانها بالتذليل للقلب بذكر الموت؛ لأن حالة استعار نيران الميول السيئة، والأهواء المفسدة والمضلة، التي تؤثر على الكثير من الناس، تستعر في قلوب البعض، حتى تكسر عندهم حالة الإيمان، حالة التقوى، حالة الالتزام، وبالتالي ينحرفون واقعهم العملي، يسقطون في المفاسد والرذائل، يتجهون وفق أهوائهم تلك، التي هي أهواء سيئة، فالإنسان كيف يواجه هذه الحالة؟ إذا أوشكت أن تتغلب عليه، أن تؤثر عليه، أن تضعف من ثباته وصموده والتزامه، يتعامل مع قلبه بهذه الحالة، فالتذكر للموت وما بعد الموت من الحساب والجزاء، التذكر للموت واليوم الآخر يساعدك على استعادة السيطرة، ويخفف من منسوب اشتعال تلك النيران والأهواء في نفسك، ذَكِّر نفسك أن رحيلك حتميّ من هذه الحياة، وأن مستقبلك في الآخرة هو المستقبل الأبدي، وما فيه من النعيم الخالص، أو العذاب الخالص، وما فيه من السؤال والحساب والجزاء، ذكِّر نفسك بحالك عندما يأتيك الموت، وأنه سيأتيك على غير ميعاد معك، على غير عِلمٍ مسبق منك، ولربما يأتيك في الوقت الذي لا تتوقعه أبدًا، وبالتالي عندما يأتيك وأنت في واقع الانحراف والحالة السيئة والضياع؛ لا تهتم بمستقبلك الأبدي، ستكون خسارتك حتمية، وأي خسارة، خسرت نفسك، خسرت رضوان الله، خسرت الجنة، أصبح مستقبلك الأبدي هو عذاب الله- والعياذ بالله.
ذكر نفسك بضعفك وعجزك، عندما يأتيك الموت، لن تستطيع أن ترده، ولن تستطيع أن تؤجله، ولن تستطيع أن تقي نفسك منه، رحيل إجباري من هذه الحياة، رحيل إجباري إلى الدار الآخرة، ونهاية لفرصة العمل، وفرصة التوبة، وفرصة الرجوع إلى الله، وفرصة الإعداد لمستقبلك في الآخرة، ذكِّر نفسك بكل تلك الأحوال، التي يتحول إليها واقع الإنسان عندما يموت، فيصير إلى الفناء والعجز، ثم البعث والحساب، هذه حالة تخفض من حالة الانفعالات الغريزية، والشهوات المهلكة، والأهواء، إذا استعرت نيرانها بالشكل الذي ينحرف بالإنسان.
((وَقَرِّرْهُ بِالفَنَاءِ))، قرره بالفناء، رسخ فيه هذه الحقيقة، حقيقة أن مصيرك في هذه الحياة هي الفناء، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن: 26]، إذًا لا ينبغي أن تتوجه كل اهتماماتك في هذه الحياة، فقط لما تريده فيها، وتنسى مستقبلك الأبدي الدائم، الحياة التي لا انقطاع لها، ولا نهاية لها، من أجل حياة زائلة محددة مؤقتة، تضيع تلك الحياة، ذلك المستقبل بكله، فأنت بحاجة إلى أن ترسخ في نفسك هذه الحقيقة، حقيقة الفناء، وحتمية الفناء، حتى يستقر لك قلبك، وتتوازن فيه الرغبات والتوجهات، وتتجه مشاعرك بناءً على هذه الحقيقة، وما يترتب عليها.
((وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنيَا))، وبصِّر قلبك فجائع الدنيا، اعرض عليه مصائب الدنيا وما يحدث فيها، ما حدث وما يحدث فيها، حياة الناس، من فجائع، ومصائب، ونكبات، ومآسٍ، وعن أسبابها الحقيقية؛ لتكون على بصيرة تجاه ذلك، ولتحدد أولوياتك بناء على ذلك.
نكتفي بهذا المقدار، ونواصل- إن شاء الله- في الأيام القادمة الدروس؛ للاستفادة من مقتطفات من هذه الوصية.
أَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛