مراكز “نهم” الصيفية.. رمزية المكان ودلالة المناسبة..بقلم/ القاضي/ علي يحيى عبد المغني*
كثيرة هي المرات التي أحضر فيها فعالية ما، سواءً في تدشين أَو اختتام لفعاليات الدورات الصيفية 1444هـ، وغيرها والتي لا أتذكر حصراً دقيقاً لها، غير أني حين تشرفتُ بتلقي دعوة الحضور إلى فعالية اختتام الدورات الصيفية في مديرية نهم محافظة صنعاء، مع كوكبةٍ من قيادات وأعضاء مجلس الشورى الأفاضل، غمرني شعور مختلف تماماً، وخالجتني سعادة لا توصف، وراودتني الكثير من الأفكار والتساؤلات، تمنيت لحظتها لو أن الذي هاتفني ليلاً بموعد الانطلاق إلى “نهم”، قد انتظر حتى الفجر لعلّي استرق إغفاءةً قصيرة، بعد يوم حافل بالجهد والعمل.
ومع إشراقات الفجر الأولى بدأت التواصل بالزملاء والتنسيق معهم حول كيفية الاجتماع والالتقاء ومن ثَمَّ التحَرُّك مجتمعين كرفاق طريق ليست بالطويلة ولا بالشاقة، ولا تزيد عن 90 كم، ومع بلوغنا قمة “نقيل بن غيلان”، تراءت لنا مديرية “نهم” بجبالها الشامخة وتضاريسها المتنوعة المترامية الأطراف وكأنها لوحة فنية فريدة تمازجت معها خيوط الشمس المتلألئة والتي أبدع الخالق –جل وعلا– رسمها بعناية فائقة.
طبعاً، لا توجد بداية تاريخية لنهم القبيلة والمديرية؛ لأَنَّها سليلة التاريخ إن لم تكن منشأه، فكل شيء فيها يحدثنا عن تفاصيلٍ جاءت من غابر التاريخ والأمم، بدءً بالطوفان وسفينة نوح وجبل الجودي، وقبر نبي الله أيوب وزوجته، مُرورًا بمآثر تاريخية تؤكّـد مناصرتها للحبيب المصطفى -صلوات الله عليه وعلى آله-، ومناصرتها للإمام علي -عليه السلام-، والتي ذكرها في قصيدته المشهورة والموجهة إلى القبائل اليمنية؛ أتذكر منها قولهُ (ع): “وناديت فيهم دعوة فأجابني فوارس من همدان غير لئام، فوارس ليسوا في الحروب بعزل غداة الوغى من شاكر وشبام، ومن أرحب الشم المطاعين بالقنا ونهم وأحيا السبيع ويام”، وجبل يام، هو من أشهر جبالها والبلد الأصلي لقبيلة يام اليمنية القديمة، وبه موضع يعرف اليوم بالغيضة يحتوي على مسجد وضريح الإمام “الهادي أحمد بن علي السراجي” المتوفى سنة 1250هـ.
وكون “نهم” وقبائلها الشرفاء قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنبي الأكرم وعترته -عليهم السلام-، عانت ليس قليلًا من الاستهداف المباشر على مدى نصف قرن تقريبًا، في محاولة بائسة لفصل القبيلة عن هذا الارتباط العظيم، لذلك لا عجب حين تراها وهي بهذه الأهميّة والمكانة التاريخية، نائية ومحرومة من أبسط الأشياء الأَسَاسية والمقومات الحياتية الضرورية والعصرية رغم قربها من عاصمة البلاد، وفوق ذلك ظلت ومنذُ العام 2011م، تحت وطأة الاحتلال التكفيري ونير التدجين والتلقين الثقافي المغلوط والملغوم، حتى تحرّرت في إطار عملية البنيان المرصوص في يناير 2020م.
عُمُـومًا، كان من حسن حظنا أن رافقنا في هذه الرحلة أحد المجاهدين ممن رابطوا في هذه المديرية قبل وأثناء عملية البنيان المرصوص، والذي كان بمثابة دليل سياحي فما إن نصل إلى منطقةٍ ما حتى يسرد لنا تفاصيل الأحداث التي رافقت المجاهدين من أبطال الجيش واللجان الشعبيّة في هذا المترس أَو ذاك، وعن قصص المكان وحكايات الموقع في: “محلي، وبَّرأن، في المجاوحة، والمدفون، في مسورة وسوقها الشهير الذي تعرض لقصف طيران العدوان في 8 مارس 2016م، حصد 30 شهيداً ومئات الجرحى، إلى الضبوعة، وعيدة الشرقية وعيدة الغربية”، ومن الجبال: “يام، القتب، القرن، الجبيل، المنارة، كيال الرباح، العظيمة”، ومن التباب: “الكعكة، تبة القناصين، الشبكة، التبة السوداء،… إلخ”.
ومن أمام بوابة معسكر فرضة نهم، سلكنا طريقاً ترابياً إلى وادي ملح الذي يبعد نحو 7 كيلو مترات جنوب الفرضة، ويبدو وادي ملح من أكثر المناطق المكسوة بالاخضرار، حَيثُ ينقسم الوادي إلى ضفتين شرقية وغربية بينهما سائلة تنحدر نحو مديرية مجزر، وعلى الضفة الشرقية للوادي تقع قرية ملح التي أخذ الوادي اسمها، وعدد من القرى الصغيرة التابعة لها، وهي: “المثابرة، الحمدة، لشط، الشرية، الفوارع”، وعلى الضفة الغربية للوادي تقع قرية النعيمات التي أبلت حسناً خلال سنوات العدوان، وعدد من القرى أَو المحلات التابعة لها وهي: “النخلة، العروات، الجبيل، العرجان، وقرية الكريف” التي تعرضت لأبشع جريمة ارتكبها طيران العدوان في فبراير 2017م، استشهد خلالها 13 طفلًا.
ومما لا شك فيه أن الجرائم التي ارتكبها تحالف العدوان والمرتزِقة بحق أبناء نهم لا يمكن حصرها، إذ لا تخلو قرية من قرى نهم من تلك الجرائم والانتهاكات، وقد كان لأبناء قرية النعيمات نصيب كبير من تلك الجرائم طيلة السنوات الماضية، سواءً عبر استهداف المنازل بالقصف الجوي أَو بالاختطافات والتهجير والنهب والقتل على الهُــوِيَّة الذي مارسته عناصر المرتزِقة بعد استباحة القرية أواخر 2016م، ومن تلك الجرائم اختطاف الشيخ مبخوت النعيمي، شقيق عضو المجلس السياسي الأعلى الأُستاذ محمد صالح النعيمي، من منزله في محجر النعيمات، واقتياده إلى مأرب، وبعد أربعة أشهر من الاختطاف، أعلنت سلطة المرتزِقة عن وفاته في السجن.
أثناء وصولنا قرية ملح كنت أدرك أن هذه القرية ووادي ملح عُمُـومًا كان بمثابة الثغرة التي تسلل منها الغزاة إلى فرضة نهم مطلع العام 2017م، وتمكّنوا بعدها من التوغل في عدد من المناطق والقرى غرب الفرضة، إذ لا زلت أتذكر ذلك الاحتفال للمرتزِقة وعلى رأسهم الخائن علي محسن، والخائن منصور الحنق، في منطقة “الضبوعة”، ومثلما كان وادي ملح بوابة النكسة في 2017م، كان الوادي نفسه بوابة الانتصار في 2020م، هُنا أدركت أَيْـضاً دلالة وأبعاد إصرار القائمين على اختتام برامج الدورات الصيفية لأشبال المديرية في هذه القرية وفي هذا المركز بالذات.
لتؤكّـد هذه الرمزية أنها ومثلما كانت منطلقاً للمؤامرات على اليمن عُمُـومًا وأبناء نهم على وجه الخصوص، أصبحت اليوم مراكزاً للعلم ونور المسيرة القرآنية المباركة ومناراً لطلاب العلم الشريف، فكما انتصر المرابطون في نهم، انتصرت هذه الدورات الصيفية بالعلم والنور وتربية الجيل الصاعد وتأهيله وتحصينه ليكون جيلاً متمكّناً ومتحملاً للمسؤولية، جيلاً مسلحاً بالإيمان والوعي والبصيرة، وتواقاً للحرية والعزة والكرامة.
وما شاهدته ولمستهُ من إبداع وحماسٍ وإصرار ثاقب ينبعث من جبين كُـلّ طالب، ينبئ عن مستقبلٍ مشرق لهذه المديرية الحرة، كنواةٍ أولى غرستها هذه المراكز الصيفية التي وصل عددها وفقاً لمن قام بتبنيها ممثلاً بالهيئة العامة للزكاة مشكورة، إلى 51 مركزاً، منها المراكز المغلفة والمُستمرّة طوال العام ومراكز مفتوحة خَاصَّة بالبنين والبنات، حَيثُ بلغ عدد الطلاب الملتحقين فيها قرابة 2700 طالب وطالبة، كثمرةٍ من ثمار الملاحم البطولية التي سطَّرها الشهداء والمجاهدون في “نهم” لمواجهة قوى العدوان والمرتزِقة، لتجدد هذه المديرية بقبائلها الشرفاء الارتباط الوثيق بالرسول الأعظم وعترته المطهرة.
* أمين عام مجلس الشورى