ما هي قصةُ الراتب في اليمن؟
علي الدرواني
ليس خافيًا أن حكومةَ صنعاء كانت تصرِفُ رواتب الموظفين بشكلٍ متواصلٍ وبدون تأخير، وكانت تصلُ الأموال من بنك صنعاء عبر الطائرات إلى عدن وبقية المحافظات، وكان البنك المركزي بصنعاء يصدر الأوامر بالصرف بشكل دوري، وصرفت في تلك الفترة لكل الموظفين المدنيين والعسكريين والأمنيين بمن فيهم أُولئك الذين يقاتلون ضد صنعاء إلى جانب تحالف العدوان على اليمن، ولم تنقطع إلا مع نقل البنك المركزي ووظائفه إلى عدن المحتلّة، ومنذ ذلك الحين، انقطعت الرواتب عن الموظفين، ولم تعد الحكومة قادرة على صرفها؛ بسَببِ تحويل وظائف البنك، واستيلاء المرتزِقة على الأرصدة الخارجية، والإيرادات الداخلية من المناطق المحتلّة، وهي المنافذ الوحيدة التي ظلت مفتوحة، مع إغلاق كُـلّ المنافذ في مناطق حكومة صنعاء، برًّا وجوًّا، وتقييد خطير لوصول الواردات عبر ميناء الحديدة استمر في التصاعد حتى تعطل الميناء بشكل كامل في العام الذي سبق إقرار الهدنة الإنسانية، أبريل 2022.
هذه المقدمة، للتذكير بحجم الحرب الاقتصادية التي شنها العدوان، واستهدفت لقمة العيش كورقة حرب، لا تنازع.. تنازلات، لم تستطع السعوديّة فرضها بالحرب والعدوان والمجازر.
كان الشعب اليمني قويا وصامدا في وجه كُـلّ أنواع الحرب التي شنت عليه، منذ 26 مارس 2015، وكان على وعي كامل بأهداف العدوان الخبيثة، التي استهدفت كُـلّ شيء قتلًا وتدميرًا، ولم تستثن المدارس ولا الجسور ولا الأسواق ولا العزاءات ولا الأعراس ولا حتى المقابر.
لقد كانت حرباً شرسةً ومتوحشة قادتها السعوديّة، وأيّدتها جحافل الارتزاق على كُـلّ جريمة ارتكبتها في اليمن، بل وذهبت لسوق كُـلّ المبرّرات والعلل الكاذبة والمخادعة.
اليوم.. العدوان مُستمرّ، والحرب مُستمرّة، وإن كان هناك خفض للتصعيد العسكري الميداني، فللحرب ألف وجه، سياسي وإعلامي واقتصادي وغيره.
وقد أثبت شعبنا إصراراً قوياً على الانتصار، ووعياً كَبيراً في المواجهة، وشهدت الميادين عملًا حثيثًا على هزيمة العدوان وإفشال أهدافه، فكانت العمليات العسكرية، والإجراءات الاقتصادية.
حكومة المجلس السياسي الأعلى بدورها سواء في المجلس السياسي الأعلى، بقيادة الرئيس المشاط، أَو في رئاسة الوزراء، واللجنة الاقتصادية، وحتى الوفد الوطني المفاوض، تضع في أولوياتها صرف رواتب الموظفين، وتم في اتّفاق السويد إقرار بند متعلق بصرف الرواتب، وفتحت الحكومة حسابا خاصا في فرع البنك بالحديدة وفقاً لاتّفاق السويد، على أن يتم استيفاء مبلغ الرواتب من بنك عدن ومن عائدات الثروة النفطية والغازية؛ لأَنَّ إيرادات الحديدة لا تتجاوز 7 مليارات ريال، بينما مبلغ الرواتب يصل إلى 70 مليار ريال، وفقاً لكشوفات 2014؛ ما يعني أن إيرادات الحديدة تمثل فقط 10 % من قيمة الرواتب كاملة لجميع موظفي الجمهورية مدنيين وعسكريين.
رغم مضي خمس سنوات على اتّفاق السويد، إلا أن الطرف الآخر لم يف بالتزاماته حتى هذه اللحظة، ولا تزال قوى العدوان ومرتزِقتها يصرون على أن تبقى رواتب الموظفين ورقة مساومة، للضغط على صنعاء ومواصلة الحرب الشاملة ضد أبناء الشعب اليمني، والهدف معروف للجميع.
أوفت الحكومة بالتزامها في الاتّفاق، وحوّلت الأموال المخصصة في فرع البنك في الحديدة، وصرفت منها رواتب الموظفين، تقريبًا كُـلّ ثلاثة أشهر، لصرف نصف راتب فقط، ولا تزال تطالب الأمم المتحدة لإرغام الطرف الآخر على دفع حصته في الرواتب حسب اتّفاق السويد.
لم تترك الحكومة أية فرصة أَو وسيلة للتخفيف عن المواطنين، والتزمت إجراءات اقتصادية ناجحة، فضبطت سعر الصرف عن مستوى 530 ريالاً للدولار، مقابل انهيار متواصل في عدن المحتلّة، وصل إلى أكثر من 1400 ريال للدولار الواحد.
النجاح في ضبط سعر الصرف، حافظ على قيمة الراتب الذي تصرفه صنعاء، وأصبحت قيمة راتب شهر في صنعاء، تساوي رواتب ثلاثة أشهر في عدن المحتلّة.
كانت حكومة صنعاء تستطيع الاحتيال وترك سعر الصرف ينهار؛ ليوازي مثله في المناطق المحتلّة، مع رفع موازي للدولار الجمركي بسعر السوق، عندها سترتفع إيراداتها بالريال إلى ثلاثة أضعاف، وستكون قادرة على صرف الراتب ربما كاملا، لكنه سيكون حينها بلا قيمة، بل سيساهم هذه في تدهور أسرع لن يتوقف ولا حتى عند 5000، حسب الخبراء الاقتصاديين؛ لأَنَّه ببساطة سيفتح شهية لصوص المرتزِقة للمزيد من الطباعة، دون غطاء قانوني.
الحكومة في الواقع وقيادة المجلس السياسي الأعلى، واللجنة الاقتصادية رفضت تلك الإجراءات؛ مِن أجل أن تحافظ على قدر معقول من قيمة الراتب، وقدرته الشرائية، مع مواصلة الضغط على تحالف العدوان للوفاء بالتزام السويد، لصرف بقية المبلغ المتفق عليه.
وبهذا يظهر أن الميزة التي تحقّقها إجراءات البنك المركزي في صنعاء لضبط سعر الصرف، هي في الحقيقة من صالح المواطن وليست في صالح حكومة صنعاء أبداً. نعيد التأكيد على أن الحكومة لم تدخر وسيلة للتخفيف عن المواطنين من آثار الحرب الاقتصادية، وقد جرَّبت فكرة البطاقة التموينية، لكنها خلقت مشاكلَ أكثرَ من الحلول، ولا تزال تعاني منها إلى اليوم، وهذا ما كشفه الرئيس المشاط في عمران، ولم يُكتب لها النجاح.
على كُـلّ حال، فَــإنَّ البلد في ظل هذا العدوان المُستمرّ، لن يتعافى بالحلول الترقيعية، والإجراءات مهما كانت فعالة، فَــإنَّها لا ترقى لفعالية الاستفادة من الثروات الوطنية؛ ولذلك تصر القيادة على أن الهدنة لن تستمر على هذا الحال، وتهديد الرئيس المشاط واضح: بالاستعداد للذهاب للتصعيد العسكري؛ مِن أجل استعادة حقوق الموظفين، ورواتبهم، قبله كان السيد عبدالملك الحوثي أَيْـضاً صريحاً في تهديد السعوديّة، بأن نيوم والاستثمارات الاقتصادية لن تكون في مأمن طالما شعبنا يعيش هذه الظروف الصعبة والمعانة الكبيرة.
الخطوات العملية لمنع نهب الثروة النفطية والتي تم تثبيت معادلاتها بعملية الضبة، قبل عام، ثم ما كشفه الرئيس المشاط بمنع محاولات أربعة أَيَّـام مع شركات نهب الغاز من ميناء عدن، كلها خطوات تثبت أن حقوق اليمنيين ليست للمساومة، وليست محلاً للتفاوض، وأن هذه المعادلات يمكن أن تتطور، لتشمل موانئ العدوان، ومنعهم من الاستفادة من ثرواتهم واقتصادهم، في ظل معاناة اليمنيين.
بقي شيء يجب أن يشار إليه هنا، في عام 2014 كانت الإيرادات تريليونين و231 مليار ريال، منها أكثر من 50 % ترليون، 186 مليار، إيرادات النفط والغاز، بينما وصلت النفقات تريليونين و567 مليار ريال، منها أكثر من الثلث، 927 ملياراً، تحت بند المرتبات والأجور، وفي العام التالي وهو أول عام للعدوان، 2015، فقد كانت الإيرادات ترليوناً 53 ملياراً فقط، النفقات ترليون و909 مليارات.. بانخفاض في الإيرادات إلى أقل من 50 %؛ بسَببِ العدوان والحصار، وكان من المنطقي أن ترتفع النفقات لمواجهة العدوان، إلا أنها انخفضت بشكل ملحوظ، بمقدار 658 ملياراً، ولم ترتفع النفقات.
وبالنظر إلى تلك الأرقام، وتطبيقها على واقع اليوم، فَــإنَّ صنعاء فقدت النسبة الأكبر من الإيرادات، لا سِـيَّـما بعد نقل البنك إلى عدن المحتلّة، وسيطرة قوى العدوان ومرتزِقتها على الإيرادات الرئيسية في البلاد، النفط والغاز، والمنافذ البرية والبحرية، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية لحكومة صنعاء، باستثناء رفع بعض القيود مؤخّراً عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء، إلا أن الإيرادات هنا تظل في مستوياتها الدنيا، وَإذَا أخذنا بعين الاعتبار أن حكومة صنعاء تتقاضى الجمارك وفقاً لسعر الدولار 250 ريالاً فقط، فَــإنَّها تتقاضى فقط نصف المبلغ المفترض، وهذا؛ مِن أجل تخفيف الأعباء على المواطن ومنع الأسعار من الانفلات، وقيمة العملة من التدهور.
فيكون السؤال المنطقي اليوم هو: كيف استطاعت صنعاء مواجهة كُـلّ هذا العدوان، على مدى أكثر من ثمان سنوات، وكيف تنفق على الجانب العسكري، ومن أين، وقد تم قطع كُـلّ الإيرادات إلا القليل منها.
في ظل العدوان والحصار، وما تتطلبه مواجهة العدوان من نفقات، تنوء بحملها دول مثل أُورُوبا، وما يجري في أوكرانيا وحجم الأموال التي وصلت إلى كييف من أُورُوبا وأمريكا، يكفي لمعرفة حجم حاجة اليمن لمواجهة كُـلّ هذا العدوان، والذي في أقل الأحوال يمكن مقارنته بما يجري في أوكرانيا، مع هذا فَــإنَّ اليمن محاصر، ولا يصله أي نوع من المساعدات، وحتى ما تعلنه الأمم المتحدة، ما هو إلا معشار معشار ما تعلنه في أوكرانيا، أما المساعدات العسكرية فحدث ولا حرج، فقد تجاوزت مئات المليارات من الدولارات، أما اليمن فبالكاد يدافع عن نفسه أمام عدوان همجي من أغنى دول العالم تقف معها أقوى دول العالم، وتتواصل إليها شحنات الأسلحة، بمئات المليارات من الدولارات، فعن أي ميزانية يمكن أن نتحدث لتقوى على كُـلّ هذه المواجهة، أنها المعجزة فقط، أنها العناية الإلهية، ولله الحمد من قبل ومن بعد.