“طوفانُ الأقصى”: تحوُّلٌ تأريخي حاسمٌ في تكتيكات وأدوات العمل المقاوِم

المسيرة | خاص:

لا زالت معركةُ “طوفان الأقصى” تتصدَّرُ المشهدَ عالميًّا كأكبرِ وأخطرِ هجومٍ فلسطيني على الكيان الصهيوني، وكتحوُّلٍ تأريخي حاسمٍ في مسار الصراع الذي حاول الكيانُ والقوى الغربية الكبرى الداعمة له على مدى عقود توجيهَه نحو نتائجَ مدروسة ومحدّدة مسبقًا، أبرزها تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، غير أن المقاومة ومحورَها -وفي ظرف ساعات قليلة- جعلت كُـلَّ تلك الحسابات بلا قيمة، وفرضت معادلاتٍ جديدةً مفاجئةً وصادمة لا يمكن العودة إلى ما قبلها، ولا يمكن إعاقةُ مسارِها الذي يبدو بوضوح أنه هو مسارُ النتائج النهائية الحتمية.

فشلٌ صهيوني أمريكي ذريع:

مع بداية العملية العسكرية الفلسطينية، صباح السبت، كانت وسائلُ الإعلام العبرية والأجنبية تتناول ما يجري تحت عناوينَ عادية؛ باعتبار أن كُـلّ ما يحدث هو عمليات تسلّل وقصف محدودة، لكن مع مضي الساعات، تحول الأمر وبشكل مذهل، إلى أكبر وأوسع اجتياح عسكري فلسطيني للأراضي المحتلّة في تأريخ الصراع.

لم يجد الصهاينة بُدًّا من الاعتراف بالمفاجأة والصدمة، وهذا ما حرصت وسائل الإعلام العبرية على تأكيده طيلة اليوم، والحقيقة أنه كان اعترافًا بالفشل الذريع والفاضح لكل أجهزة الكيان الصهيوني: العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي تطوق قطاع غزة من كُـلّ مكان وتراقب كُـلّ شبر فيه بصورة مُستمرّة، سواء عبر عملائها أَو عبر تقنيات المراقبة والتجسس الحديثة، خُصُوصاً وأن العملية لم تكن بحجم عادي.

لقد فشلت “إسرائيل” حتى في أن تتوقعَ نظريًّا إقدامَ المقاومة الفلسطينية على إطلاق عملية عسكرية واسعة، في الوقت الذي كان محللون سياسيون عاديون قد توقعوا ذلك قبل فترات، وهذا يعني أن الكيان الصهيوني كان يعيشُ حالةَ غفلة تامة عن قدرات وإمْكَانات المقاومة وعن نواياها وتحَرُّكاتها وما تستطيع فعله.

هذه الغفلة ليست مُجَـرّد “خطأ” بسيط في الحسابات، بل فشل كامل لا يمكن إصلاحُه؛ فالكيان الصهيوني كان يعتقد بالفعل أنه يفعلُ كُـلّ ما يمكن فعله، وأن تتم مفاجأتُه بعملية توغل بري وبحري وجوي غير مسبوقة في تأريخ الصراع، يعني ببساطة أن النظامَ الأمني والاستخباراتي الذي يعتمد عليه بشكل رئيسي كله بلا قيمة، وهذه ليس مُجَـرّد ثغرة بسيطة، بل عجز لا يمكن معالجته إلا بإعادة الزمن إلى الوراء كَثيراً وتغيير الأحداث، وهو أمرٌ مستحيل!

دائرةُ هذا الفشل لا تقتصر على الكيان الصهيوني فقط؛ فحتى الولايات المتحدة كانت خلال الفترة القادمة تقدم تقييمات تظنها دقيقة جِـدًّا عن الأوضاع، وقبل أسبوع فقط كان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، يقولُ: “إن الوضع في الشرق الأوسط حَـاليًّا هو الأكثر هُدوءًا خلال 20 عامًا”، وهو تقييم يكشف أن الولايات المتحدة أَيْـضاً بكل نفوذها الأمني والاستخباراتي لم تكن تعلم شيئاً، ولم يستطع خبراؤها وأجهزتها حتى توقُّعَ احتمالِ حدوثِ شيء.

 

تحوُّلٌ تأريخيٌّ في أُسلُـوب العمل المقاوم:

ومن المهم التأكيدُ على أن ذلك الفشل الصهيوني الأمريكي الذريع والتاريخي لم يكنْ بسَببِ قلة الإمْكَانات أَو التساهل في المراقبة وتحليل المعلومات؛ لأَنَّ هذه فرضيات غير واقعية، لكن السبب كان تمكّن المقاومة الفلسطينية من خلق مساحة تبدو مستحيلةً خارج إطار حسابات وقدرات العدوّ، للتجهيز والتخطيط والإعداد، ثم الانطلاق بصورة مباغتة تماماً.

وقد أدهشت المقاومةُ الفلسطينيةُ العدوَّ والعالَمَ بحنكتها في استخدام عُنصر المفاجأة في معركة “طوفان الأقصى” ليس فقط من ناحية التوقيت، بل من أَيْـضاً من ناحية نوعية وحجم الهجوم العسكري؛ لأَنَّ عنصر المفاجأة امتزج مع كُـلّ تكتيكات الاجتياح وأساليبه بشكل مذهل، وتركت العدوَّ في حالة عجز عن التعامل مع التفاصيل الجديدة المتنوعة والكثيرة والمتزامنة.

لقد انتقلت المقاومةُ وبشكل مفاجئ من العمل العسكري المحدود الذي يستهدفُ مواقعَ وثكناتٍ، إلى اجتياح مستوطنات كاملة، وبتكتيكات غير مألوفة استفادت فيها من كُـلّ الإمْكَانات المتاحة بأفضل صورة ممكنة وبشكل متزامن، حَيثُ ترافق الاجتياحُ البري مع غطاء صاروخي مكثّـف استهدف القبة الحديدية للعدو وعطَّل اتصالاته، توازيًا مع هجمات نوعية ودقيقة بالطائرات المسيَّرة الحاملة للقذائف، وعمليات إنزال مظلي فريدة من نوعها بدون طائرات.

قد تكون الإمْكَاناتُ المادية محدودة التطور، لكنها فعالة بشكل احترافي، كما أن هذه التكتيكات هي تكتيكات جيوش قوية منظمة وتمتلك مرونة عالية في التنسيق بين وحداتها؛ وهو ما يؤكّـدُ بشكل واضح أن العملية تم الإعداد لها مسبقًا ولفترة طويلة، وهو أمرٌ من شأنه أن يصدِمَ العدوَّ ويغرِقَه في تساؤلات لا إجَابَة لها حول مستوى الخبرات والإعداد لدى المقاومة، وما تمتلكه من مفاجآت أُخرى؛ لأَنَّها الآن تمتلك زمام المبادرة والمباغتة وصناعة ما هو جديدٌ وصادمٌ على عكس العدوّ الذي أصبحت كُـلّ خياراته معروفة.

وقد شهدت أحداثُ اليوم الثاني من المعركة، الأحد، تطوراتٍ هامةً في هذا السياق، حَيثُ أعلنت المقاومة أنها استطاعت تعزيزَ قواتها المتواجدة في عمق المستوطنات الصهيونية وإمدَادها بدفعات من المجاهدين؛ وهو ما يعني التمكُّنَ من فتح مسارات دعم وإمدَاد مباشر تحت رصد العدوّ وسلاحه الجوي الذي يسيطر على الأجواء!

ولا يقتصرُ نجاحُ المقاومة الفلسطينية على مباغتة العدوّ بحجم وتكتيكات العملية العسكرية التأريخية، بل يشمل أَيْـضاً قدرتَها على المحافظة على ذلك النجاح وإبقاء العدوّ في حالة ارتباك لا زالت مُستمرّة إلى الآن؛ وهو ما يعني عدم قدرته على معالجة فشله ومواكبة التغييرات الطارئة، الأمر الذي يكشفُ عن إفلاس يثبت أن المسألة لم تكن مسألة خطأ في الحسابات والتقديرات فقط، بل عجز كبير وضيق أفق متجذر في المنظومة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية الصهيونية.

وقد أظهرت خرائطُ جديدةٌ، الأحد، أن مواجهاتِ المقاومة مع الصهاينة وصلت إلى عُمْقٍ يكادُ يقتربُ من تحقيق التحام تأريخي مع الضفة الغربية؛ الأمر الذي يؤكّـد بشكل واضح استمرارَ عجز الكيان الصهيوني عن التعامل مع معادلات المقاومة.

واقعٌ جديدٌ:

المقارَنةُ بين ما أثبتته معركة “طوفان الأقصى” من فشل ذريع للعدو الصهيوني وحلفائه، ونجاحٍ مدهشٍ للمقاومة الفلسطينية وداعميها، تؤكّـد بشكل واضح انتهاءَ الزمن الذي كان فيه العدوّ ينفردُ بفرض المعادلات على الأرض، وأن الفلسطينيين اليوم أصبحوا قادرين وبشكل غير مسبوق على حشر العدوّ في زوايا ضَيِّقَةٍ وصناعة معادلات جديدة واسعة النطاق وشديدة التأثير ولا يستطيع العدوّ مواكبتها.

هذا يعني بوضوح أن العدوّ الإسرائيلي اليوم لا يواجه فقط “جولةً صعبةً” بل يواجه خطرًا وجوديًّا متصاعدًا بشكل صادم لا يمكن تجاوزه، وسقف هذا الخطر هو زوال الكيان الصهيوني، وليس فقط تكبيده خسائر كبيرة؛ لأَنَّ ما حدث السبت كان نموذجًا لمسار واقعي ممكِنٍ لتحرير كافة الأراضي الفلسطينية المحتلّة وإجبار الصهاينة على المغادرة.

الخسائر غير المسبوقة التي تكبدها العدوّ خلال أقل من 48 ساعة من انطلاق العملية، يؤكّـد ذلك بوضوح، حَيثُ أقرت وسائل الإعلام العبرية بمقتل أكثر من 600 صهيوني وإصابة أكثرَ من 2000، حتى لحظة الكتابة، مشيرة إلى أن الحصيلة لا تزال أولية؛ لعدم التمكّن من الوصول إلى جميع القتلى والجرحى، فيما لا يزال عدد الأسرى مجهولًا، وهي أرقام لم يعرفها الكيان الصهيوني منذ قيامه.

ولا ينبغي أَيْـضاً تجاهُلُ أن حقيقةَ وقوف محور المقاومة وراء الشعب الفلسطيني ومجاهديه يمثّل جُزءًا مهمًّا من هذا الواقع الجديد؛ لأَنَّ وسائل الإعلام العبرية عبَّرت بصراحة عن قلق “تل أبيب” من دخول أطرافٍ إقليميةٍ على خط المعركة، وهذا القلق يؤثر بلا شك على سلوك العدوّ واندفاعه نحو التصعيد؛ وهو ما يعني أن المقاوَمةَ لم تنجحْ فحسب في مباغتة الصهاينة وفرض معادلات جديدة عليهم، بل استطاعت أن تفرضَ قيودًا على خياراتهم العدائية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com