لأهلنا في غزة: هاكم ما تعلّمناه في اليمن من مواجهة الحصار والعدوان

 

حسام باشا

من أقسى ما يمكن أن يتعرض له شعب مقهور ومظلوم هو أن يحاصر في وطنه، وأن يقصف بلا رحمة من السماء، فتصبح حياته جحيمًا لا يطاق، ومستقبله ظلامًا لا ينفرج، في محاولة يسعى من خلالها العدوّ عبر هذا التكتيك (الحصار القاتل والقصف بلا هوادة) إلى كسر عزيمة المدافعين عن حقوقهم وأرضهم، وإخضاعهم لإرادته وسطوته، فهو يحرمهم من الماء والطعام والدواء، ويقطع عنهم خطوط التواصل والإمدَاد، ويحول بينهم وبين أشقائهم وأحبائهم، ويزرع في نفوسهم الخوف واليأس والشك؛ بهَدفِ تشتيت صفوفهم وتقويض ثقتهم بقضيتهم وبقدرتهم على التغلب على التحديات التي فرضها وتواجههم، مما يسهل عليه اختراق دفاعات المقاومة، والاستيلاء على المناطق التي يحاصرها ويقصفها، وفرض سطوته عليها وإخضاعها لإرادته وأهدافه الاستعمارية.

قد يظن البعض أن الحصار هو حالة من السوء والشقاء لا تحمل في طياتها إلا المعاناة والموت، لكن هذا ليس صحيحاً تماماً، فالحصار إذَا ما تمت مواجهته بالإيمان بالله وبالقضية العادلة، فهو أَيْـضاً فرصة للإبداع والتحدي والنجاة، فالمحاصرون ليسوا مُجَـرّد ضحايا ينتظرون الموت، بل هم أبطال يقاتلون؛ مِن أجل الحياة والكرامة، خُصُوصاً إذَا ما استخدموا عقولهم وأيديهم لتأمين احتياجاتهم الأَسَاسية من سلاح وغذاء وشراب ودواء ووقود وغيرها، بالرغم من قلة الموارد وصعوبة الظروف.

فتجدهم يصنعون السلاح مما تجود به بيئتهم وتبتكره عقولهم، فلا يستسلمون للعدوان أَو يخافون منه، بل يدافعون عن أرضهم وشعبهم ودينهم بكل شجاعة وإصرار، وتجدهم يزرعون الأرض بالمحاصيل المتينة والمغذية التي تتحمل الجفاف أَو الملوحة أَو التغيرات المناخية، فلا يجوعون أَو يفقرون إلى مصادر الفيتامينات والبروتينات، وتجدهم يحفرون الآبار في المناطق الجافة، أَو يجمعون مياه الأمطار في المناطق المطيرة، فلا يعطشون أَو يشربون من ماء غير صالح، وتجدهم يصنعون الدواء من الأعشاب الطبية، التي تزرع في حقولهم أَو التي تنتشر في جبالهم وأوديتهم، وتجدهم يستغلون الطاقة الشمسية أَو الرياح أَو الحطب أَو الفحم فلا يحزنون أَو ييأسون، بل يواجهون العدوّ بنعم الله عليهم.

وما القصف والحصار إلا وسيلة فاشلة يلجأ إليها العدوّ لكسر عزيمة الشعب وزرع الرعب في قلب أبنائه، ولكن هذه الوسيلة ترتد على صاحبها، فالمؤمنون لا يخافون من صوت القنابل ولا من جوع الحصار، بل يزدادون إيماناً وثقة بالله سبحانه وتعالى، فالشهادة في سبيله لديهم هي أعلى درجات الفوز، كما ويقتدون بسيرة خير الأنام محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، الذي كان أشد صبراً وأحكم حكمةً في مواجهة الأعداء، فهو الذي تحمل مشقة حصار الشعب الذي ضاق به لثلاث سنوات، وهو الذي أظهر معجزة بدر، حَيثُ ظفر بالانتصار على جيش كبير بجيش صغير، وهو الذي أبدى عزيمة أحد، حَيثُ لم يستكِن لجراحه ولا لخسارة أصحابه، وهو الذي استخدم حكمة الخندق، حَيثُ ابتكر طريقة جديدة لصد هجوم عظيم، وهو الذي اقتلع حصون خيبر، حَيثُ فتح قلاعها ببأس مولانا أمير المؤمنين الإمام علي -عليه السلام-، وهو الذي حقّق فتح مكة، حَيثُ دخل مسقط رأسه منتصراً مغفورًا، وغير ذلك من المواقف التاريخية التي تثبت أن الله مع المؤمنين.

علاوةً على ذلك يستطع أي شعب محاصر أن يثبت قدرته على التحدي والصمود، بأن يحافظ على روح التضامن والتكافل بين أبنائه، فهو يعمل على إصلاح ما دمّـره القصف من بيوت ومدارس ومستشفيات، ويسارع إلى إسعاف المصابين من أهله وجيرانه، ويرعى الأيتام وأسر الشهداء، ولا يستسلم لليأس أَو الخوف، بل يستمر في ممارسة حياته الطبيعية قدر المستطاع، ويحرص على رفد الجبهات والتعلم والتدريب في مجالات مختلفة، مثل الدفاع عن أرضه وشرفه، والزراعة لإطعام شعبه، والطب لشفاء جراحه، والهندسة لإبداع منتجات جديدة تساهم في تخفيف تداعيات الحصار على حياته، بهذا يقوم الشعب المحاصر بإنجاز ما يستحيل على غيره من الشعوب، ويسبب أكبر هزيمة للعدو الذي يحاول كسر إرادته.

إن تاريخ الأمم يشهد أن التكتيك العسكري القائم على الحصار والقصف والجوي لا يحسم الموقف، فالشعوب التي تمتلك إرادَة قوية وإيمانًا صادقًا وثقة بالله، تستطيع أن تتحدى أقوى الجيوش وأشدها عتادًا، ولعل أبرز دليل على ذلك هو ما شاهدناه في اليمن، التي تحتضن أبطالاً من الجيش واللجان الشعبيّة، يقاتلون بشجاعةٍ وإباء ضد التحالف السعوديّ الإماراتي، الذي يفرض عليها حصارًا خانقًا ويمطرها بالقنابل من السماء.

ولم يستسلم أهل اليمن لهذا التكتيك المدمّـر، بل استخدموه كحافز لزيادة صمودهم وإثارة غيرتهم، فقد ابتكروا طرقًا مختلفة للدفاع عن أرضهم وشرفهم، من خلال تصنيع أسلحة محلية، مثل الطائرات المسيَّرة والصواريخ البالستية والكروز، التي استطاعت أن تستهدف أهم المواقع الحساسة داخل المملكة والإمارات.

كما شنوا هجمات مضادة على مواقع العدوّ على الحدود وفي جبهات الداخل، محقّقين انتصارات باهرة، من خلال التطور بين الجمود والتغيير، فلم يثبتوا على حال واحد، بل يتعلموا من تجاربهم وأخطائهم، ولم يقتصروا على تقليد الآخرين، بل ابتكروا حلولًا جديدة تتناسب مع استراتيجية التوازن بين الدفاع والهجوم المبني على فرضية أن الدفاع يحافظ على المكتسبات، والهجوم يضيف المكاسب.

ولهذا أظهروا للعالم كله أن التكتيك العسكري الذي استخدمه تحالف العدوان من خلال تضييق الحصار وتكثيف الضربات الجوية يصبح في مواجهة الإيمان والصبر والتحدي سببًا في نجاح المقاومة الشعبيّة ضده وتحقيق الانتصارات عليه، فالإيمان هو مصدر الثقة بأن النصر من عند الله، والصبر هو مصدر التحمل في مواجهة المصائب، والتحدي هو مصدر التغيير في ظروف المعركة، وكلّ ذلك يجمع التكامل بين المادة والروح، فلا يكفي أن يمتلك الشعب مؤنة وسلاحًا، بل يجب أن يمتلك إيمانًا، فالإيمان هو ما يعطيه الطمأنينة والسكينة؛ وهو ما يجعلُه متضامِنًا ومتآزِرًا.

إذًا، نستطيع أن نختم هذا المقال بأن نقول لأهلنا في غزة: إن الحصار العسكري والقصف الجوي ليس نهاية المطاف، فهما مرحلة عابرة، تزول بإذن الله، فالشعب الذي يقاتل بإيمان وشجاعة وإصرار لا يُغلَب، فالله هو الولي والنصير، وهو خير الماكرين، وهذا ما عرفه العدوّ جيِّدًا، فقد رأى كيف انتفض الشعب اليمني من تحت الركام وكيف خلق الانتصارات، وكذلك سيرى كيف ستظفر بإذن الله غزة بالنصر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com