اليمنُ و “طُـوفان الأقصى”
عبدالرحمن مراد
علاقة اليمن بالقضية الفلسطينية ليست وليدة اللحظة بل تمتد إلى البدايات الأولى لها، فالثابت تاريخيًّا أن موقف اليمن من القضية ثابت، وعلاقة الشعب على وجه العموم ثابت لم يتغير ولم يتبدل على مدى أكثر من سبعين عاماً، وقد شارك الكثير من أبناء اليمن في المعارك التي دارت رحاها منذ بدأ الغزو والاحتلال لفلسطين من قبل الإنجليز، ومنذ وعد بلفور الذي وهب ما لا يملك لمن لا يملك، وقد يجد الباحث قصصاً لم يكتبها التاريخ ولكن ما تزال عالقة في ذاكرة الناس والمجتمع، فالنخوة العربية والحمية الدينية التي قادت أفراد المجتمع المشاركة في صفوف المقاومة للاحتلال ومعارك التحرير ما تزال هي نفسها، وها هو اليوم يتجدد في وجدان المجتمع نفس الدافع، فالطوفان الذي اندلعت نيرانه في أُكتوبر وجدنا من أبناء اليمن من كان مشاركاً فيه، وقد استشهد هناك عدد غير قليل من أبناء اليمن، وفي ظني لو تمكّن الناس من الخروج والمشاركة لوجدنا أفواجاً يشدون الرحال إلى الأقصى لخوض معركة العزة والكرامة، ومعركة الانتصار للأقصى، ولأطفال غزة الذين يتعرضون للإبادة الجماعية من قبل الآلة العسكرية الصهيونية وبدم بارد، يقابلها الصمت المرعب من قبل المجتمع الدولي برمته، وصمت وخضوع وخنوع من قبل حكام العرب، الذين سلبهم الغرب عزتهم وكرامتهم، فأصبحوا كقطيع مهمل تتناوشه الذئاب من كُـلّ حدب وصوب، بل كادت إسرائيل أن تقول إن الكثير من حكام العرب كانوا شركاء في مذابح أطفال ونساء وكهول غزة وفلسطين على وجه العموم.
منذ الوهلة الأولى للطوفان خرج كُـلّ اليمن انتصاراً لغزة ولفلسطين وللأقصى لم تبق بقعة من بقاع اليمن دون أن تشهد خروجاً واحتجاجاً وتنديداً، وجلّ هتافها الموت لأمريكا واللعنة على اليهود، ومبدية رغبتها في الجهاد والرباط على أكناف بيت المقدس حتى يتحرّر من اليهود والصهاينة، وتعود القدس كعاصمة أبدية لفلسطين ويعود القدس كرمز ديني مقدس، وثالث الحرمين، ويتمكّن كُـلّ المسلمين من شد الرحال إليه دون أية موانعَ سياسية أَو ثقافية أَو أمنية أَو عسكرية.
وقد شهد العالم كله الموقف السياسي المعلن للقيادة الثورية والقيادة السياسية، وقد رأى العالم أن القول اقترن بالفعل، ولم يقف اليمن مكتوف اليدين، رغم معاناته وحصاره، وتداعي الأمم عليه، وتدمير كُـلّ مقدراته، دون أن يبكيه أحد من العالمين، لكن ثقته بالله جعلته يخرج من بين شواظ النار أكثر قدرة، وأكثر تمكيناً، فشهد العالم صواريخ اليمن تعبر الحدود حتى تصل إلى تل أبيب لتقضي واجب الانتصار للقضية، وكان لها ذلك، حتى رأينا من الناس من يقف مذهولاً ومندهشاً من الموقف ومن اقتران القول بالفعل، ومن الانتصار للقضية، فامتلأت وسائل التواصل بالكلمات الصادقة من مختلف بقاع الدنيا، وعلى ألسنة الكثير من نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي، حتى كاد اليمن أن يذهب بالخير كله، وذلك لعمري من مكارم الله ونعمه على أهل اليمن، فبعد أن وصل الحال ببعض أفراد المجتمع اليمني إلى الشعور بنقص القيمة، وفقدان الانتماء، ويرى جوازه اليمني منقصة في حقه، ها هو العالم والكثير من نشطاء التواصل يحرقون جوازاتهم ذات القيمة والاعتبار ويتمنون الانتماء إلى اليمن، بل ظهر الكثير من الأحرار وهم يحرقون وثائق الجنسية التي يتبعونها، ويعلنون انتمائهم لليمن، ويتمنون جوازها والانتماء إليها، فالجواز اليمني الذي حاربه التحالف العربي ورأى فيه ما رأى رفع الله قيمة أسهمه في عليين وفي وجدان كُـلّ أحرار العالم.
لم تكن صنعاء وسلطتها على كراسي قمة الخزي والعار التي انعقدت بعد شهر من العدوان على غزة وتدميرها وقتل أطفالها، لكن صنعاء كرمزية تاريخية وحضارية وكرمزية سياسية، كانت حاضرة في تفاصيل الطوفان، فالطوفان الأول كانت صنعاء حاضرة فيه من حَيثُ الرمزية الحضارية والتواصل مع معطيات التاريخ، من حَيثُ الحياة في مقابل فناء الغرق في مستنقع الفسوق الذي كان عليه الإنسان في القرون الأولى، وها هو يتجدد نفس المسار، فَـ “طُـوفان الأقصى” اليوم يقوم بذات الوظيفة التاريخية، وصنعاء تقوم بوظيفتها التاريخية كأول مدينة بناها سام بن نوح للحياة والعزة والعيش الكريم في ظل تعاليم السماء ومنهج الله في قرآنه.
نحن اليوم على مشارف واقع جديد لا يشبه إلا نفسه وماضيه وتاريخه ومستواه الحضاري، وقد يرسم اليمن مستقبلاً مجيِّدًا لأمة كانت مجيدة.