اليمنُ يحاصرُ العدوَّ الصهيونيًّ بحرياً ويثبِّتُ موقعَه المتقدِّمَ في مستقبل الصراع الأكبر
حركةُ التجارة “الإسرائيلية” تتلقى ضربةً غير مسبوقة والأُفُقُ مفتوحٌ على احتمالات أكثر رعباً
المسيرة | خاص
حملت العمليةُ التأريخيةُ النوعيةُ التي نفّذتها القواتُ المسلحة في البحر الأحمر، وتكللت بالاستيلاء على سفينة للعدو الإسرائيلي، الكثير من الرسائل والدلالات الاستراتيجية في كُـلّ تفاصيلها، لكن أبرزها وأكثرها شمولًا وحضورًا في واجهة المشهد وفي حسابات العدوّ بلا شك هي تلك الرسائل والدلالات المتعلقة بدور اليمن في الصراع حاضرًا ومستقبلًا، وتأثير هذا الدور على موازين القوى والحسابات العسكرية والسياسية لمنظومة العدوّ كلها في المنطقة؛ فالعملية غير مسبوقة وجاءت ضمن سياق غير مسبوق، وحقّقت آثارا غير مسبوقة وتنذر بتطورات غير مسبوقة؛ الأمر الذي لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال في قراءة وضع الصراع وأفقه من أي جانب.
حصارٌ بحري يمني على الكيان الصهيوني:
بالرغم من أن قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي كان قد أعلن بوضوح تفعيلَ معادلة الاستهداف البحري للعدو، وتوعَّدَ بصراحة بالوصول إلى السفن الإسرائيلية، وكشف أن العدوّ يدرك جدية هذا التوجّـه ويلجأُ إلى التهريب، فَــإنَّ ذلك كُلَّه لم يمنَعِ العمليةَ البحرية من أن تكونَ مفاجئةً مدوِّيةً وتحولًا مدهشًا في مسار المعركة بأكملها بشكل عام، ومسار الدور اليمني فيها بشكل خاص.
وسائلُ إعلام العدوّ الإسرائيلي ركّزت عقب العملية على جانب واحد من هذا التحول، يعتبر بحد ذاته كارثةً على كيان الاحتلال، وهو ما يتعلق بالأثر المباشر للعملية وللخطر اليمني في البحر على حركة التجارة البحرية “الإسرائيلية” التي تجلب للعدو 70 % من الغذاء بحسب صحيفة “يسرائيل هيوم”، علمًا بأن عدةَ مواقعَ متخصصة بشؤون النقل البحري كانت قد أكّـدت قبل أَيَّـام أن كُلفةَ الشحن البحري إلى الأراضي المحتلّة شهدت ارتفاعًا كَبيراً، حَيثُ زادت أقساطُ التأمين ضد المخاطر على السفن إلى عشرة أضعاف، وذلك قبل أن تتعرض أية سفينة صهيونية لأي شيء.
وفي هذا الجانب من آثار وأبعاد العملية هناك نتائجُ كبرى يمكن إيجازُها بالقول إن القوات المسلحة اليمنية فتحت مسارَ “حصار” عملي على العدوّ الصهيوني، من حَيثُ تقييد إمْكَانية إيصال السلع والبضائع إلى الأراضي المحتلّة؛ نتيجة التهديدات المحيطة بالسفن (والتي أصبحت أمرًا واقعًا وملموسًا بفضل اليمن)، وهو أمر ترتبط به العديد من التأثيرات الكبيرة، بدءًا من ارتفاع الأسعار، ووُصُـولاً إلى إصابة الاقتصاد البحري للعدو بالشلل، وهي ربما المرة الأولى في تأريخ كيان العدوّ التي يواجه فيها حربًا اقتصادية كهذه.
وقد أشَارَت وسائل إعلام العدوّ إلى أن السفنَ “الإسرائيلية” والتي لها علاقة بالتجارة مع “إسرائيل” ستضطر للعبور إلى جنوب إفريقيا والدخول إلى حوض المتوسط في مسافة طويلة جِـدًّا؛ بسَببِ التهديدات اليمنية، واللجوء إلى هذا المسار هو أقربُ إلى حَـلٍّ نظري فقط، أما عمليًّا فلا يمكن أن يعتمدَ عليه العدوّ بصورة مُستمرّة؛ لأَنَّه مكلف للغاية.
هذه بالطبع نتائجُ أولية فمع استمرار الصراع، يمكن أن يصلَ الأمر إلى نتائجَ أُخرى غير مسبوقة ومفاجئة للجميع، خُصُوصاً في ظل قُدرة القوات المسلحة اليمنية على تنويع خياراتها والموائمة فيما بينها لتحقيق أضرار أكبر؛ فالسفن قد تُستهدَفُ عسكريًّا وقد يُضبَطُ عليها صهاينةٌ في حال أصر العدوّ على المخاطرة، وقد تترافق ذلك مع ضرباتٌ متصاعدةٌ ومكثّـفة على مواقعَ حيوية في الأراضي المحتلّة وفي إيلات التي كان العدوّ يعتبرها ملاذًا سواء للحركة التجارية المهدَّدة في بقية الموانئ أَو للمستوطنين الذين فرّوا من أماكن القتال داخل الأراضي المحتلّة؛ وهو ما يعني أن الضرر الاقتصادي الذي يحدثه اليمن في البحر قد يترافق مع أضرارٍ أُخرى اقتصادية وأمنية داخل الكيان نفسه، الأمر الذي من شأنه أن يكون مزلزلًا؛ نظراً لأَنَّ العدوّ ينزف بالفعل اقتصاديًّا وعسكريًّا وأمنيًّا في جبهات أُخرى.
ومُجَـرّدُ امتلاك القوات المسلحة اليمنية -المنخرطة في المعركة بكل قوة- لخياراتٍ مستقبلية تصعيدية على مستويات متنوعة يمثل خطرًا “وجوديًّا” مُستمرًّا لا يمكن أن يتجاهلَه العدوّ الإسرائيلي في أَيٍّ من حسابات الصراع، فهو لا يستطيعُ أن يضبطَ إيقاعَ العمليات اليمنية على المستوى الذي يستطيعُ “تحمله” ولا يستطيع أن يتوقعَ حجم ونوع الضربة القادمة التي سيتلقاها في ظل استمرار العدوان على غزة، الأمر الذي يجعل محاولةَ تجاهل التهديد اليمني بمثابة مخاطرة انتحارية.
وبعبارة أوضح يمكن القول إن اليمن اليوم له نصيبٌ كبير من إجبار العدوّ على تجنب خيارات تصعيدية يريد أن يذهب نحوها، وهو لاعب أَسَاسي في معادلة “خروج غزة منتصرة” التي أصبحت أمرًا واقعًا لا بديلَ عنه سوى حرب إقليمية كبرى تُنهِي وجودَ الكيان الصهيوني وتوجّـه ضربة تأريخية للوجود الأمريكي في المنطقة، وهي حربٌ سيكون اليمنُ أَيْـضاً فيها لاعبًا أَسَاسيًّا.
اليمنُ كلاعِبٍ بحري إقليمي ودولي:
ما كشفته العمليةُ البحريةُ اليمنيةُ من تأثير كبير للدور الذي يلعبه اليمن في المعركة، لا يقتصر فقط على القتال الدائر الآن؛ فهذا القتال نفسه هو محور معركة أكبر نتائجُها حتمية التحقّق وفقًا لكل المؤشرات، وأبرز هذه النتائج هو سقوطُ الهيمنة الأمريكية على المنطقة.
الكثير من الخبراء الأجانب الذين علّقوا على العملية البحرية ركّزوا بشكل كبير على احترافية تنفيذها على مسافة بعيدة من الشواطئ اليمنية (يقدِّرُها البعض بـ200 كيلو) وفي ظل ازدحام حركةِ النقل البحري في البحر الأحمر، وبدون إحداثِ أية أضرارٍ جانبية تُضِرُّ بالملاحة الدولية؛ فهذه التفاصيل تعني ببساطة أن القوة البحرية اليمنية تمتلك قدرات نوعية للرصد والمتابعة والتدخل وتنفيذ العمليات بسرعة ودقة، وهو ما يتضمن بالضرورة استعدادًا عاليًا لمواجهة أية عوائق أَو تحديات، والحديث هنا ليس عن عوائقَ عادية بل عن الوجود العسكري المكثّـف للقوى الغربية في البحر.
يرى الخبراء أن ما حدث يوم الاثنين يسلِّطُ الضوءَ على إمْكَانية ما يمكن أن يُحْدِثَه اليمن من تأثير على حركة الملاحة، لكن هذا تعبيرٌ غيرُ دقيق يحاولُ التغطيةَ على حقيقة أن اليمن اليوم أصبح قادرًا ومصمِّمًا على لعب دور في الإشراف على حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر وباب المندب بعد عقودٍ من الهيمنة الغربية شبه المطلقة على هذه الساحة.
وهذه ليست مبالغةً؛ فالاستيلاء على سفينة “إسرائيلية” في البحر الأحمر واقتيادُها إلى الشواطئ اليمنية في الوقت الذي تشهدُ فيه المنطقة توترًا غيرَ مسبوق ومعركة محتدمة تنخرط فيها الولاياتُ المتحدة بأساطيلَ ومدمّـرات تنتشر في الممرات المائية، ليس مُجَـرّدَ حدث عابر، خُصُوصاً وأن القوات المسلحة تتوعدُ بالمزيد من العمليات.
إنه تحوُّلٌ تأريخيٌّ وبدايةُ مرحلة جديدة تتضاءل فيها هيمنةُ الولايات المتحدة والغرب على الممرات المائية في المنطقة، وبالتالي يتضاءل نفوذها المؤثر الذي كاد يحوِّلُ المنطقة برمتها إلى مستعمرة مستباحة.
ولعلَّ “ضبطَ النفس” المزيَّفَ الذي تحاول الولايات المتحدة أن تُبديَه اليوم لتجنب الاشتباك مع اليمن، برغم كُـلّ التهديدات، دليلٌ واضحٌ على أن هناك معادلاتٍ إقليميةً مختلفة وجديدة ساهم اليمن بشكل أَسَاسي في صنعها بالطريقةِ التي تفقدُ معها الولاياتُ المتحدة حريةَ البطش المطلقة التي تعوَّدت أن تملكَها لفرض هيمنتها.
وبإدخَال هذا التحول في كافةِ سيناريوهات وحسابات مستقبل الصراع مع العدوّ الصهيوني ومع الولايات المتحدة، فَــإنَّ كُـلَّ شيء يتغيّر بصورة مدهشة، حَيثُ ترتفعُ بشكل كبير احتمالاتُ سقوط وهزيمة كيان العدوّ وزوال الهيمنة الأمريكية، في مقابل وصعودِ قوىً جديدةٍ مؤثرة تُعيدُ تشكيلَ المنطقة وموازينَها من جديد، وأبرزُ هذه القوى اليمن.