القانونُ الدولي أحدُ المرتكزات لمواجهة مشروع الاستكبار
د. حبيب عبد الله الرميمة*
يدور الكثير من اللغط حول دور القانون الدولي بشكل عام، والقانون الدولي الإنساني -الذي يعتبر أحد الفروع الرئيسية المتفرعة من قواعد القانون الدولي العام- وأهميته، خُصُوصاً أثناء النزاعات المسلحة، وما ترتكبه الدول المعتدية من انتهاكات خطيرة وجرائم وحشية والعجز الواضح في معاقبة تلك الدول عن جرائمها، كُـلّ ذلك يولد لدى البعض فكرة راسخة بعدم جدوى قواعد القانون الدولي كآلية من آليات الحماية الدولية!
يمكن القول هنا إن هذه الفكرة في أَسَاسها ليست قاصرة على العامة، بل كان لها تأييدٌ لدى البعض من فقهاء القانون الدولي العام، الذين اتجهوا إلى نفي صفة القانون عنه؛ باعتبار أن القاعدة القانونية بعناصرها الأَسَاسية، يجب أن تكون عامة ومُجَـرّدة وملزمة، ومن ثم فَــإنَّ القانون الدولي يفتقد إلى أحد تلك العناصر “عنصر الإلزام”؛ بسَببِ اصطدام هذا العنصر “الإلزام” مع أحد المبادئ الأَسَاسية لقيام الدولة القومية المعاصرة القائمة على السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إلا أن هذا التأييد بدأ يخفت تدريجيًّا، خُصُوصاً مع انبثاق قوانين أُخرى متفرعة عن قواعد القانون الدولي العام أصبحت قائمة بحد ذاتها، وتحوي في طبيعتها على عنصر الإلزام، والتي تجبر الدول على احترام تعهداتها مثل قانون التنظيم الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي للبحار، من خلال المنظمات الدولية أبرزها الأمم المتحدة، وما تضمنه ميثاقها من تدابير ملزمة بوجوب احترام عدد من المبادئ، منها عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، وما يترتب على استخدامها القوة من انتهاك مبدأ التضامن الدولي، وحق الدول بردع الدولة المعتدية، ومعاقبتها تحت ما تقرّره نصوص البند السابع، باستثناء حق الدفاع عن النفس.
بالإضافة إلى الاتّفاقيات الصادرة من الأمم المتحدة والتي تصبح ملزمة للدول المصادقة عليها، ومنها الخَاصَّة مثل محكمة الجنايات الدولية فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكبها الدول أثناء النزاعات المسلحة، وهو ما يعد تطوُّرًا لقواعد القانون الدولي بشكل عام، مع التسليم بالعديد من العوائق التي تقف أمامها.
وهذا الموضوع يطول شرحه ولا يمكن أن نتناوله من خلال مقالنا هذا البسيط والمتواضع، لكن في المحصلة نستطيع القول إن وجود قواعد القانون الدولي والقوانين الدولية المنبثقة عنه كمسار لتطور الفكر البشري، وسنة من سنن التدافع لها أهميتها للوقوف في وجه المستكبرين والطغاة، خُصُوصاً عند إدراكنا واقعية جوانب الشر التي تحيط بالبشرية عامة، والتطور التكنولوجي المخيف في الأسلحة النووية بحيث أصبح العالم ينام ويصحو على كومة من أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المحرمة دوليًّا، والتي لا يمنع استخدامها بشكل رئيسي إلا ما تمليه قواعد القانون الدولي، والاتّفاقيات الدولية الخَاصَّة بذلك، وما يشكله استخدامها من انتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني كجرائم تقع تحت طائلة القضاء الدولي ممثلا بمحكمة الجنايات الدولية.
قد يقول قائل: إن هذه القواعد ما هي إلا سيف مسلط على الدول الضعيفة، فأين هذه القواعد مما ترتكبه أمريكا وأدواتها سواءً بالعدوان على اليمن منذ تسع سنوات، أَو غزو العراق، وما يحصل من جرائم وحشية شديدة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي هذه الأيّام في غزة والضفة الغربية!؟
والإجَابَة بكل بساطة أن عدم إنفاذ القانون بحق المارقين عنه لا يعني إنكار القانون وإنما التمسك أكثر فيه، والعمل على تقوية سلطته، من خلال السعي إلى إيجاد وسائل تجبر هؤلاء احترام قواعده.
فقواعد القانون الدولي تشبه إلى حَــدٍّ كبير قواعد القانون الداخلي، على سبيل المثال وجود سلطة هشة، تجعل من شيخ متغطرس أَو مجموعة من المتغطرسين من أصحاب النفوذ أَو السلطة ينتهكون القانون دون استطاعة أصحاب الحق التي انتهكت حقوقهم الحصول عليه عن طريق المحاكم، هذا لا يعني عدم فاعلية القانون أَو أهميّة وجود المحاكم، بل لا بُـدَّ لهؤلاء المستضعفين أن يعدوا ما استطاعوا من قوة، وأن يستخدموا كافة الوسائل منها الوسائل الثقافية، والقانونية، ومقاومتهم لإجبار هؤلاء الطغاة والمستكبرين على احترام حقهم ولردعهم، وبالتالي فَــإنَّ قواعد القانون الدولي مثلها مثل قواعد القانون الداخلي -مع الفارق التاريخي والزمني الكبير بينهما- جميعها ما زالت تخضع للفلسفة القانونية الشهيرة (هل القوة تخلق القانون أم القانون يخلق القوة).
فالكيان الصهيوني المحتلّ وغير الشرعي الذي حاولت أمريكا وإسرائيل شرعنة وجوده بقرارات أممية عام 1948م، لا ننس أنها فشلت في محاولة شرعنته في مناطق أُخرى سواءً في بقية الأراضي الفلسطينية، أو لبنان، أَو الجولان السوري المحتلّ، أَو سيناء المصرية، وهذا ما يجعلنا نراهن أن هذا الكيان اللقيط سيسقط بنفس الطريقة التي ولد بها، وهذا ما بدا واضحًا للعيان بعد “طُــوفان الأقصى” وخروج المظاهرات في معظم بلدان العالم بما فيها بريطانيا وأمريكا للتضامن مع فلسطين، والمطالبة بمحاكمة قادة الكيان الصهيوني كمجرمي حرب، والمأزق الواقع فيه حتى من يدعمون هذا الكيان، إعلامياً، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وقانونياً، وفشلهم بتبرير ما يرتكبه من جرائم رغم ما يمتلكونه من إمبراطورية إعلامية ضخمة.
فهؤلاء الغزاة استعطفوا كذباً الرأي العام العالمي ردحاً من الزمن باسم المحرقة “الهولوكست” والآن يتكشف للرأي العام أنهم مجموعة من المجرمين والقتلة، وهذا تحوُّلٌ مهم في هذا الصراع.
اليوم أكبر ما يخشاه قادة الكيان الصهيوني ليس الهزيمة العسكرية في غزة، والتي أصبحت ماثلة للعيان، وإنما المحاكمات التي ستلاحقهم بعد وقف العدوان سواءً داخلياً أَو دوليًّا، بالإضافة إلى الصورة الذهنية التي أصبحت مطبوعة لدى معظم شعوب العالم عن اليهود بعد أن أنفقوا المليارات لعقود من الزمن لتحسين صورتهم بالمقابل تشويه صورة الإسلام والمسلمين بتهم عدة منها الإرهاب.
من هنا ندرك أهميّة موجهات السيد القائد -سلام الله عليه- في خطابه التاريخي الأخير، عندما شدّد على ضرورة التحَرّك في كافة المجالات لمواجهة هذا العدوّ، وأن يكون للنخب دورٌ في فضح المنظمات الدولية وفشلها في احترام أهدافها، وكذا الدول الغربية التي تتغنى زيفاً بحقوق الإنسان.
فالمعركة تكاملية في جميع الجوانب، فالإمبراطوريات –حسب اعتقادنا- ترتكز على ثلاث أضلاع (القوة والاقتصاد وتبنيها للقيم الأخلاقية) فمتى سقط ضلع من هذه الأضلاع سقطت.
و”أن تشعل شمعةً خيرٌ من أن تلعن الظلام”.
* أُستاذ القانون الدولي المساعد- جامعة صنعاء