سيناريوهاتُ ما بعد انتهاء الهُدنة في غزة.. الكُلفةُ الباهظةُ لـ “إسرائيل”
المسيرة | عباس القاعدي:
أكملت الهُدنةُ يومَها الرابع، أمس الاثنين، 27 نوفمبر 2023؛ لتضَعَ أكثرَ من احتمال حول مستقبل غزة في صراعها مع العدوّ الصهيوني، وهل سيتوقف العدوان أم أن جولة قادمة ستكون أشد وأقسى؟ وهل ستتفجر حرب إقليمية في المنطقة أم أن المساعي الدولية ستتحَرّك لإخماد فتيل الحرب؟
بالنسبة للمقاومة الإسلامية في قطاع غزة فَــإنَّها وعلى مدى 48 يوماً من عملية “طُـوفان الأقصى” استطاعت أن تفرض شروطها وأن تحقّق الكثير من المكاسب الميدانية على أرض الواقع، حَيثُ لم يتوقف العدوّ الإسرائيلي عن قصفه المتوحش ويقبل بالهدنة إلا مرغماً بعد تلقيه خسائرَ هائلةً في معداته وعتاده وجنوده، إضافة إلى تلقيه صفعاتٍ مدويةً من الجبهتَين: اللبنانية واليمنية، واللتَين شكَّلتا هاجساً مقلقاً للكيان، ولم يتمكّن من الاستفراد بحركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والقضاء عليها.
لكن في المقابل انقشع غبار الحرب في غزة، ليخلف أكبر مأساة إنسانية على الإطلاق؛ فالعدوّ قد تمكّن من تدمير أحياء سكنية بكاملِها بالقنابل والغارات، وقتل وأصاب ما يقارب الخمسين ألفاً من المدنيين والأبرياء، وأدخل قطاع غزة في واقع مأسوي مع انعدام كُـلّ مقومات الحياة، كانقطاع الكهرباء والمياه والمرافق الصحية، وانهيار كافة الخدمات.
وأمام هذا الواقع فَــإنَّ السيناريو الأول المحتمل: هو عودة الحرب والتصعيد، لا سِـيَّـما أن العدوَّ الإسرائيلي لم يحقّق كافة أهدافه التي أعلنها في بداية الحرب، ومنها ما يدَّعيه القضاء على حركة حماس، وتهجير سكان غزة، لكن عودة التصعيد ستشعل المنطقة برمتها، وستوسع دائرتها وجبهاتها؛ فالمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان كانت قد صعَّدت في الأيّام الأخيرة التي سبقت الهُدنة من وتيرة مواجهاتها مع الكيان الصهيوني، وفي حال عودة الحرب قد تتدحرج الأمور ويدخل حزبُ الله في حرب شاملة مع إسرائيل ستكون ضريبتها أعنف وأقسى على الكيان المحتلّ.
كما أن المقاومة في الضفة ستتصاعد، ويتصاعد معها الرد اليمني الذي وصل إلى ذروته مع الاستيلاء على سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر واقتيادها إلى السواحل اليمنية بالحديدة.
لذا فَــإنَّ عودة الحرب سيضيف سيناريو آخر يتمثل في محاولة إسرائيل الضغط من خلال القصف المتوحش؛ بهَدفِ تهجير الفلسطينيين وقصف المزيد من الأهداف المدنية واستهداف ما تبقى من بنية تحتية، وتدمير المدمّـر، كما أنه سيؤدي إلى اتساع رقعة الحرب الإقليمية وضرب الاقتصاد العالمي وإحداث أزمة عالمية، ناهيك عن انهيار الاقتصاد الإسرائيلي وهذا ما لا تريده أمريكا.
وفي حالة عودة الحرب الحالية فَــإنَّ ضغوطاً عدةً قد تدفع حكومة الاحتلال الإسرائيلي لوقف عدوانه، منها تصاعد الغضب الشعبي في دول العالم، ولا سيَّما في أمريكا وبريطانيا والدول الغربية، خَاصَّة بعدما اكتشف العالم حقيقة هذا الاحتلال المتغطرس والصورة المأساوية للدمار الذي خلفه في قطاع غزة خلال الشهرَين الماضيين.
التمديدُ أَو التجديد:
أما السيناريو الثاني فَــإنَّه يندرج تحت التمديد أَو التجديد للهدنة؛ أي السعي لتعزيز الهدنة والشروع في البحث عن حلول سياسية ودبلوماسية؛ بحيث يكون تمديداً للهدنة وتبادل الأسرى وسط ضغط الشارع الإسرائيلي الذي من الممكن أن يشكل دافعاً لتمديد الهدنة أَو العودة إليها؛ لأَنَّ العائلات الإسرائيلية الأُخرى تريد أن تستلم أبناءها المعتقلين لدى المقاومة، والسعي لفتح أكبر لمعبر رفح لإدخال المساعدات مع تراجع القوات الإسرائيلية إلى حدود القطاع، والاتّفاق على إعادة المهجَّرين إلى شمال القطاع.
لذا فَــإنَّ تمديد الهدنة خيارٌ شبه إجباري لاستكمال صفقة الأسرى، التي ينص الاتّفاق أن تكون على مرحلتين على الأقل:-
أولاهما: الإفراجُ عن الأطفال والنساء، وهذه أولوية ذات طابع إنساني.
وثانيهما، ملغمة بالحسابات والتعقيدات السياسية وردَّةِ أفعالها، حَيثُ تطلب حركاتُ المقاومة الفلسطينية تبييضَ السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن الأسرى العسكريين الإسرائيليين، وهذه هي الورقة الأهم في يد المقاومة، حَيثُ توجد لديها قيادات كبيرة في الجيش، ولا يمكن بأي حال تركهم أَو التباطؤ بشأنهم؛ لتفادي أي تمرد أَو عصيان في الجيش، والمقاومة ستتفاوض بشأنهم من منطلق الكل مقابل الكل؛ أي إطلاق سراح جميع الأسرى في سجون الاحتلال مقابل الأسرى العسكريين الإسرائيليين، فضلًا عن ترتيبات تخص القطاع الفلسطيني، وتحديدًا ما له صلة برفع الحصار، وإدخَال المعونات الإنسانية، فضلًا عن انسحاب القوات الإسرائيلية الغازية من شمال قطاع غزة.
تغيُّرُ مسار الحرب:
وبالإضافة إلى السيناريوهات السابقة فَــإنَّ حكومةَ الاحتلال بعد فشلها في تحقيق أهدافها المعلَنة في هذا العدوان من المحتمل أن تلجأ إلى تغييرِ طبيعة الحرب، من خلال اللجوء إلى عمليات عسكرية مركَّزة ونشاطات استخباراتية دقيقة، كتنفيذِ عمليات الاغتيالات في الخارج ضد قيادات المقاومة حماس، واستخدام الترغيب والترهيب للمواطنين الفلسطينيين، واستمرار عمليات الرصد الاستخباراتي، ومخاطر التصرفات الفردية والتحصينات المعقدة، وتوسيع المناطق المحظورة داخل القطاع، واستمرار الحصار شبه الكامل الذي فرضته إسرائيل في 8 أُكتوبر الماضي.
وفي إطار السيناريوهات، ووفقَ رؤية أمريكية بريطانية فاشلة يتم طرح العديد من المخطّطات لمستقبل غزة، منذ سيطرة حماس على القطاع، منها إعادة السلطة الفلسطينية العميلة لإدارة قطاع غزة، أَو تسليمه للإدارة المصرية، أَو تسليمه لإدارة دولية عربية مشتركة، أَو تسليمه لقوات الناتو والأمم المتحدة، أَو إعادة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.
ولهذا وبعد الفشل المُستمرّ لكل السيناريوهات والمخطّطات المحتمَلة، فَــإنَّ كُـلّ المشاريع الأمريكية الإسرائيلية التي تتعلق بمستقبل غزة، قوبلت بالرفض والردع؛ لأَنَّ غزة اليوم ليست مثل الأمس، وبالتالي يبدو أن التركيزَ الأمريكي الغربي في المرحلة المقبلة لما بعد الهدنة، سيكون على إعادة إحياء عملية السلام؛ مِن أجل الوصول إلى تنفيذ ما يسمونه “حَلَّ الدولتين”، وهذا ما تتحدث عنه الولايات المتحدة والتي أكّـدت أكثر من مرة أنها عازمة على إطلاق جهد كبير؛ مِن أجل تطبيق هذا الخيار انطلاقاً من اقتناعها بأن هزيمة حماس عسكريًّا لا تكفي، وأن الفلسطينيين بحاجة إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، مع تبادل للأراضي بين الدولتين، في إشارة إلى تفاهمات ونقاشات سابقة على هذا الأمر بين السلطة الفلسطينية العميلة ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
ولهذا فَــإنَّ ما بعد الهدنة مرشح للانفجار في أية لحظة، وسيناريوهات ما بعدها مفتوحة على رهانات متناقضة، كما أنها فرصةٌ لالتقاط أنفاس الأربعة الأيّام عنوانها الرئيس تبادل الأسرى وإدخَال معونات ومساعدات غذائية وطبية وإمدَادات وقود إلى القطاع المحاصر، وبالتالي فَــإنَّ الهُدنةَ تسمحُ بمسارَين متناقضين: فإما أن تكون خطوة لإيقاف الحرب، أَو أن تكون محطة لتصعيدها، ولكل مسار تكاليفُه وأثمانُه وتداعياتُه على الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى مستقبل الشرق الأوسط كله وأُورُوبا، بل وعلى العالم أجمع.