التحالُفُ الدوليُّ الجديد
عبدالرحمن مراد
العالم اليوم يتحَرّك من تحت أقدام النظام الرأسمالي الذي يمارس الغبن والاستغلال للشعوب، بعد أن ربض هذا النظام ردحاً من الزمن، لم تجن الشعوب منه سوى الحروب والصراعات والانقسامات وتفشي روح الاستغلال والغبن للمقدرات، والتحكم بأقدار الناس وحيواتهم ورفاهيتهم وسعادتهم من خلال صناعة الأزمات، والفيروسات، والانتهاكات لقيم المحبة والسلام والتعايش السلمي والآمن بين الثقافات والحضارات، ومن خلال سعي الرأسمالية إلى العولمة، وتشكيل نظم اجتماعية لما بعد الحداثة يكون الفرد فيها حراً حرية مطلقة، لا تحكمه سوى المصالح المتبادلة، أَو ما يؤمل من المصالح والمنافع دون أي اعتبار للقيم والمبادئ، ولا للقوانين والعهود الدولية، هذا العالم المتخيل بدأ يتشكل اليوم من خلال القفز على مبادئ وعهود الإنسان الدولية، وما حدث في اليمن وما يحدث اليوم بغزة دلائل واضحة على هذا التوجّـه، والسعي إلى هدم التطبيقات الاجتماعية، وتفكيك النظم العامة في القانون العام والطبيعي، وعدم احترام النظم الثقافية والاجتماعية والعقائدية، وتشجيع الأفراد والجماعات على الثورة عليها من خلال حالة الانفلات التي عليها المجتمع الافتراضي في شبكات التواصل الاجتماعي والتي بالضرورة سوف تعكس نفسها في الواقع المعيش للإنسان فرداً كان أَو مجتمعاً.
ويسعى النظام الرأسمالي إلى الاشتغال على مفردات القوة الناعمة بكل تفاصيلها في التفاعل مع قضايا الشعوب التي يدير صراعها ويتحكم في مصائرها ويرى في القوة الناعمة الأكثر تأثيراً والأقل كلفة من القوة الصلبة، وهي في الواقع الأكثر خطرًا على هُــوِيَّات البلدان والشعوب وثقافتها ومستقبلها، وقد رأينا أثر ذلك في العدوان على اليمن، ومن ثم نراه اليوم في حقائق الموقف مما يحدث في فلسطين وبالتحديد في غزة من حرب إبادة شاملة تجرف الإنسان والحجر والشجر دون أن يتحَرّك للضمير الإنساني نبض أَو يرف له جفن.
ويرى المفكرون أن القوة الناعمة التي تنتهجها السياسَةُ الرأسمالية تشبه الطقس يعتمد عليه ويتحدث عنه كُـلّ شخص، ولكن لا يفهمه إلا القليلون من حَيثُ التنبؤ بالتغيرات التي ترتكز في منهج السياسة الرأسمالية على ثلاث مرتكزات هي:
– ثقافة البلدان والشعوب.
– السياسة الخارجية.
– البعد الاقتصادي للبلدان والشعوب.
ولعل البعد الاقتصادي يلعب دوراً محوريًّا في القوة الناعمة فأمريكا تحتل المرتبة الأولى عالميًّا فهي تشكل عامل جذب لستة أضعاف من المهاجرين الأجانب، وهي في السياق نفسه أول وأكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية، وتتحكم بالتطبيقات لمصادر الوعي العالمي، ومن خلال التحكم بمصادر الوعي استطاعت أمريكا أن تقنعَ العالم بخطورة الأنظمة التحرّرية التي استطاعت الصمودَ، والاشتغالَ على تفكيكها، ولنا في العراق مثالاً حياً في ذلك، فالقارئ لما وصل إليه المجتمع العراقي يدرك بما لا يدعُ مجالاً للشك أن أمريكا استطاعت اختراقَ المجتمع العراقي واشتغلت على إفساده إلى درجة الميوعة وانهيار القيم، ومثل ذلك مدرك من خلال حفلات الأعراس في المجتمع العراقي التي تبثها شبكات التواصل الاجتماعي.
اليوم أمريكا تسعى إلى تشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر، وهي تدرك وفق الكثير من المؤشرات والرموز التي يبعثها الواقع أنها غير قادرة على الحرب الصلبة، فاضطراب البحر يهدّد مصالح العالم كله، وهي في السياق لا تتوقع حسم معركتها مع اليمن في ظرف زمني وجيز، وفي نفس الوقت تعمل على حماية مصالح إسرائيل وكانت تتوقع أن يتداعى دول الإقليم لخوض المعركة بالنيابة عنها، ويبدو من ظاهر الأمر أن تجربة السنوات الماضية كانت كافية لبعض دول الجوار في التحالف العربي الذي شن حرباً عدوانية ضروس على اليمن في التفاعل مع الحلف الجديد، الذي لم يكن فكرة ملائمة سوى لبعض أذيال الإمارات في اليمن، والذين من المحتمل أن يشنوا حرباً بالنيابة عن إسرائيل وأمريكا في اليمن تحت شعار حماية الملاحة الدولية، وهي في الحقيقة حماية لإسرائيل ومصالحها.
ما قامت به اليمن من نصرة لفلسطين كان موقفاً معلناً وواضحًا أنه لا يهدّد إلا إسرائيل وما يمت لإسرائيل بصلة، وليس تهديداً للملاحة الدولية، فاليمن تعامل إسرائيل بالمثل من حَيثُ قطع الإمدَادات وحصارها بحرياً حتى تكف عن عدوانها على غزة، وتفتح المنافذ لشعب غزة، وهذا موقف إنساني يفرضه الضمير الجمعي ويمليه على اليمن الضمير الديني، وقد وافق هذا الموقف تطلعات كُـلّ أحرار العالم الذين رأوا في موقف اليمن موقفاً مشرفاً يعلي من القيم العليا للعهود ومواثيق حقوق الإنسان.
اليمن التي تحالف العالم عليها على مدى عقد من الزمان وشن عدواناً غاشماً عليها خرجت منه أكثر قوة وصلابة، وأصبحت من خلال تفاعلها مع القضية الفلسطينية تقدم نفسها كقوة إقليمية لا يستهان بها في المنطقة، ولذلك لا أرى أن التحالف الدولي الجديد سيخوض حرباً صلبة على اليمن، ووفق منهج السياسة الأمريكية فهي سوف تذهب إلى خيار القوة الناعمة، وهذا الرأي يذهب إليه الكثير من المحللين السياسيين، وبالتالي علينا أن ندرك خطورة المرحلة ونتعامل معها بحذر شديد، ولا يعني ذلك الركون إلى القوة الصلبة في حماية مقدراتنا وانتصاراتنا بل يعني تنمية القوة الناعمة الوطنية حتى تكون في مستوى القوة الصلبة في مواجهة أمريكا وإسرائيل، فنحن اليوم أكثر ميلاً في الركون على القوة الصلبة وتركنا القوة الناعمة دون رعاية أَو عناية وهذا أمر يجب الانتباه له حتى لا نجد أنفسنا في معركة غير محمودة العواقب، خَاصَّة وقد توفرت لنا المعلومات وعرفنا الكثير من الأسرار والخفايا، ونحن في ظرف دولي يقظ تحَرّكه الرغبة في الخروج من هيمنة الرأسمالية العالمية، وكَثيراً ما ننبه على تفعيل دور الجبهة الثقافية والاشتغال عليها حتى نتمكّن من السيطرة على مقاليد المستقبل.