2023.. “عامُ “طُـوفان الأقصى”.. “طوفان صنعاء”
د. محمد البحيصي*
أرّخت الأممُ والشعوبُ لأيّامِها ولأعوامِها بأهمِّ الحوادث التي كانت تقع في ذلك العام، ومن هنا عرفنا أعواماً مثل عام الفيل وعام الثورة، وعام الرّمادة، وعام الفتح، وعام الطاعون، وعام الثلجة، وعام الجراد، وعام النكبة… إلخ، وتداول الناس أسماءَ تلك الأعوام حتى غلبت على التاريخ الرقمي قبل الترقيم وبعد الترقيم.. وحُقَّ لعام 2023 أن يتشرّفَ بحمل اسم “عام الطوفان”.
ولو أننا اعتبرنا “طُـوفان الأقصى” الحدث الأهم في تاريخ شعبنا منذ سبعة عقود لما كنّا تجاوزنا الحقيقة، وعليه فليس بكثير أن نسمّي العام المنصرم بعام “طُـوفان الأقصى” أَو عام “الطوفان”.. وحتى القرآن العظيم جعل من الطوفان تاريخاً لما قبله ولما بعده، وفُرقاناً بين أُمَّـة ركبت سفينة “نوح” فنجت، وأمّة تخلّفت عن الركوب فأغرقت وهلكت غير مأسوف عليها.
“طُـوفان الأقصى” بحق هو “السفينة” التي أحكم اللهُ صناعتَها على عينه بأيدي المجاهدين الصادقين وعلى مدى سنوات طوال كان هَمُّهم ودأبُهم أن يصنعوها، وَإذَا كان نبي الله “نوح” (عيه السلام) قد صنعها في محيط من السخرية والتندّر والاستهزاء، فَــإنَّ رجال الله صنعوا سفينتهم في محيط من القتل والقصف والتدمير والحصار والتجويع وحتى التشكيك.
“طُـوفان الأقصى” كشف عن مخزون الإرث الإيماني، والإرادَة، والقدرة، والاستعداد للتضحية، والتفوّق الأخلاقي والقيمي والعلمي والإنساني للشعب الفلسطيني، وتوثُّبه لصناعة الحياة الحرّة الكريمة، وصبره، وتحمّله، ووعيه وبصيرته، وكيف أنّه رغم الاحتلال وما يمثّله من مصائب وقهر وظلم واستكبار، إلّا أنه في معركة الوجود، كان الأجدر، والأقدر.
“طُـوفان الأقصى” كشف أكثرَ عن حجم القبح والإجرام والكراهية، واللّاإنسانية الذي عبّرت عنه المجازر الجماعية وحرب الإبادة التي قام بها الاحتلال الصهيو أمريكي اليهودي في فلسطين والمنطقة؛ فأمريكا وإسرائيل قبحٌ محض، وإجرام محض، وشرٌّ محض، وقد استطاع “طُـوفان الأقصى” أن يعرّي هذه المنظومة التي فرضت هيمنتها على أكثر دول العالم، وقدّمت أُطروحةُ “نهاية التاريخ” وَ”صراع الحضارات”؛ باعتبار أنّها العالَمُ الجديدُ الذي ورث العالم القديم التاريخي، وأنّ حضارتها هي الأجدرُ بالبقاء والسيادة، وافتراض سحق سائر الثقافات وأولها وأخطرها الثقافةُ الإسلامية ودول الحوض الإسلامي الكبير..
فجاءَ “طُـوفانُ الأقصى” ليكشفَ عن هول الهمجية والتخلّف والتحلّل والإجرام والدموية التي كوّنت وأسّست لهذه الحضارة الفاوستية التي باعت روحَها للشيطان من أول يوم، وأنّ عالماً يقوده هذا المشروع الشيطاني الذي تعتبر أمريكا وأُورُوبا مركَزاً له، ويعدّ نفسَه مركَزاً للعالم، لن يستقرَّ أبداً وسيبقى في حالة فوضى واضطراب وفساد، حتى تسقط مقولته التي تدّعي المركزية، وحتى يركل ويزاحَ عن كرسي القيادة وموقع القطبية التي اغتصبها بالدم والنار والحديد، وإبادة الشعوب ونهبها، ومصادَرة حريتها وكرامتها.
“طُـوفانُ الأقصى” وضع البشريةَ كُلَّها من جديد أمام امتحان إنسانيتها، وما معنى أن تقفَ على مفترق الحق والباطل لتختار أيَّ النهجَين تسلك، وإلى أي المعسكرَين تنحاز، وتحت أيٍّ من الرايتين تقف، حَيثُ لا وقت لتأجيل الإجَابَة.
“طُـوفان الأقصى” كشف الغطاءَ عن مواقف الجميع:
“طُـوفان الأقصى” منح أملاً جديدًا، وأفقاً واسعاً، وعبّد طريقاً مستقيماً للفقراء والمستضعفين، وقدّم برهاناً قاطعاً وحجّـة بالغة على يقينية وراثتهم وتمكينهم، وأنّه قطعي الثبوت قطعي الدلالة على هذه الحتمية القرآنية، ولقد رأى الناس هذه الآية الربّانية كأبصر ما تكون الآية، ليس بينهم وبينها حجاب، وكالعادة انقسم الناس عليها فمنهم من صدّق وآمن ومنهم من كذّب وكفر، وهذه سُنّة الله في الذين خلوا من قبل..
صدّق وآمَن بها المجاهدون فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون.
وكذّب وكفر بها المنافقون أولياءُ إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب؛ فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا بغيظِهم وهم كافرون..
“طُـوفان الأقصى” مشهد من مشاهد الحشر لليهود على طريق إجلائهم من كُـلّ فلسطين، كما كان مشهد إجلاء بني قينقاع وبني النضير في المدينة مقدمة لإجلائهم جميعاً من المدينة ثم من جزيرة العرب..
لقد كان إجلاء اليهود ممّا يسمّى “غلاف غزة” بهذا الشكل الذي شهده العالم أجمع، وما كان أحد يظن إمْكَانية ذلك في حق كيان زعموا أنّ جيشه لا يُقهر:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ من حَيثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الحشر:2
وهذه بُشرى ترتقي إلى مرتبةِ اليقين، وقد أبصرنا مقدماتها تتحقّق ونحن موقنون بتحقيق خواتيمها كما كان الأمرُ في الأولى.
– “طُـوفان الأقصى” كشف الغطاء عن مواقف الجميع تجاه فلسطين، الناصرين والخاذلين، المتقدّمين والمتأخرين، الصادقين والكاذبين، المجاهدين والقاعدين، وكأنّه مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة، حَيثُ تُبلى السّرائر، وحيث لا تخفى خافية، وحيث ينظر المرء ما قدّمت يداه، وحيث تثقل موازين وتخف أُخرى، وكأنّه الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، خافضةٌ رافعة.
– “طُـوفان الأقصى” يوم من أَيَّـام “الغرباء المستضعفين” الآن الله لهم الحديد، وكان يدهم في التسديد، هداهم بالكتاب وسخّر لهم الأسباب، وأجرى لهم السحاب، وفتح لهم الأبواب، ونصرهم على (الأحزاب).
– “طُـوفان الأقصى” هدى الله إليه من أراد به خيرًا، وأضلّ عنه من تدنّس بعار موالاة اليهود والنصارى، فكأنّه الفرقان بين الهدى والضلال، والصدق والبهتان، ومرّةً بعد أُخرى وإزاء كُـلّ امتحان، يجيء أهلُ اليمن في طليعة الناس وقد جعلهم اللهُ أئمةً في طريق الحق يهدون بأمره لمّا صبروا وكانوا بآياته يوقنون، لا يضرّهم من خالفهم، ولا من خذلهم، ولا من حاربهم، ولسان حالهم ومقالهم يقول لقائدهم عَلَمِ الهُدى كما قال أسلافُهم من الأنصار لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “أظعِنْ حَيثُ شئت، وصِلْ حبلَ من شئت، واقطع حبلَ من شئت، وخُذْ من أموالنا ما شئت، وأعطِنا ما شئت، وما أمرت فيه من أمر؛ فأمرُنا تَبَعٌ لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلُغَ البرك من غمدان لنسيرَنَّ معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، إنّا لَصُدُقٌ في الحرب، صُبُرٌ عند اللقاء”.
ولو لم يكن من بركات “طُـوفان الأقصى” إلّا ظهورُ موقف اليمن (قائداً وشعباً وجيشاً) على كُـلِّ المواقف، لَكَانَ ذلك كافياً، فكيف وقد صنع ما صنع وما سيصنعُ في هذه الأُمَّــة وفي العالم أجمعَ.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف:21.
* كاتب وباحثٌ فلسطيني