بين صنعاء ولاهاي.. تأثيرُ القوة الصُّلبة والقوة الناعمة
ما بين موقف صنعاء ولاهاي علاماتٌ ومؤشراتٌ تقيسُ حجمَ تأثيرات قوتَين تمارسان الضغطَ على كيان الاحتلال
كلاهما يضع “إسرائيل” في موقف المتهم وبخانة “المجرم”.. لكنْ أيُّهما يغلُبُ الآخر؟ وأيهما بالغُ الأثر؟
المسيرة| إبراهيم أحمد العنسي
من بين رُكامِ وحَصَارِ تسع سنوات عجافٍ، تمخَّضت الأحداثُ بدراماتيكيتها نحوَ أفقٍ أوسعَ تأثيراً، والحقيقةُ أن ذلك السلوكَ العدائي لواشنطن – تل أبيب – بريطانيا – ألمانيا وفرنسا، قادت صنعاءَ نحوَ جبهة واسعة وموقفٍ عالمي التأثير، تجاوز حصارًا وعدوانًا عربيًّا على اليمن، إلى ما هو أبعدُ وأشدُّ تأثيراً وأثراً.
على غير المتوقَّعِ، برزت قوةُ اليمن في ساحةٍ إقليميةٍ تتجاوَزُ مأساةَ هذا البلد، اُختُزلت فيه سنواتُ وحدودُ بناء وحضور قوة عسكرية “نوعية” و”استراتيجية”، هذه القوةُ الكامنة تجاوزت مواجهةَ الجوار العدوِّ في الرياض وأبو ظبي، إلى مَـا هو أبعد بكثير، وهنا كانت المفاجأة لبلد بثقله الجيوسياسي.
كان هذا الحضورُ اليمنيُّ العسكريُّ كإحدى مفاجآت العقدِ الثاني من الألفية الجديدة بمثابة كابوس للأمريكان، كما كان كابوساً لليمين الإسرائيلي واليمين المسيحي المتصهين “الأفنجيلي” الذي يتجاوزُ تأثيرُه تأثيرَ الآيباك في الوقت الحالي.
إسقاطُ عقيدة ماهان:
مسألةُ كسر الأمريكان في مواجهات البحر الأحمر وخليج عدن، كانت ضربةً موجعةً للعقيدة البحرية الأمريكية، أَو ما يُعْرَفُ بـ “عقيدة ماهان”.
بمقياس العقيدة البحرية الأمريكية فَــإنَّ صواريخ ومسيّرات اليمن التي استهدفت مدنَ وموانئَ الكيان الإسرائيلي، هي بالأَسَاس ضربة لجبهة أمريكا الأمامية؛ فالعقيدة البحرية هذه، أوهمت العالَـمَ طويلاً أن هدفَ انتشار الأساطيل البحرية الأمريكية كان حمايةَ التجارة العالمية؛ فيما هي تعني بوضوح، السيطرةَ على التجارة العالمية والسيطرة على العالم وحكمه، حَيثُ تبدو سمة غالبة لدول الاستعمار منذ قرون بتصدير المبرّرات “الأخلاقية” لاحتلال العالم والسيطرة على مياهه وبحاره.
بناءً على هذه العقيدة البحرية فَــإنَّ العملياتِ العسكرية اليمنية -سواءً في الداخل الفلسطيني المحتلّ أَو في المياه اليمنيّة- أَدَّت في حقيقة الأمر إلى تفكُّكِ تلك العقيدة وضربِها في مقتل؛ لذا أُرغِمَ الأمريكان على الخروج من “خلفية” مشهد العدوان على اليمن وإعلان المواجَهة الصريحة والمباشرة مع هذا البلد العريق.
مع إعلان اليمن رسميًّا الوقوفَ مع غزة والشعب الفلسطيني، أواخرَ تشرين الأول / أُكتوبر الماضي، كان هذا يعني أن حظوظَ الدبلوماسية والتفاهمات السياسية في المنطقة لا رجاءَ منها.
ومع هذا الموقفِ، ظهرت مزيدٌ من مؤشرات التراجع والضعف الأمريكي، حَيثُ تجلَّى عجزُ سيد البيت الأبيض عن تأمين سيطرته البحرية على الملاحة في واحدٍ من أهم الممرات المائية في العالم، وبروزُ ثغرة في التواصل “الجغرافي” المباشر بين أهم الأساطيل الأمريكية، ما بين البحر الأبيض المتوسط والبحر العربي والخليج، حَيثُ الأسطولَينِ الخامس والسادس.
واشنطن في عيون الحلفاء:
لقد ظهرت الولاياتُ المتحدة -ما بعد المواجهات الساخنة في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي- في صورة أكثرَ ضعفاً أمام من تسميهم الحلفاء والشركاء، ما بعد العجز عن تأمين وصول سفن السوق الإسرائيلية عبر المياه اليمنية؛ فإذا كان هذا العجز قد سجل بحق حماية الحليف الأول لواشنطن في الشرق الأوسط؛ فهذا معناه أن أمريكا لن تكونَ بيدها حيلةٌ لحماية حلفائها من الغرب وعرب الخليج.
ومع كُـلّ هذه الجلبة التي أحدثتها واشنطن في البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن تجد هذه القوى نفسها تعيشُ حالةً من الفوضى صدرتها محاذيرُ وتخوفات السقوط الأمريكي القريب وانكشاف عورة واشنطن في الداخل والخارج الأمريكي، لقد كان لحاكم أوكلاهوما تصريحٌ واضحٌ ومهم، “على أمريكا أن تحميَ مؤخرتها بدلاً عن حمايتها البحر الأحمر الذي ليس لها”.
والحالُ نفسُه مع انكشاف عورة بريطانيا، حَيثُ يسوَّقُ في الداخل البريطاني ما هو أقربُ لفضيحة عسكرية، تشخِّصُ صحيفة “التلغراف” وضع البحرية البريطانية بعبارات عجزها عن المواجهة مع اليمن أَو التعامل مع الأهداف البرية اليمنية.
وهذا يفسر التراجع البريطاني عن مشاركةِ الحليف الأمريكي واقتصاره على حضور بحري باهت جِـدًّا.
ومع تجلي صور الضعف الأمريكي الغربي، تحاول أُورُوبا أن تبقى على مسافةٍ آمنةٍ على خارطة الصراع في المنطقة، وخَاصَّةً في منطقة البحر الأحمر.
إلى جوار هذا الحضور الخافت، تشعر دول الغرب بحجم الاستغلال الأمريكي للحدث والذي يدفع أُورُوبا نحو مشاكلَ اقتصادية هي في غنىً عنها، فيما واشنطن لا تكترث، حَيثُ إن مصلحةَ “إسرائيل” مقدَّمةٌ بفعل الحضور والضغط الكبير للوبي الضغط اليهودي واللوبي المسيحي الصهيوني؛ لذا يشعرُ ساسةُ أُورُوبا أنه لا يجب الانجرارُ خلف القوة والحماقة الأمريكية؛ إذ لا علاقةَ للمواجهات البحرية بالذكاء السياسي والمصالح الأُورُوبية، حَيثُ يعتقد الاقتصاديون أن انخفاض التضخم الذي تمتعت به أُورُوبا العام الماضي يتباطأ، معيقاً بذلك التخفيضَ المحتملَ في أسعار الفائدة الرئيسية، في حال استمرت الهجماتُ اليمنية.
فيما التقديراتُ تشيرُ إلى أن مضاعفةَ تكاليف الشحن على مدى أكثرَ من ثلاثة أشهر من الممكن أن تدفعَ معدَّلَ التضخم في منطقة اليورو إلى الارتفاعِ بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية، وتخفيض النمو الاقتصادي بمقدار نقطة مئوية تقريبًا.
ومع ضعفِ اقتصادِ منطقة اليورو فَــإنَّ ذلك سيدفعُه إلى الانكماش خلال عام، وهذا ما يُشعِرُ دولَ منطقة اليورو أن استمرار عدوان غزة واستمرار الإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ستقودُ اقتصاداتهم إلى مزيدٍ من الأزمات التي تعاني منها أُورُوبا.
ضرباتٌ موجِعةٌ لـ “إسرائيل”:
ومع تراكم أزماتِ الداخل الإسرائيلي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تشكل مادةً لاستنتاجات باتت أقربَ لمسلَّماتٍ، أن كيان “إسرائيل” يعيشُ حالة ضَعف بنيوي، وأنه مهما قاوم فَــإنَّه في طريقه إلى التفكك، حَيثُ التقارير السرية في الداخل الإسرائيلي تتخوف كَثيراً مما وصل إليه هذا الكيان المصطنع، بل تؤمن بثقافة الرحيل عن بلاد ليست موطناً لهم.
مع كُـلّ هذا فَــإنَّ التأثير -الذي ألحقتْهُ ضرباتُ صنعاء بمدن وموانئ “إسرائيل”- راكمَ من تعقيدات المشهد الإسرائيلي، وأضفى عليها تأثيرات مباشرة وجانبية على مستوى الحياة العامة في الداخل الإسرائيلي المحتلّ؛ إذ تؤكّـد تقارير اقتصادية أن صواريخ ومسيّرات صنعاء التي تستهدفُ العمقَ الإسرائيلي أَو تلك التي تستهدفُ السفن المتجهة لموانئ الكيان، أَدَّت إلى تراجع نشاط تلك الموانئ بما فيها ميناء حيفا إلى مستوياتٍ غير معهودة، حَيثُ تعاني “إسرائيل” ارتفاعَ أسعار مختلف البضائع على نحو غير مسبوق، شمل المستلزماتِ الغذائية الأَسَاسية؛ بسَببِ قلةِ البضائع في السوق مع ارتفاع كلفة الشحن البحري بما فيها التأمين على المخاطر، حَيثُ بدائل الشحن البحري مكلفة للغاية ولا يمكن للاقتصاد الإسرائيلي تحمّلها على المدى البعيد.
كما شكّلت الأعمالُ العسكرية ضد السفن المتجهة لـ “إسرائيل” في البحر الأحمر تحدياً إضافياً لجهة الأعباء المالية والاقتصادية لكيان الاحتلال، الذي يمتلك منفَذاً وحيداً على البحر الأحمر عند أم الرشراش (إيلات)، ويعتبر هذا المنفذ من أهم المصالح الحيوية للكيان، وهو أكبر ميناء لاستيراد السيارات، تصل إليه 44 % من جميع المركبات التي تصل إلى “إسرائيل”، ومع تعطل النشاط فيه بنسبة 85 % يكون هذا الميناء الهام على وشك منح العاملين فيه إجازة مفتوحة تضيف أعباء مالية واقتصادية على كيان العدوّ.
وبحسب نائب رئيس الشحن الدولي في شركة “يو بي إس” الإسرائيلية “إل شاخيم”، فَــإنَّ هناك زيادة ما بين 40 % إلى 50 % في أسعار الإبحار والشحن من آسيا إلى “إسرائيل”، مع إعلان معظم شركات الشحن أنها ستقوم بتفريغ البضائع في موانئ أُورُوبا ثم نقلها بسفن أصغر إلى “إسرائيل”، وهو ما يزيد أَيْـضاً من التكاليف.
لهذا يعتبر إل شاخيم، ما يقومُ به اليمن ضد كيان الاحتلال في البحر الأحمر “موجة تسونامي”، وهذا حقيقي مع تأكيد أن حجم الواردات الآتية من الشرق إلى الكيان يبلغ نحو 350 مليار شيكل أي ما يعادل 95 مليار دولار سنوياً، وتوقع أن يرفعَ الحصارُ اليمني في البحر الأحمر هذا الرقم بنسبة 3 %؛ أي ما يقارب ثلاثة مليارات دولار تضاف على التكلفة الأولية ما قبل الحصار.
وبحسب رئيس الأبحاث في الشركة يهوذا ليفين، فَــإنَّ الارتفاع في تكاليف الشحن بين الموانئ الإسرائيلية والصين بعد اندلاع الحرب “يؤثر بالفعل على جميع البضائع التي تصل إلى “إسرائيل” من الصين، والتي بدأت أسعارها في الارتفاع”.
وأهميّة هذا الارتفاع تأتي من حقيقة أن الصين حَـاليًّا هي أكبر شريك تجاري لـ “إسرائيل” عبر البحر، هذا يعني أن ما يقوم به اليمن بمنع السفن الذاهبة للكيان من المرور عبر مضيق باب المندب هو تهديد حقيقي للأمن القومي الإسرائيلي.
ضغوطُ لاهاي:
مقابل القوة الصُّلبة التي اعتمدتها اليمنُ في مواجهة كيان الاحتلال ثم مواجهة الأمريكان والبريطانيين، كانت تجربةُ القوة الناعمة لجنوب إفريقيا في مواجهة “إسرائيل” في سياق قانوني.
فقد لا تكون نتائجُ لاهاي مُرضيةً لجنوب إفريقيا، صاحبة السبق في مواجهة كيان العدوّ قضائياً، لكن ما تمخضت عنه مرافعات هذا البلد العريق في مناهضة العنصرية والأبرتايد الصهيوني مثل علامة فارقة جديدة في تاريخ النضال ضد هذا الكيان الغاصب، بغض النظر عن النتائج الملموسة بعد هذا التشهير أمام أعلى محكمة دولية.
صحيحٌ أن محكمةَ العدل لم تطالبْ حكومةَ الاحتلال الصهيوني بوقف إطلاق النار لكنها تقول: إنها بانتظار ما يفضي لمنع أية أعمال إبادة بحق سكان غزة وبانتظار دخول المساعدات الإنسانية، مع تركها الباب مفتوحاً لمزيدِ من الأدلة حول جرائم الكيان وما قد يقوم به من أعمال إبادة بحق الفلسطينيين.
ومع هذا الانتصار الشكلي الذي يضعُ الكيانَ في خانة المجرم دون الإفصاح، في ظل ممارسات ضغوطٍ أمريكية على المحكمة، تسعى من خلالها واشنطن لتجنُّبِ مزيدٍ من الضغط العالمي في مجلس الأمن والأمم المتحدة، حَيثُ يظهر مؤشر العُزلة الأمريكية متضخماً بشكل كبير وملفت، ليقود هذا القوة العظمى للانطواء بزاوية ضيقة، وهذا ما يحدث اليوم بوضوح.
هذه القوةُ الناعمة المعبِّرة عن تأييد عالمي للحق الفلسطيني مقابل تجريم “إسرائيل” بشكل لا مباشر أمام قضاة لاهاي، هي عامل مشترك يتنقل ما بين تنوع ردود الفعل الساخطة على كيان الاحتلال، حَيثُ هذا الصوت الدولي، يمتزج في حقيقته مع تنامي كراهية العالم الحر بما فيه الأجيال الشابة بأمريكا وأُورُوبا، لممارسات الجماعات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بل وكراهيتها لممارسات جماعات الضغط الصهيونية اليهودية داخل مجتمعات أمريكا وأُورُوبا وسيطرتها على النخب السياسية والاقتصادية المؤثرة على نحوٍ لم يشهده العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وكلا المسارَينِ الناعم لجنوب إفريقيا والصُّلب لليمن يثمر نتائجَ مذهلة، مع ذهول أمريكي غربي من هذه المفاجآت، وظهور تداعياتها في الداخل الأمريكي والغربي والصهيوني، فيما بات التراجع الأمريكي عن مواجهة اليمن بحرياً هو الخيار الآمن والوحيد أمام البيت الأبيض، وهذا يتحقّق بوقفِ أعمال القتل والتجويع لأكثر من مليوني مواطن بقطاع غزة.