حين عزَّى والدي بروحِه الرئيسَ

 

إبراهيم الشرفي

‏يومَها كنتُ في الثالثة عشرةَ سنةً من عُمري، أبي الذي كان لا يستمرُّ مكوثُهُ في البيت لأكثرَ من شهرَينِ.. عاد من مكان رباطِه إلينا.

خرج بنا أنا وإخوتي الاثنين، إلى شارعِ القيادة في العاصمة صنعاءَ؛ ليشتريَ لنا بَـزَّاتٍ عسكريةً “ميري” كان قد وَعَدَنا بها منذ فترة.

وصلنا إلى المحلِّ -فوقَ سيارة صاحب أبي- ودخلنا إلى المحلِّ وفجأةً يتوقَّفُ أبي متسمِّرًا في حالةٍ من الذهولِ أمامَ شاشة تلفاز المحل.

قرأتُ الخبرَ العاجلَ، وأدركتُ أن فاجعةً كبرى وقعت، مصيبةٌ أخرجت والدي من بيننا وأدخلته في نوبةٍ من الحُزن العميق.. عميقٌ إلى حَــدٍّ جعلت أبًا يبدو أمام أولادِه كما لم يعتادوا مشاهدتَه من قبلُ، ربما اليوم فقط أُدْرِكُ تلك اللحظةَ الضاربةَ في ذاكرتي وأتفهَّمُ ما حَـلَّ بأبي المفجوع بالخبر.

لحظاتٌ بعمرِ يومٍ قبل أن يهرولَ والدي بخطوٍ مثقلٍ صوبَ السيارة؛ ربما ليخبِّئ دمعَه؛ ليبكي بعيدًا ليتداركَ انهيارَه الوشيك، وهناك وضع كفَّيه على وجهِه ولم تتوقفْ تنهيداتُه ولا دموعُه.

أمسكتُ بأيدي إخوتي ولحقنا أبي إلى السيارة وكان صاحبُه يسأله:

محمود.. ما لك؟

صلِّي على النبي.. أيش به؟!

إلا أن أبي لم يكن قادراً على الرد.

وأنا لم أكن لأقوى على السؤال.. بقيتُ أفكِّرُ بدموع أبي التي أشاهدُها للمرة الأولى في حَيَاتي، أعرفُه تماماً هذا الشهيد كُـلُّ الناس تقريبًا تعرفُه، لكن أبي لم يكن عارفًا وحسبْ، لقد كان عاشقًا.

عُدنا إلى المنزل، وفي حجرة البيت، فتح أبي شاشةَ التلفاز وزميله الذي لم يكن يعرف شيئاً معنا..

وهناك أمكن أبي أن يبكيَ بحجمِ وجعِه.

للمرة الأولى يبكي الأبُ لا الصغارُ، لكننا بكينا لبكائه أنا وإخوتي.

إنه قهرُ الفُراق حين يعتري الرجال.

كان يوماً كئيبًا مهيبًا.. وطويلًا، إلا أن العزائم لم تفترْ والمعنويات لم تنخفض.

سريعًا كابَدَ أبي حزنَه وعاد إلى رباطةِ جأشه ومضى نحوَ رباطِه، بعد أن غيَّر اسمَه الجهادي إلى “أبو الفضل”.

وبعد عامٍ وشهرَينِ من استشهاد أبي الفضل الصمَّاد، التحق أبو الفضل الشرفي بقُدوته الرئيس.

لنتلقَّى الخبرَ الحزينَ بعزمٍ مكين.

لقد عزّاك أبي بروحه يا صمَّاد، أطفأ جذوة حزنه وزرع فينا شوقاً يثمر عزمًا.

نفوسُنا لن تكونَ أغلى.. وعهدًا لن تكونَ أقلَّ عملًا وجُهدًا وجهادًا.

فكُلُّ الشعبِ مشروعُ شهادة..

كيف لا وقد استشهد الرئيس؟!

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com