لا لبسَ ولا غموضَ.. بين سياسَة القيمة وبرجماتية السياسة

 

د. عبدالحفيظ الرميمة

“السياسةُ مصالحُ” عبارةٌ تُردَّدُ كَثيراً لتبرير المواقف المتقلِّبة للساسة في سياقٍ ذرائعي يخدعُ به القادةُ أتباعَهم؛ حتى صار من لوازم السياسة إذَا أطلقت الكذبُ والخداعُ والميوعة، وعدمُ الثبات، وترسَّخَ هذا المعنى للسياسة لدى العامة في ممارساتهم اليومية، فربما يكذبون ويخونون ويبرّرون لأنفسهم بأن الأمرَ سياسة، وأن السياسة مصالح.

أية مصالح هذه التي تتجرَّدُ من القيم، وتتلبَّسُ أقنعةَ الكذب والخداع، ظاهرُها فيه الرحمة، وباطنُها من قِبله العذاب؟!

زيفٌ لاستقطاب الساذجين، وإشغال الميادين بتصفيق التافهين، وتنظير الجاهلين.

ربما تصح هذه المقولات في إطار الفلسفة المادية التي جوهرها “الغايةُ تبرّرُ الوسيلة”، لكنها لا تصُحُّ مطلقاً في نطاق الفلسفة، أَو قُل المقولة الإسلامية، فالسياسَة؛ باعتبارها تدبيرَ ورعايةَ أوضاعِ الرعية وأحوالهم بأدوات الشرع الإسلامي منضبطةٌ وقيمية، مَقْصدُها الأعلى توحيدُ الله، وتزكيةُ النفوس، وعُمرانُ الأرض.

تقام الدنيا من حَيثُ النظر إلى الآخرة.

تتطابَقُ فيها دائرةُ الأخلاق مع دائرة الشرع، وتفسح لسلطة الضمير مجالاً يتجاور مع سلطة القانون.

لذا، فللغاية حكمُ الوسائل، فالحرام لا يصونُ المصلحة، بل يهدرُها؛ لأَنَّه مفسدة بجوهره وعرضه، والكذب والزيف والخداع مفاسد، والمفاسدُ لا تنطوي على مصالح، ولا تفضي في مآلاتها إليها.

الحريةُ في السياسَةِ الشرعية الإسلامية مصلحةٌ عليا، ومقصدٌ أسمى، والطريقُ لتحقيقها في كِمالِ العبودية لله، والتجرُّد من جميع الأغيار؛ فمن يكفُرْ بالطاغوت ويؤمنْ بالله فقد استمسك بالعُروة الوثقى لا انفصام لها..

وكمالُ العبودية لله كما يقتضي التجرد من الأغيار، يوجبُ الامتثالَ لجميع أوامر الله أداء في دائرة الواجبِ والمندوب، واجتناباً في دائرة الحرام والكراهة، مع مغايرة في سياق الفعل الإنساني، وهو وقوعُ المطلوب بحدود الاستطاعة في دائرة الأداء والانتهاء مطلقاً في دائرة المنع.

كلُّ ذلك من غير نظرٍ للطاغوت، فمن كَبُرَ اللهُ في نفسه أيقن بنصرِ الله، وتحرّر من خوف ما عداه، يأتي بالسببِ ويترك المسبّبَ لرب الأسباب.

لذا يحصل عنده ما يفقدُ عند غيره، ويجتمعُ في حساباته ما يفترق في حسابات غيره.

فالمصلحة كموضوعٍ للسياسة وفقاً لهذا الطرح لا يُنظَرُ إليها من جانب واحد، ولكن من جانبين: جانب الدنيا، وجانب الآخرة؛ مما يعزِّزُ المسلكَ القيمي، ويجعلُ الدنيا مفعمةً بالخير، خاليةً من الشر؛ لأَنَّها ليست الغاية، وإنما وسيلةٌ لحياة أكثرَ حيوية وعدلاً.

ومن هنا يصبحُ معنى القاعدة الفقهية “تصرُّفُ ولي الأمر في أمر الرعية مناطٌ بتحقيقِ المصلحة” أكثرَ شموليةً وكلية، وأكثر اتّفاقاً مع الفلسفة الإسلامية في السياسة.

تلك مقدمة ارتأينا تمهيدَها كأَسَاسٍ نظري لفهمِ خطابات السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي؛ باعتبارها أُطروحاتٍ تؤسِّسُ لسياسةِ القيم الحقة بالمفهوم القرآني والتي مركزُها المصلحةُ بتجلياتها الدنيوية والأُخروية وفقًا لمرادِ الله من خلال إلزامات الخطاب الشرعي في دائرتَي الحكم التكليفي والحُكم الوضعي.

وهو اتّجاهٌ جديدٌ يُعلِي من القيمِ الإنسانية بالمعنى الإسلامي، ويتجافى حَــدَّ القطيعةِ مع السياسةِ البرجماتية؛ كونها ماديةً متقلبةً وفقاً لتفسيراتٍ ضيقة، النفعيةُ المادية فيها غاية، والقيمُ وسائلُ وأدواتٌ توظَّفُ في إطار ضيِّقٍ بفقدها مصداقيتَها ووهجها.

سلامٌ على السيد القائد.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com