حفلةُ متعب وطفلُ غزة
مراد راجح شلي
يلهَثُ الشيخُ مقرِن وهو يصعَدُ سُلَّمَ درجاتِ قَصرِه المنيفِ لمنادَاة طفله متعِب؛ لمفاجأته بحفل عيد ميلاده الذين قام بتجهيزه في حديقة القصر الخلفية.
ينادي ابنَه: متعب متعب وهو يفتحُ بابَ غرفة صغيرة.
كان متعِب يلعب بالبلاستيشن الإصدار الأخير والسمَّاعة في أُذُنيه لهذا لم يسمع أباه.
اقترب أبوه منه وهز ابنَه من كتفِه ليلتفتَ ابنُه ليشاهدَ أباه متبرِّماً ومُزَوِّماً شفتَيه: إيه يا أبي خسّرتني باللعبة!
يجيبُه أبوه: تعالَ انزل معي للحديقة الخلفية، في ناس تنتظرك.
يرافقُ أباه وكرشُه الصغيرة تهتزُّ مع خطواته.. نزلا سريعاً ودلَفَا من باب الحديقة الخلفية ليشاهدَ كُـلَّ أُسرته وأعمامه وجيرانه يلتفون حول مائدةٍ طويلةٍ وكبيرةٍ للغاية، وفور مشاهدته أطلقوا الألعابَ النارية؛ احتفالًا بعيد ميلاده، مردّدين: عيد ميلاد سعيد يا متعب.
تهلَّل وجهُ متعب فرحًا وسعادةً بالمفاجَأة وبدت وجنتاه المكتنِزتان أكبرَ حجمًا.
لينطلقوا تجاه التورتة الكبيرة لقطعِها والجميع يردّد: هابي بيرث باي تو يو متعب
ويبدأ الجميعُ بالجلوس أمام طاولة الطعام الكبيرة ليتناولوا الطعامَ بكُلِّ نَهَمٍ.
لم تنتهِ مفاجآتُ أبيه فقد أشار للعمال بفتحِ شاشة التلفاز العملاقة لعرضِ فيديو يوثِّقُ حياة متعب منذ ولادته.
لم تشتغل الشاشةُ ثمة عطلٌ ما.. يجاهد العاملان معرفةَ الخلل.
يصيحُ الشيخ مقرِن في عماله: ربما ثمة خطأ في البرمجة.
يضغطان زِرَّ الريموت لتظهرَ قناة “المسيرة” فجأةً وهي تعرضُ فيديو لأُمٍّ فلسطينية تبكي وفاةَ ابنَيها جوعاً، ثم انتقل المشهد لطفل فلسطيني يصرخ: بِدَّنا ناكل ما فيش ما ناكله، بالعربي بنموت جوع يا عرب.
كان الحاضرين قد توقَّفوا عن الأكل متأفِّفين مما يشاهدونه.. وفجأةً يشاهدون الطفلَ متعب يختنقُ بالأكل.
* * *
المجاهدُ مع أخيه الصغير في السبعين
مضى المجاهدُ، عصرَ الجُمُعةِ، إلى ميدانِ السبعين مع أخيه الصغير يسألُه بكل براءة وعنفوان:
: وما دوري أنا يا أخي في السبعين والنُّصرة لفلسطين؟
: دورُك أنت يا بطلي
أن تخلُقَ هنا وهناك وكل مكان
وعياً بنصرةِ فلسطين
في السبعين وفي كُـلّ الميادين
وأَجِّجْ صرخةَ البركان..
وأشعلها بكُلِّ مكان..
ليحرق هولُها العاتي
رؤوسَ التيه والأمريكان
هل ترى يا أخي كيف خرجوا
في السبعين وفي كُـلّ ميدان
خرجوا هُتافاً.. ونشيداً.. وشعار
خرجوا شعورًا معنوياً عُلْـوَّ البُنيان
خرجوا شَرَراً تحرِقُ الأمريك والطغيان
خرجوا براهينَ وسبعيناً وميدان
خرجوا أسوداً تزأرُ في ميادين الانتصار
خرجوا خروجَ الصادقين المؤمنين
خرجوا انتصاراً وقِبلتُهم فلسطينُ الجريحة
هَيَّا يا بطلي لنواصلَ المشوار.. ونهتفُ بالشعار
ليحلِّقَ عاليًا كاليمنيين شعوراً ويقيناً وانتصار
* * *
ذهب للمساعَدات ولم يعُـدْ وحفيدُه منتظِر
كان الحاجُّ ياسين يمشي الهوينا مع حفيدِه المتبقِّي نادر ذي السبع سنوات بجوار الشاطئ بعد أن قضى العدوانُ على أُسرتِهم بالكامل.
استشهد أبو نادر وأُمُّه وجدُّته واثنان من أعمامه وثلاثةٌ من أشقائه بعد غارة “إسرائيلية” قصفت منزلَهم ودمّـرته تماماً، فيما كان الحاج ياسين وحفيدُه نادر الوحيدَين خارجَ المنزل؛ لهذا كانا الناجِيَّين الوحيدَين من العائلة.
يهُزُّ نادرٌ راحةَ يدِ جَدِّه اليُمنى الممسكةِ بيده ويقول له: يا حجي فينا نرتاح من المشي.
يلتفت جدُّه تجاهه ويجيبُه: صرنا أقرب يا جدو.
ويشير بمسبِّحةِ يده اليسرى تجاه مِظلات المساعدات التي تنزل من السماء باتّجاه الشاطئ فوق رؤوسهم.
يطلب الحاج ياسين من حفيده أن ينتظره في ربوة منخفضةٍ فيما يذهب ليلتحقَ بمئات المواطنين الذين يسارعون بانتظار المساعدات.
بعد يومَين يمُرُّ أبٌ وطفلتُه بجوار ربوةٍ منخفضةٍ يشاهدان طفلًا تبدو عليه آثار الجوع حَــدَّ الموت.
: شو ابني ايش مخلِّيك هون؟!
أجابَه بصوتٍ واهٍ: منتظِر حَجِّي
نادر منذ يومَين لا يزالُ على ذات الربوة ينتظرُ جده الذي توفي غرقاً إثر تدافُعِ الجموع المحتشدة لمساعداتِ الإنزال الجوي التي قتلت جَدَّ الطفل نادر بطريقة القتل الأكثرِ حداثةً والأسوأ مهانةً.