التحوُّلُ الثقافي وأثرُه في الأحداث
عبدالرحمن مراد
معركتنا اليوم مع العالم من حولنا هي معركة توازن ثقافي وحضاري وفهم هذه الخصوصية، هي التي تجعلنا في مراتب التأثير لا مراتب التلقي والخضوع لما يملى علينا، والقوة المفترضة هي القوة الثقافية والحضارية، أما القوة المادية العسكرية والاقتصادية فهي عوامل مساعدة ليس أكثر من ذلك، ولذلك لم يستنكف العدوّ من النيل من البعد الثقافي والحضاري للعرب بنشاطه المكرس لهدم المثاليات والرموز والعمل على رسم صورة مشوهة وظلامية عن الإسلام، بدأ هذا النشاط قبل بدء المعركة حتى تكون مبرّراً أخلاقياً في القضاء على النمط الثقافي والحضاري العربي.
في الواقع العربي اليوم تحول كبير، والذين يديرون العملية السياسية على المستوى الدولي يضعون حركة التحول العربي نصب أعينهم، وقد سبق لهم التمهيد لهذا التحول من خلال تشويه البنية الفكرية والعقائدية العربية، وظل الاشتغال على التوجّـه لسنوات طوال.
والمعادلة الأصعب هي حين يصبح التفاعل مع حركة المستوى الحضاري بوعي المؤامرة لا بوعي التأثير في مسار السياسة الدولية حتى يكون العرب قوة لها تقديرها ولها حسابات في الوعي الجمعي الدولي.
فالصراع تجاوز البعد الاقتصادي ليكون مرتكزه البعد الثقافي والحضاري، فقضية إيران مع الغرب قضية ثقافية وحضارية، وصراعها صراع تفوق حضاري مع “إسرائيل”، فالغرب يرفض شكلاً أن تكون إيران دولة نووية ولكنه يغض الطرف عن نووية “إسرائيل”، ولذلك فالصراع في اليمن لا يعني إيران ولكنه يشكل ورقة ضاغطة لحسابات سياسية لها، وكذلك الوضع في سوريا فهو يشكل حالة توازن سياسي لإيران مع “إسرائيل”، وبالمثل فالعراق يشكل حالة توازن للغرب و”إسرائيل” مع إيران واليمن تشكل حالة توازن ثانوية لإيران مع السعوديّة التي تقدم نفسها كحليف للغرب الذي يشتغل على البعد الثقافي لاستغلال أموال السعوديّة في إدارة الصراع عبر الحركات والجماعات المسلحة.
مؤشرات التحول الثقافي في السعوديّة بدأت منذ مطلع عام 2018م وهذا التحول يشكل الضامن الحقيقي لاستمرار تدفق المصالح بين الغرب والسعوديّة ويحد من ظواهر التطرف مع تماهي مشايخ الوهَّـابية في مشروع المرحلة.
وأمام تلك الصورة يتطلب الواقع وعياً حضارياً وثقافيًّا وتفاعلاً مؤثراً في مسار المرحلة، وهي مرحلة خطرة تشهد تحولاً كَبيراً وعميقاً ولا بُـدَّ من مقارعتها بالوعي المؤثر في المسار، لا بوعي التدمير والحرب والخراب الذي تديره الجماعات الخاضعة لسيطرة الجهاز الاستخباري الأمريكي الذي يفترض بنا الوقوف أمامه بقدر من المراجعة والتقييم حتى نستعيد سيطرتنا على مساراته وضبطها من خلال دعم الصحوة الفكرية والحركة النقدية؛ فالعصر الذي هجم علينا قبل الاستعداد له علينا أن نستعد له بالتحكم بمساراته والتأثير في نسقه العام، فالقوة التي تختزنها القيم الحضارية والأخلاقية هي أمضى من غيرها في عالم لم يعد مستقراً حضارياً وسريع التحول.
نحن اليوم في أشد ما نكون حاجة إلى الإصلاح الثقافي والأخلاقي، ومثل ذلك أمر غير مستحيل إذَا فهمنا ماذا نريد؟ وفهمنا حركة التحول الاجتماعي؟ وحركة التبدل في علاقات الإنتاج التي تضبط قيم المجتمع؟ وفهمنا البعد الأيديولوجي للطبقات والجماعات، فالمجتمع لم يعد كلاً متجانساً كما كان في العصور القديمة، بل حدث فيه تحوُّلٌ عميق في عصور الانهيار والاستعمار، وفي عصر النهضة، وفي زمن تشكل الدولة الوطنية، وفي الزمن الثوري الذي عاشه متأثراً بما حوله من حركات ثقافية واجتماعية وسياسية، ولذلك فالإرادَة الجماهيرية لم تعد إرادَة واحدة بل تعددت وأصبحت عدة إرادات متمايزة، فهناك إرادَة تقليدية متطرفة، وإرادَة إصلاحية، وإرادَة ديمقراطية، وإرادَة طلائعية تقدمية، وأي مكون سياسي يحكم يمثل مصالح الغالبية من الجماهير، ويمثل إرادتهم بقدر من التوازن السياسي والثقافي والأخلاقي حتى تستقر الأوطان، ما لم يكن كذلك يتعرض للهزات المدمّـرة كما رأينا في نماذج الحركة خلال مطلع القرن الحالي.
فالإصلاح حركة ديناميكية دائمة التجدد، ولا يمكن أن تحدث الحركة في سياق منفصل من التراكم التاريخي لحركة المجتمع، لذلك فالهزات الكبيرة في ظل واقع مضطرب مثل واقعنا الذي نعيش تعمق الهوة في الشقاق داخل المجتمع، وقد تضيع الجهود دون عائد مجد منها إن لم نتدارك الأمر ونعمل ببصيرة وحكمة، فاليمن ذات عمق تاريخي ولذلك يستحيل عليها أن تتقبل قوالب الأفكار والأنظمة التي ابتكرها الإنسان ولا القانون الذي تنافر مع منظومتها التشريعية الحضارية والتاريخية، وقد فشلت تجارب الماضي في صوغ دولة حديثة متناغمة ومستقرة؛ لأَنَّها تجارب لم تبتكر ولم تمتد بل جاءت من تجارب الغير فالأنظمة قوالب جاهزة ابتكرها الإنسان في بيئة غير بيئتنا، والقانون لم يكن متناغماً مع التشريع الوطني والحضاري “العرف” بل نقلناه عن مصر ومصر نقلته من فرنسا ولذلك كان مغترباً ولم يلامس الواقع اليمني.
ومن هنا تتجلى حاجتنا إلى معرفة ثقافة اليمن الحضارية والتاريخية والاشتغال على تراثنا اللامادي لصوغ واقعنا المتناغم والمستقر، منطلقين من خصائصنا وثقافتنا لا من ثقافة وتجارب غيرنا، وتلك مهمة سهلة لو أخلصنا النوايا وأدركنا أهميّة المعرفة في البناء.