السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الرمضانية الخامسة عشرة: كل الغاوين الذين يخرجون عن طريق الحق وعن صراط الله المستقيم، يتَّجهون مع الشيطان إلى جهنم
الشيطان أوقع نفسه في الغواية، بذنبه، بعُقدة الكبر، وأراد أن يحمِّلَ الله المسؤولية في ذلك؛ احتجاجاً عليه لماذا أمره بالسجود لآدم، وكأنها مهمة مستحيلة، لن يطيق تنفيذه
الله -سبحانه وتعالى- بيَّن أنه سيرسُمُ لعباده الصراطَ المستقيم، الذي فيه نجاتهم وفلاحهم، بحيث لا يتمكّن الشيطان من منعهم من أن يسيروا في ذلك الصراط
الإنسان إذا انفصل عن تعليمات الله -سبحانه وتعالى- وتجاهلها أَو تناساها فهو يفتح على نفسه ثغرةً للتأثير الشيطاني
من نتائج عُقدة الكبر أن المخلوقَ (سواءً من الإنس أَو الجن) يعمى عن الكثير من الحقائق، وينظر من جانبٍ واحدٍ فقط، ولاعتبارات محدودة وينسى أَو يتجاهل بقية الأشياء ولا يلتفت إليها
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
استكمالاً لما كنا قد بدأنا الحديث عنه، على ضوء الآيات القرآنية المباركة، في قصة نبي الله آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وبداية الوجود البشري، في سياق أن نقدِّم بعض المحاضرات والدروس على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، من القصص الذي فيه الدروس والعبر المهمة والمفيدة، سبق لنا الحديث على ضوء ما ورد من الآيات المباركة في (سورة البقرة)، وفي (سورة الأعراف)، ونتحدث اليوم باختصار على ضوء ما ورد من الآيات المباركة في بعض السور الأُخرى.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الآيات المباركة من (سورة الحجر): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: من الآية26]، فالله بيَّن لنا كيف ابتدأ خلق الإنسان، وهذه مسألة مهمة؛ لأَنَّه -كما قلنا في المحاضرات السابقة- يحاول أهل الضلال والباطل من أولياء الشيطان، وبالذات الذين لهم ارتباط بالصهيونية واليهودية، يحاولون أن يقدِّموا بداية الوجود البشري على أنها بداية مجهولة، ثم أن يفترضوا لها افتراضات تخمينية، قائمة على التخمين، والهواجس، والظنون، والأوهام، وليست مبنيةً على حقائق، وبناءً على ذلك قدَّموا تصوراً خاطئاً جِـدًّا عن بداية الوجود البشري، مُجَـرّداً من التكريم، وهم يركزون على هذه المسألة.
التوجّـه اليهودي هو قائم على الامتهان لكرامة البشر، وتقديم تصورات خاطئة، تُرَسِّخ لدى الإنسان أنه مُجَـرّد حيوان، متطور عن قرد، وأنه لا كرامة له، ولا تكريم له في خلقه ودوره؛ فالله بيّن لنا بداية الوجود البشري، وأنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ابتدأ خلق الإنسان ككائن مستقل في نفسه، يعني: ليس فرعاً عن مخلوقٍ آخر، أَو نتيجةً للتطور من حيوان إلى حيوان آخر، بل ابتدأ خلقه مباشرةً من طينة الأرض.
سبق لنا الحديث عن أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلق الإنسان ككائن أرضي، من طينة الأرض، ومهمة هذا الإنسان مرتبطة بالاستخلاف في الأرض، والمسؤولية في هذه الحياة، وبيّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” المادة التي خلق الإنسان منها، وهي: من طينة الأرض، طينة الأرض التي كانت حمأً: تراب أسود متغير لكثرة ما بقي مبتلاً بالماء، وهذا الطين الذي هو بهذا الشكل: ابتلى بالماء حتى تغير، واتجه لونه إلى الأسود، سنَّه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ بمعنى: أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حرَّكه كَثيراً حتى تمازج أكثر وأكثر، وسوَّى منه هيكلًا وشكلًا إنسانيًا، فتحول إلى صلصال، والصلصال عندما ييبس الطين الذي كان طيناً رطبًا آسناً، فييبس تماماً، يتحول إلى صلصال، يجف وعندما ينقره شيء، أَو يصطدم به شيء، يُصَلْصِل، يصدر منه صوت، كما نراه في آنية الفخار، وكما قدَّم التشبيه في الآية القرآنية في (سورة الرحمن): {كَالْفَخَّارِ}[الرحمن: من الآية14]، لكن الفَخَّار طُبِخ بالنار، ويُبِّس بالنار؛ أمَّا الصلصالُ فلم يُيبس بالنار، بل يبس إمَّا جَفَّ نتيجةً للشمس والرياح والعوامل الأُخرى. فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلق الإنسانُ من هذه المادة، وبيّن لنا كيف ابتدأ خلقَ الإنسانِ من طينة الأرض.
{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}[الحجر: من الآية27]، يعني: من قبل خلق الإنسان، فَخَلْقُ الجان قبل خلق الإنسان، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر: من الآية27]: من مادة مختلفة عن المادة التي خلق الله الإنسان منها، (نَارِ السَّمُومِ) السَّمُومِ: الهواء الحار، وفي (سورة الرحمن) قال: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: من الآية15]، فهو مخلوقٌ من اللهب، اللهب الناري الذي ينقطع من النار.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 28-29]، وتحدثنا عن مسألة تقدم خلق الملائكة قبل خلق البشر بدهرٍ طويل، وعن الدور المرتبط بالملائكة، وعن عبادتهم، وعن علاقتهم بمستقبل الإنسان، علاقتهم بمستقبل الإنسان في مهام ترتبط بوجود هذا الإنسان، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أعلمهم، وبيَّن لهم أنه (خَالِقٌ بَشَرًا): بشراً من طينة هذه الأرض، والإنسان كائنٌ بشريٌّ، في تكوينه، وجلده، وجسمه، (مِنْ صَلْصَالٍ): أصل هذا البشر مخلوقٌ من الصلصال، والصلصال هذا صنعه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وسواه (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، عندما يسوِّيه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يسوِّيه بشكله، وتصميمه، وهيكله، فينفخ فيه الروح، الروح التي بها حياة الإنسان، وهي سرٌ من أسرار الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء: من الآية85]، لا يعرف البشر ماهية هذا الروح، ولا يعرفون تفاصيل عنه، ولكن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إذَا نفخه في الإنسان؛ بعث فيه الحياة، بعث فيه الحياة، وأضافه إليه في قوله: {مِنْ رُوحِي}؛ لأَنَّه خالقه ومالكه، ولتشريف الروح، فهو آيةٌ عجيبةٌ، وله سره العجيب في الإنسان، في تكوين الإنسان، مكوّنٌ مهمٌ في تكوين الإنسان، الإنسان الذي كوَّنه الله وخلقه وأوجده من التراب أضاف إليه الروح، فهو إضافة مهمة في تكوين الإنسان، ولها أثرها فيما يتعلق بالإنسان في حياته، في تفكيره، في مداركه، في أشياء كثيرة، خصائصه، طاقاته… أشياء كثيرة تتعلق به، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، وهو سجود تكريم، تكريم لآدم، وعبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّه تسليمٌ لأمر الله، وطاعةٌ له “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر: الآية30]، امتثلوا أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” دون تردّد، وبكلهم، وهم أصناف كثيرة (الملائكة)، ومستويات في مقامهم، في منازلهم، لكنهم سجدوا.
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر: الآية31]، إبليس الذي كان يعبد الله في صفوف الملائكة، وبين أوساط الملائكة، امتنع عن السجود بشدة، لم يسجد معهم، وامتنع من السجود معهم، {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر: 31-32]، وسبق لنا أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أراد بهذا السؤال لإبليس: أن يكشف لنا نحن السبب والدافع، الذي ليس بمبرّر لإبليس في امتناعه عن السجود؛ إنما هو دافعٌ سيء، وليس مبرّراً مشروعاً، فلما كانت المسألة ذات أهميّة بالنسبة لنا في أن نعرفها، أراد الله أن نعرفها باعتراف مباشر من إبليس نفسه: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: الآية33]، فهو بيَّن أن السبب وأن الدافع الذي دفعه لتلك المعصية هو: الكبر، عقدة الكبر، وهي عقدة خطيرة جِـدًّا، حَيثُ اعتبر أنه في عنصره الذي خُلِق منه، وهو النار، أعلى شأناً وقدراً من أن يسجد لمخلوقٍ من التراب، فكانت عنده عقدة الكبر، وهو بهذه العقدة تجاهل أشياء كثيرة:
- في مقدِّمتها: أنَّ أي مخلوق من مخلوقات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الجن، والملائكة، والإنس، عليه أن يُنَفِّذ أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالنظر إلى أنها أوامر من الله، وليس بأي اعتبارات أُخرى، فأي أمرٍ من أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مقتضى العبودية لله أن نُنَفِّذه، وأن نطيع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا شرفٌ عظيم، وليس فيه أي هوان لأي مخلوق، أن يطيع أمر الله، وأن يُنفِّذَ أمر الله؛ لأَنَّ حق الله على عباده بكلهم (من الجن، والملائكة، والإنس) حقٌ عظيم، حق الألوهية على العباد، والبقية كلهم عبيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولذلك ليس هناك أمام أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أي اعتبارات أُخرى تبرّر لأي مخلوق أن يعصيَ أمرَ الله، هذا أولاً.
- ثانياً: حتى في تصوُّره الخاطئ، هو نظر إلى هذه المسألة نظرة ليس له فيها مبرّر، حتى في المفاضلة، التراب يخلق الله منه النباتات، التراب فيه الكثير من المعادن النفيسة والرائعة، التراب ليس شيئاً ممتهناً، مبتذلاً؛ فليس له تبرير حتى في نظرته، هي نظرة أصلاً خاطئة.
ولكن العنوان الأول هو الأهم: أنَّ مقتضى العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” طاعة أوامر الله، وتنفيذها بالنظر إلى أنها أوامر من الله، وليس بالنظر إلى ما تتعلق به، فأوامر الله حقٌ، وحكمةٌ، وخيرٌ، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” العليم الحكيم، والمسألة بنفسها -يعني: ما أمرهم الله به من السجود تكريماً لآدم، عبادةً وخضوعاً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- ليست المسألة مرتبطة بإصدار أحكام، في من هو الخير، ومن هو الأفضل، ومن هو… المسألة مسألة التزام بأوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفيها دروس تربوية هامة جِـدًّا، وحيثياتها لا تعود إلينا، أن الإنسان بحاجة إلى أن يُفلسف له الله في كُـلّ أمرٍ ونهيٍ، وأن يُصدر له ما يقنعه في ذلك، كذلك بقية المخلوقات.
- الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَيْـضاً نفخ في الإنسان من روحه، الروح التي هي أَيْـضاً عنصر آخر تجاهله إبليس تماماً.
- وكذلك تجاهل ما زوَّد الله به الإنسان من مدارك، من طاقات، من قدرات.
- تجاهل أن الله علَّم آدم الأسماء كلها.
تجاهل كُـلّ شيء، وهي من نتائج الكبر، من نتائج عقدة الكبر: أنَّ المخلوق (سواءً من الإنس، أَو الجن) يعمى عن الكثير من الحقائق، وينظر من جانبٍ واحدٍ فقط، ولاعتبارات محدودة، وينسى بقية الأشياء، أَو يتجاهل بقية الأشياء ولا يلتفت إليها.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر: من الآية34]، طُرِد من بين صفوف الملائكة؛ لأَنَّ مقام الملائكة هو مقام عبادة، مقام مُقدَّس، ليس فيه إلَّا الطاعة لله، والعبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليس مكاناً للعصاة؛ فَطُرِد من بينهم مهاناً، وهي نتيجة التكبر، نتيجة التكبر: الهوان والصغار، {فَاخْرُجْ مِنْهَا}، وقد خسر مقامه، خسر عبادته، خسر كُـلّ شيء، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، يعني: مطرود، مطرودٌ ويرجم، ويمنع عليه منعاً باتاً العودة إلى الملائكة، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر: من الآية35]، هو سبَّب لنفسه بعصيانه لله، وبتكبره، ومعصيته معصية خطيرة جِـدًّا؛ لأَنَّها بدافعها، وبما كان سبباً لها، وبشكلها وحقيقتها وفي جوهرها، جمعت جوانب خطيرة جِـدًّا من المعصية لله، فهو اتهم الله في حكمته وعلمه، وأساء إلى الله بذلك إساءة عظيمة، هذا من الكفر: الاتّهام لله في عدله وفي حكمته، والاعتراض على الله في أمره، فهو جمع بين:
- المعصية الفعلية التي هي: الامتناع من السجود.
- مضافاً إليها: الاعتراض على أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- مضافاً إليها: الاتّهام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في عدله وحكمته.
- وحتى التخطئة للملائكة، هو خطّأ الملائكة في سجودهم، واعتبرهم مخطئين في ذلك، وأنَّ عليهم أن يمتنعوا كما امتنع هو عن السجود لآدم.
فجمع أشياء كثيرة في معصيته والعياذ بالله، معصية خطيرة، كلها تفرَّعت عن عقدة الكبر، وبعض المعايب يتفرَّع عنها معاصٍ كثيرة وخطيرة جِـدًّا.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ}، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” غضب عليه، وطرده، ليس فقط من صفوف الملائكة، بل طرده من رحمته، فلن يمنحه أي توفيقٍ منه أبداً، أصبح مطروداً من رحمة الله، هذا معنى اللعنة: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ}، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ}، نعوذ بالله! وهو استحق الطرد من رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لم يبق جديراً بالرحمة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الرحمة التي يحظى من خلالها بالتوفيق، بالتثبيت، بالهداية، بالتسديد، بالتوبة عليه، ولذلك أصبحت الحالة بالنسبة له حالة خطيرة جِـدًّا، تعزز في نفسه الخبث، الشر، الإجرام، فسد أكثر، وابتعد عن ساحة الرحمة الإلهية، وهي حالة خطيرة جِـدًّا والعياذ بالله، ولعنة مُستمرّة، مُستمرّة إلى يوم الدين، يوم الجزاء؛ أمَّا عندما يأتي الجزاء فهو سيتجه إلى جهنم والعياذ بالله، إلى مستقر لعنة الله، جهنم هي مستقر لعنة الله، مثلما -في المقابل هناك- الجنة مستقر رحمة الله.
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر: 36-38]، طلب الإنظار، الإنظار؛ ليبقى على قيد الحياة من جهة، وليتم إمهاله، فلا يُعاجل بالعقوبة المهلكة قبل ذلك؛ لأَنَّه خاف أن يعاجل بالعقوبة المهلكة، عندما لعنه الله، وطرده من رحمته، وغضب الله عليه، وهي حالة خطيرة جِـدًّا، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر: 35-36]، هو معترف بالله، معترف بربوبية الله، معترف بالقيامة، بالجزاء، بالحساب، بالجنة والنار، يعرف كُـلّ هذه الحقائق، ولكنه لم يستفد من معرفته تلك في زكاء نفسه، هو تورَّط بشكلٍ خطيرٍ جِـدًّا في التمحور حول ذاته، ونمت في نفسه الأنانية والغرور والعجب؛ فتولَّد عن ذلك الكبر والعياذ بالله، حالة خطيرة جِـدًّا.
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، كشف الله له أن في تدبير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وفي حكمته أن يُنْظِرَه؛ ولذلك فهو سيبقى على قيد الحياة، لا يعاجله الموت، ولا العقوبة المهلكة، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}، إلى وقتٍ محدّد معلومٍ في تدبير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وحكمته وعلمه، البعض يقولون أنه: في النفخة الأولى يوم الوقت المعلوم، البعض يتصورون أنه ما قبل ذلك، والله أعلم متى هو بالتحديد، هل في النفخة الأولى، أم قبل ذلك؟! لكن تفيد الآية المباركة: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، أنه سيبقى على قيد الحياة دون أن يفاجئه أَو يعاجله الموت ما قبل، أَو العقوبة المهلكة، إلى مرحلة متأخرة من حياة البشرية.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر: الآية39]، تحدثنا سابقًا ما يعنيه بقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}، أنَّه يحمِّل الله مسؤولية وقوعه في الغواية، هو أوقع نفسه في الغواية، بذنبه، بعقدته، التي هي عقدة الكبر، ولكنه يريد أن يحمِّل الله المسؤولية في ذلك؛ احتجاجاً عليه لماذا أمره بالسجود لآدم، وكأنها مهمة مستحيلة، لن يطيق تنفيذها، وسيتَّجه الاتّجاه الذي هو اتّجاه المعصية والغواية، والخروج عن طريق الحق، وهذا ذنبٌ آخر مضافاً إلى ذنوبه التي تتابعت، ومعصية كبيرة وفظيعة؛ لأَنَّه هو الذي أوقع نفسه في الغواية، وهو السبب حتى فيما وصل إليه، حتى في أن يكون في نفسه عقدة الكبر، تنمو في نفسه، وتتجذر إلى تلك الدرجة والعياذ بالله.
فهو يريد أن يقول: أنه سيتَّجه ومن موقع وبدافع الحقد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والحقد على البشر، أصبح في نفسه حقد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحقد على عباد الله، وهي أَيْـضاً من الحالات الخطيرة التي قد تنشأ نتيجةً لبعض المعاصي والعقد الخطيرة جداً: أن يصل مخلوق معين (من الإنس، أَو الجن) إلى درجة أن يحقد على الله، وأن يحقد على البشر أيضاً! فهو يؤكّـد ويقسم قسماً بأنه سيتَّجه للإغواء، العمل الأَسَاس الذي سيتَّجه له في كُـلّ الفترة التي يُنظِرُه الله فيها، ويمهله فيها، أنَّه سيتَّجه للإغواء: لإخراج الناس عن طريق الحق، عن صراط الله المستقيم، وصدهم عن صراط الله المستقيم، والسعي لإغوائهم عنه، وإخراجهم عنه، كمهمة أَسَاسية، يريد أن يركِّز عليها، ويرى أنها أكبر وأهم طريقة للانتقام، أصبحت عنده عقدة الانتقام، مع أنه لا ذنب لآدم فيما وقع فيه، ولا لبني آدم فيما وقع فيه إبليس، الذنب ذنبه هو، فهو اتَّجه هذا الاتّجاه، والله كشف خطته للناس، التي سيعمل على أَسَاسها، وماذا سيركز عليه في عدائه الشديد جِـدًّا، هذا عداء فوق ما نتخيل؛ لأَنَّه يريد أن يبقى في حالة انتقام، وحالة استهداف لبني آدم بالإغواء جيلاً بعد جيل، وأمةً بعد أُمَّـة، وفي كُـلّ قطرٍ وبلد، يريد أن يستهدفهم استهدافاً شاملاً، {أَجْمَعِينَ}، فتوجّـهه بالاستهداف هو استهداف شامل لبني آدم.
ويعتمد -مثل ما كشف الله للناس- يعتمد أساليب الإغواء والتزيين، {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض}[الحجر: من الآية39]، التزيين الذي يحاول من خلاله أن يجرَّهم إلى المعاصي، فهو يزيِّن لهم سواءً فيما يتعلق بالأرض، أَو في واقع الحياة، حياتهم المرتبطة بما أنعم الله به عليهم من النعم، فيكون تعاملهم مع ما أنعم الله به عليهم من النعم في هذه الأرض، تعاملاً بعيدًا عن شكر النعم، بسوء الاستخدام لنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومعصية الله في نعمه، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنعم على البشر نعماً عظيمة، ونعماً واسعة، فهو سيزين لهم سوء الاستخدام لنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وسوء التصرف فيها؛ لأَنَّ نعم الله علينا بدءاً في أنفسنا: ما وهبنا من طاقات، من قدرات، من حواس، من أعضاء، من جوارح، ثم ما منَّ به علينا في هذه الأرض؛ فالشيطان سيعمل على أن يدفع بالإنسان لسوء التصرف، وسوء الاستخدام لنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ما كان منها في نفسه، وما كان منها في الأرض، في كيفية التعامل معها تعاملاً فيه معصية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإساءة إلى الله “جلَّ شأنه”.
وتوعُّده بأنه سيستهدفهم جميعاً، وسيعمل على إغوائهم؛ باعتبار -وسبق في (سورة الأعراف): {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ إيمَـانهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف: من الآية17]- أنَّه سيبحث عن كُـلّ ما يمكن أن يؤثِّر به على الناس، بحسب اختلاف المؤثرات عليهم، واختلاف رغباتهم، واختلاف طموحاتهم:
- فالبعض من الناس قد يكون التأثير عليه عن طريق الشهوات المادية، متعلقة بالطعام، بالشراب، البعض الشهوة الجنسية.
- البعض من الناس الطموحات في المناصب، والأمر، والنهي، والسمعة… وهكذا.
- البعض من الناس الشهرة، ولو بشيءٍ آخر: الشهرة بالعبادة، الشهرة بكمالات معينة يسعى الإنسان إلى أن يحصل عليها عند الناس بأي وسيلة، بأي طريقة، حتى بما فيه معصية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- حالات الغضب والانفعال، وهي مدخل آخر، ويتولَّد عنها أحقاد، وتتولَّد عنها معاصٍ كثيرة، مظالم، وأشياء كثيرة جِـدًّا.
فيما يتعلق بأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتقصير في أوامر الله، أَو العصيان لله فيما أمرنا به، في مسؤولياتنا في هذه الحياة، وتجاه أوامر الله، كذلك هو يشتغل في مسألة الأمر والنهي الإلهي، ويستخدم أُسلُـوب التزيين، الذي يحاول أن يغري به، وأن يجذب من خلاله، وأن يستدرج الإنسان بواسطته إلى المعصية، وإلى المخالفة: إمَّا لأمرٍ من أوامر الله، أَو نهيٍ من نواه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، بالرغم من حقده على الجميع، وسعيه لاستهدافهم بكلهم، والإيقاع بهم في الغواية بأجمعهم؛ من شدة حقده عليهم، يريد أن يغويهم بكلهم، من آدم إلى آخر كائنٍ بشري، ولكنه يدرك أنَّ ذلك ليس بممكن، وأنه لا يستطيع أن يحقّق لنفسه تلك الرغبة الشيطانية؛ ولذلك استثنى هو، فقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فهو يدرك أنه لا قدرة له عليهم، وعلى التأثير عليهم، وعلى إغوائهم، لماذا؟ هو وصفهم بالمُخْلَصين.
وعباد الله المُخلَصين: الذين عبَّدوا أنفسهم لله، وأخلصوا أنفسهم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واتَّجهوا في حياتهم على هذا الأَسَاس: من منطلق العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
وحالة الإخلاص لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حتى يكون الإنسان خالصاً من الشوائب، التي هي ثغرات للشيطان عليه، هي في إطار البرنامج الإيماني، التربية الإيمانية، يتربى الإنسان فيها على التخلُّص من الشوائب الخبيثة، التي يستغلها الشيطان في التأثير على الإنسان، وهناك شوائب خطيرة جِـدًّا تتفرَّع عنها المعاصي، مثلما هو الحال -مثلاً- بالنسبة للكبر، من الشوائب الخطيرة جِـدًّا، إذَا وُجِدَت في الإنسان؛ يتفرَّع عنها الكثير من المعاصي، مثلما هو الحال بالنسبة للطمع، الطمع حالة خطيرة جِـدًّا، إذَا وُجِدَت في الإنسان، وتحكمت بالإنسان، ونمت في الإنسان، وتجذرت في الإنسان؛ كانت ثغرةً خطيرةً للتأثير عليه… وهكذا الحالات التي يتجاوز الإنسان فيها توازنه ورشده، فهي حالات خطيرة جِـدًّا، يستطيع الإنسان؛ لأَنَّها حالة طغيان، يستغلها الشيطان، ويحاول من خلالها الإيقاع بالإنسان في المعاصي.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر: 40-43]، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بيَّن أنه سيرسم لعباده الصراط المستقيم، الذي فيه نجاتهم، وفلاحهم، وفوزهم، ويمكِّنهم من السير في هذا الصراط، بحيث لا يتمكّن الشيطان من منعهم من أن يسيروا في ذلك الصراط، ولا يمتلك القدرة، ولا السلطة، ولا التأثير لأن يمنع أحداً منهم على طريق القسر، أَو يعيقه عن السير في الصراط المستقيم.
ولكن تكون المشكلة عند الإنسان نفسه: إذَا اتَّبع الشيطان، إذَا قام هو ابتداءً باتِّباع الشيطان، واستجاب له، الشيطان فقط يوسوس، فإذا كان الإنسان هو بعد وسوسة الشيطان بادر للاستجابة للشيطان، واتَّبعه، وأطاعه، وهو في هذه الحالة يزداد تأثير الشيطان عليه، كلما أطاع الشيطان أكثر؛ كلما ازداد تأثير الشيطان عليه أكثر، فنفسه تخبث، كلما خبثت نفسية الإنسان؛ ازداد ميلاً واتّجاهاً مع الشيطان، وقرباً من الشيطان، الشيطان هو خبيث، ورجس، ونجس، خبثت نفسه، خبثت إلى درجة رهيبة جِـدًّا، فعندما يكون الإنسان هو الذي استجاب للشيطان؛ فنفسه تخبث، وهو يُبعِد نفسه أكثر وأكثر من رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل البعض من المعاصي لخطورتها، عليها لعن، عليها لعن، نجد في القرآن الكريم قائمة من المعاصي، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يلعن من يرتكبها؛ لخطورتها، وسوئها، وفظاعتها، الإنسان إذَا ارتكبها؛ طُرِد من رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتركه الله من توفيقه، تركه للشيطان، والشيطان يزداد تأثيره عليه.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، فهو لا يملك -الشيطان- لا يملك السلطة، ولا التأثير لإجبار الناس على السير في طريقه، في طريق الغواية، وصدهم عن الصراط المستقيم، لا يتمكّن من منع أي أحد من السير في الصراط المستقيم.
{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، فهو يمتلك التأثير فيهم؛ نتيجةً لمعصيتهم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وخبث نفوسهم، وابتعادهم عن رحمة الله، عن هدايته؛ لأَنَّه يزيد من اهتدى هدىً، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، فنفسية الإنسان تخبث بالمعصية، وتأثير الشيطان عليه يزداد، ويتعوَّد هو أن يستجيب للشيطان، أن يتَّجه في نفس تلك الميول التي تكبر في نفسه، تلك المؤثرات بنفسها تكبر وتنمو في نفسه أكثر وأكثر، فيستغلها الشيطان عليه.
{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}، كُـلّ الغاوين الذين يخرجون عن طريق الحق، يخرجون عن صراط الله المستقيم، ويتَّجهون مع الشيطان، كلهم موعدهم جهنم، والله غنيٌّ عنهم، لا تضره معصية من عصاه، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ}، جهنم التي هي مستقر العذاب الأبدي، العذاب الرهيب، العقوبة الإلهية الرهيبة جِـدًّا، {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}؛ لأَنَّ أسباب الغواية متنوعة ومختلفة في واقع البشر، والبشر الغاوون أصناف وفئات كثيرة في أسباب غوايتهم، ولكن بكلهم موعدهم هو جهنم والعياذ بالله.
{لَهَا سَبْعَةُ أبواب لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية44]، فهم سبعة أصناف، أهل نار جهنم يقسَّمون إلى سبعة أصناف، بحسب أنواع معاصيهم، وأسباب غوايتهم، ونوع غوايتهم، ومستوى العذاب هو بحسب ذلك: بحسب أعمالهم السيئة، وانحرافهم، ومعاصيهم.
{لَهَا سَبْعَةُ أبواب لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}، فالنتيجة في الاتِّباع للشيطان، والغواية، الغواية عن طريق الحق، عن صراط الله المستقيم، نتيجتها الخسران، والشيطان هو خاسر، إبليس هو خاسر، ويريد أن يوقع الآخرين معه في الخسارة الرهيبة، يريد أن يوقع البشر معه في تلك الخسارة الرهيبة جِـدًّا، وأن يكون مصيرهم معه إلى ذلك العذاب الشديد، ويعتبر أنَّ هذه أكبر طريقة في حربه على البشر، وفي الانتقام منهم، في عقدته عليهم، يرى أنَّ أهم طريقة هي تلك الطريقة التي يوصلهم بها إلى جهنم والعياذ بالله، {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} والعياذ بالله! وهذه حالة خطيرة جِـدًّا.
ولذلك نستفيد من الآيات المباركة، إضافة إلى ما قد سبق لنا في (سورة الأعراف)، وفي (سورة البقرة)، نستفيد الدروس المهمة، والعبر المهمة، فيما يتعلق بهذه القصة المباركة المهمة جِـدًّا، والتي أتت في بداية الوجود البشري، ولو استفاد منها البشر؛ لكفتهم الكثير والكثير مما وقعوا فيه من الشقاء والخسران، ولكانت من أهم الدروس التي تساعدهم على الاستقامة في هذه الحياة.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كرَّم الإنسان في خلقه، خلقه في أحسن تقويم، بما منحه من طاقات، وقدرات، وقابليات، والإنسان هو مخلوقٌ مكرَّم، ليس كأيِّ حيوانٍ آخر، وفق ما تقدَّمه النظرة الغربية، هي تقدِّم الإنسان كأيِّ حيوان آخر، وتجعل متطلبات حياته مقتصرة على المأكل، والمشرب، والمسكن، والزواج، مثل بقية الحيوانات فحسب، وتبعده عن دوره، وعن مسؤولياته، وعن مقامه الذي هيَّأه الله له عندما نفخ فيه من روحه؛ بينما هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقدِّم للإنسان البرنامج الصحيح، المتكامل، المتوازن، الذي يلبِّي احتياجات الإنسان العائدة إلى جسمه، واحتياجاته العائدة إلى روحه، وينظِّم للإنسان التوازن ما بين احتياجات الروح واحتياجات الجسم، وما يسمو به الإنسان في هذه الحياة.
يتبين لنا بكل وضوح حاجتنا الضرورية جِـدًّا إلى هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى تعليماته، وأنَّ الإنسان إذَا انفصل عن تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتجاهلها، أَو تناساها؛ فهو يفتح على نفسه ثغرةً للتأثير الشيطاني، مهما كان ذكاء الإنسان، مهما كان فهمه، مهما كان يمتلك من خلفية معرفية وغيرها، إذَا لم يرتبط بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فهو قابلٌ للإغواء والتأثير الشيطاني، على مستوى الفكر والتصور؛ لأَنَّ الشيطان يحاول أن يغويَ الإنسان في فكره، وتصوره، ونظرته للأشياء؛ فيزيِّن له القبيح حتى يراه حسناً، ويقدِّم له فهماً خاطئاً عن الأمور، يشجِّعه أَو يورِّطه؛ بسَببِه إلى أن يدخل في معصية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيخالف ما أمره الله ونهاه.
كذلك هو يلعب على رغبات الإنسان وانفعالاته، والإسلام وبرنامج الهدى الإلهي هو يزكي النفس البشرية، ويرسِّخ الرشد فيها، والنظرة الصحيحة، وتأتي التعليمات الحكيمة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي إن تمسك بها الإنسان فهي تحميه حتى من أن يتأثر بأي تصوُّرٍ خاطئ؛ لأَنَّه لا يفتح مجالاً أصلاً لأن يكون لديه تصورات مختلفة عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يؤمن بتعليمات الله أنها هي القيِّمة، هي الحكيمة، التي فيها رشده، وفلاحه، ونجاته، فلا يفتح مجالاً لأن يكون لديه تصورات أُخرى، أفكاراً أُخرى، ولا يفتح المجال أَيْـضاً لأن يضرب الشيطان توازنه فيما يتعلق بغرائزه، ودوافعه، وانفعالاته، بل من خلال هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يكتسب زكاء النفس، الذي يرشِّد، وينظِّم، ويوازن غرائزه وانفعالاته، ويضبطها من خلال هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته؛ فيغلق بذلك الثغرة التي يستغلها عليه الشيطان لإغوائه والعياذ بالله.
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.