الإعجازُ في قصص القرآن الكريم (4): قصةُ آدم (الاستخلاف في الأرض) (1)
عبدالمجيد إدريس
القصص أسلوبٌ من أساليب القرآن الهادفة، ولها غايات عظيمة، وفيها ما يهذِّب الإنسان ويسمو بروحه إلى الفضيلة، وأول قصة نبتدأ بها قصة استخلاف الله للإنسان في الأرض، وسنكتشف من خلالها إعجاز القرآن في القصص نظمًا وبيانًا وأسلوبًا وعرضًا وغاية.
أولًا: الآيات:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
ثانيًا: القصة:
لم يرد الحديث عن خلافة الله لآدم عليه السلام في القرآن سوى في هذه الآيات من سورة البقرة.
تبدأ القصة قبل آلاف السنين، وتتمثل في إرادة الله بأن يجعل في الأرض خليفة يعمرها ويطبِّقُ شرعَ الله ومنهجَه، يُخبرُ اللهُ الملائكةَ بهذا القرار، وهو ليس بحاجة لمشورتهم، وإنما ليعلِّمَنا المشورةَ من الأعلى إلى الأدنى، وكذلك ليهيئَ نفوسَهم للأمر بالسجود لآدم لاحقًا.
كان جواب الملائكة بالتعجب من أن يجعل خليفة من شأنه أن يُفسدَ في الأرض ويَسفكَ الدماء، وقد علموا ذلك إمَّا مِن إخبار اللهِ تعالى لهم، أو أنهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي كانت قبل البشر، قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}
ولم يكن جوابهم من باب الاعتراض، فحاشاهم.
كيف لا وهم الذين وصفهم الله بقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؟!
وإنما لبيان الحكمة من ذلك، فهم كغيرهم تغيب عنهم الحكمة، ولتعظميهم لله أرادوا أن يكونوا هم خلفاءَ الله في أرضه، فهم المسبحون لله والمنزهون له والمقدسون، لا يحصل منهم الزلل، ولا يواقعون الآثام، وفي هذه الأجواءِ من الحوار المتبادل جاء البيان الإلهي بقوله: [إني أعلم ما لا تعلمون] فالله يعلم كل شيء وهو الذي خلق هذا الإنسان وأبدعه وأوجده، وهيَّأه لعمارة الأرض، وهذا الإنسان وإن كانت تركيبتُه تجمع بين الشهوات والأهواء؛ فهو أيضًا يمتلك العقل والمعرفة والإدراك، وكأنَّ الملائكة نظروا إلى الجانب السلبي للإنسان وأهملوا الجانب الإيجابي.
وهنا يتجلى لنا أنَّ الله خلق الإنسان وجعل حرية الاختيارِ إليه في هذه الدنيا، وقد ينحرف في وقتٍ من الأوقات فيفسد في الأرض، وقد يُغلِّبُ جانبَ الخير فيعمرُ الأرض ويحقق الغاية من الاستخلاف.
يستمر الله بالبيان للملائكة ويزيحُ عنهم الحيرة باختبارٍ يعقده لهذا المخلوق الطيني والمخلوق الملائكي ليقررَ بعد ذلك في نفوسهم النتيجة الصحيحة.
يبدأ الاختبار، فيعلِّم اللهُ آدم الأسماء كلَّها، يعلمه أسماء المسميات بدون استثناء، وليس أصل المسألة هنا، ولا ما يميز آدمَ عن الملائكة حفظُ الأسماءِ ونطقٌها، وإنما الميزة في تقبله للعلم والمعرفة وتفاعلِ تركيبته مع كل المسميات في الأرض، فهو من يستطيع بما مكَّنه الله من العقل والمعرفة أن يعملَ ويكتشفَ ويخترع ويُظهِرَ الإبداعَ الإلهيَ في أسمى صوره، وكأنَّ المخلوقَ الطينيَّ يسبِّح الله قولًا وعملا، يسبح الله باكتشاف الكنوز في الجبال والبحار، يحمده بالغوص في قاع البحر والصعود في الفضاء، ولهذا السبب كان الإنسان لا غيرُه من يحقق هذه الغاية.
وعندما عرض الله المسمياتِ على الملائكة، وسألهم عن مشارٍ محدد إن كانوا صادقين في ادعائهم بعدمِ أهليةِ الإنسان للاستخلاف، عجز الملائكةُ عن الجواب، وأيقنوا بقصورهم ومحدودية علمهم، منزهين الله كعادتهم ودأبهم في عبادة الله تعالى معترفين بسعة علم الله وحكمته، ومع اقتراب انتهاء الامتحان الكامل ينتقل السؤال إلى آدم في انتظار من الملائكة، هل يستطيع هذا المخلوق الطينيُّ أن يجيب عن الأسئلة التي عجزوا عن الجواب عليها، فما كان من آدم إلا أن برهن على ذلك بجواب مقنع وعميق، وهنا ظهرت النتيجة والتي هي محسومة من قبل، فالله يعلم غيب السماوات والأرض ويعلم ما أبدت الملائكة، وما أخفته بخصوص الإنسان.