الإدارةُ الأمريكية.. مستنقعُ الجريمة الدولية
المسيرة – الدكتور عبد الرحمن المختار
تتكشَّفُ تباعاً الخُيُوطُ القذرةُ لجرائمِ الإدارةِ الأمريكيةِ حولَ العالَمِ، وآخرُها ما كشفته، مساءَ الاثنين 10 يونيو 2024م الأجهزةُ الأمنيةُ لبلادنا، وليسَ من المبالغة القولُ إن هذا الكشفَ يُعَدُّ إنجازًا مهمًّا، ليس لبلدنا وشعبنا فحسب، بل لكل البلدان والشعوب، التي تعبث إدارة الإجرام الدولي بأمنها وسيادتها واستقلالها من خلال تجنيدها لآلاف العملاء من أبنائها، يعملون في الميدان لتنفيذ أجنداتها الإجرامية، التي قد تُكتشف بعضُ خيوطها في بعض تلك البلدان.
ورغم ذلك لا تجرؤُ على الإعلان عنها؛ بسَببِ سطوةِ الإدارة الأمريكية، وتغلغلها في أجهزتها ومؤسّساتها الرسمية بمختلف مستوياتها، وما يمكن أن تتخذَه هذه الإدارةُ من إجراءاتٍ انتقاميةٍ بحق من يتجرَّأُ من شاغلي المناصب العليا على كشف خيوط جرائمها، وقد يرجعُ ذلك لارتباطِ أُولئك بأجهزتها، أَو بسَببِ ما بحوزةِ هذه الأجهزة من وثائقَ يمكنُها -من خلال تسريبها- فضحُهم أمام شعوبهم؛ ليتعرضوا من ثم للعقاب من جانبها؛ ولذلك تظل جرائم الإدارة الأمريكية بحق الشعوب طَيَّ الكتمان، وفي أحسن الأحوال تتمُّ معاقبة من تم اكتشافهم من عملائها بترحيلهم ليستكملوا بقيةَ حياتهم لديها، خُصُوصاً إذَا كانوا من ذوي الجنسية المزدوجة.
ولقد تكبَّدت القوى الاستعماريةُ الصهيوغربية خسائرَ فادحةً مادية وبشرية في ظل أُسلُـوبها الاستعماري القديم القائمِ على الاحتلال المباشر للشعوب لإذلالها ونهبِ خيراتها؛ ولإدراك أغلب الشعوب أن الاحتلال يمثل قيدًا على حريتها، يمنعها من النهوض واللحاق برَكْبِ الدول المتقدمة، وإدراكها أن بلدانها تمثل فقط مادةً خامًّا، تستفيدُ من مواردها قوى الاستعمار، وفي ذات الوقت سوقاً استهلاكية لمنتجاتها.
وبسبب النزعةِ التحرّرية لدى أغلب شعوب العالم، أقلعت تلك القوى عن أُسلُـوبها الاستعماري القديم، لكنها لم تقلعْ عن أهدافها الاستعمارية؛ فعملت قبل مغادرتها البلدانَ التي كانت تستعمرُها على تثبيتِ وجودِها في مختلفِ الأجهزة والمؤسّسات الرسمية للدول، إمَّا بشكل مباشر من خلال وجود عناصرَ استخبارية تتبعها، تحت عناوينَ متعددة، منها تقديم خدمات استشارية لتلك البلدان، أَو تدريب العناصر الأمنية فيها، أَو من خلال تجنيد عملاء يعملون لحسابها، ويؤدون المهامَّ المكلفين بها من جانبها كما هو الحال بالنسبة لشبكة العملاء التي كشفت عنها الأجهزة الأمنية في بلادنا يوم أمس.
أهدافٌ خفية للقوى الاستعمارية:
ولا يقتصر تواجد القوى الاستعمارية الصهيوغربية على المجالات العسكرية والأمنية، بل يشمل مجالات متعددة، منها: الزراعية والصناعية والاقتصادية، والشؤون المحلية، وغيرها من المجالات الحيوية، وليس عنا ببعيد ذلك الاختراق المتعلق بالشأن المحلي الذي تم سنة 2000 عندما أصدر الصريع عفاش ما سمي بقانون السلطة المحلية، وكان قبل ذلك قد جلب الأجهزة الاستخبارية التابعة للقوى الاستعمارية الصهيوغربية؛ لترسم له الخطوط العريضة لتطوير تجربة السلطة المحلية، حينها جرى النقاش في وزارة الإدارة المحلية عن التمويل بوصفه الدينمو المحرك لأي نشاط بشري، ولا نجاح لأية تجربة دون توافر المال اللازم لتمويلها، وأثناء مناقشة موضوع التمويل تساءل الخبراء الأجانب (المخبرين) عن أنواع الموارد وأقلها كلفة حين التحصيل، فطرح البعض مورد الزكاة، -ويبدو أن الطرح لم يكن تلقائيًّا، بل كان مدروسًا ومرتَّبًا مسبقًا- وهو مورد غير مكلف في عملية تحصيله؛ كون الزكاة تمثل التزامًا دينيًّا بالنسبة للمواطنين، يحرصون كُـلَّ الحرص على الوفاء به في موعده المحدّد.
ولذلك استحسن الخبراء هذا الطرح، وأكّـدوا أن مورد الزكاة هو المورد الذي من شأنه أن ينهَضَ بتجربة السلطة المحلية، ويحقّق لها النجاحَ في وقت قياسي، لكن في المقابل طرح البعض أن الزكاة مخصصة لفئة الفقراء والمساكين من أبناء المجتمع اليمني، حينها هز المستعمر رأسه وتساءل عن الحصيلة المتوقعة لمورد الزكاة التي يستفيد منها الفقراء والمساكين، ويبدو أن الجواب من المعنيين كان حول العشرين ملياراً سنويًّا، فرد المستعمر بأنه سيتم اعتماد أكثر من ضعف هذا المبلغ سنوياً للفقراء والمساكين عبر صندوق سيموله المانحون، وبالفعل تم اعتماد مبلغ خمسة وأربعين مليارًا من جانب القوى الاستعمارية الغربية لصندوق الضمان الاجتماعي.
وفي الظاهر تم تحقيق إنجاز كبير للفقراء والمساكين، لكن نظرة فاحصة في هذا الموضوع ستكشف هدفَ القوى الاستعمارية الغربية؛ فلو كانت هذه القوى جادة فعلاً، ومعنية فعلاً بتطوير تجربة السلطة المحلية لخصصت ذلك المبلغ الكبير لتطوير التجربة المحلية في وقت قياسي -كما روَّجت- وتترك الزكاة لمستحقيها، لكنها ولإدراكها لأهميّة الوظيفة الاجتماعية للزكاة في المجتمع، فقد كان هدفها يتمحور حول ضرب هذه الوظيفة لإيجاد هوة سحيقة في العلاقات الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء من أبناء البلد، ولتحلَّ بذلك البُغض والكراهية بين أبناء المجتمع، بدلًا عن التراحم والتكافل في ما بينهم.
وبإحلال الكراهية في أوساط المجتمع من جانب المحتاجين: فقراء وَمساكين وغيرهم من أبناء الشعب، وهم الأغلبية الساحقة، ستتحول نظرة الود إلى المانح الأجنبي، الذي يوفر لهم احتياجاتهم المختلفة، ويطعمهم من جوع، وبالفعل نجح المستعمر الأجنبي في تمرير أجندته الإجرامية بحق شعبنا اليمني، وتم التفاعل معها من جانب كافة المستويات الرسمية في الدولة؛ فتم رفع مشروع القانون من الوزارة وأقره مجلس الوزراء، وأقره مجلس النواب، وأصدره رئيس الدولة، رغم أن الدستور قد نص بشكل واضح وصريح على أن (الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات) ونص على أن الزكاة (تجبيها الدولة وتصرفها في مصارفها الشرعية).
والصدمةُ الحقيقيةُ تمثَّلت في تمرير هذه الأجندة في كافة مستويات مؤسّسات الدولة، رغم انتهاكها الصارخ للدستور، ومخالفتها للشريعة الإسلامية، وكأن جميع القائمين على مؤسّسات الدولة لا تربطهم بدينهم أية رابطة؛ وهو ما يؤكّـد عمق التغلغل للأجهزة الاستخبارية في مؤسّسات الدولة في حينه، وتجاوزها لكل العوائق التي يمكن أن تحول دون تنفيذ أجنداتها، وأصبحت الزكاة أحد موارد السلطة المحلية تُصرف عائداتها مقابل أثاث وتجهيزات وسفريات، وما خفي كان أعظم! واستمر هذا الوضع المختل قائماً لمدة ثمانية عشر عاماً، حين تم استرداد مورد فريضة الزكاة سنة 2018 بجهود كبيرة بدأت عام 2015 وبمتابعة مباشرة وحثيثة ومُستمرّة وبإصرار كبير من جانب قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- ولا يتسع المقام هنا لسرد وقائع ثلاث سنوات من الاعتراضات والتهويلات والاستماتة من جانب البعض في الدفاع عن بقاء مورد الزكاة للسلطة المحلية؛ باعتبَار أن سحب هذا المورد منها سيؤدي إلى انهيارها وانهيار البلاد حسب تهويلهم في حينه.
والمؤكّـد أن الإدارة الأمريكية الإجرامية، تعد أكثر القوى الاستعمارية الصهيوغربية استفادةً من الأُسلُـوب الاستعماري الجديد، القائم على التواجد الناعم في مختلف مؤسّسات الدول تحت عناوينً متعددة، ومن خلال تجنيد العملاء المحليين في مختلف دول العالم، التي ترى هذه الإدارة الإجراميةُ أن وجودَها فيها يخدم مصالحها الاستعمارية، القائمةَ على نهب خيرات الشعوب، وهي وإن كانت تظهر لتلك الشعوب أنها حريصةٌ كُـلَّ الحرص على تحقيق النمو والاستقرار لمجتمعاتها، لكن الحقيقة أنها غير معنية تماماً بتحقيق أي مظهر من مظاهر الاستقرار لا السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا الأمني في الدول التي تتواجد فيها، وَفْـقًا لأُسلُـوبها الاستعماري الجديد.
ويتحدّد هدف القوى الاستعمارية الصهيوغربية عُمُـومًا والأمريكية خُصُوصاً، في تكريس وجود الاختلالات في مختلف مؤسّسات وأجهزة الدولة، لتظهر هذه المؤسّسات عاجزةً عن إدارة أبسط الشؤون العامة، وعاجزة عن تأمين أبسط مقومات الحياة لشعوبها، ولتظهر القوى الاستعمارية من نافذة أُخرى؛ لتغطية عجز أجهزة الدولة ومؤسّساتها الرسمية، فتعمل هذه القوى على تقديم المساعدات تحت عناوين إنسانية، ومن خلال مئات المنظمات العاملة في هذا المجال، والتي تعد في حقيقتها أَو أغلبها ضمن الأجهزة الاستخبارية للدول الاستعمارية الصهيوغربية، حَيثُ تعمل هذه المنظمات على الحلول تدريجيًّا محل مؤسّسات الدولة المعنية، في توفير الاحتياجات الضرورية لأعداد هائلة من المواطنين في الدول التي تعمل فيها.
وتعمل في ذات الوقت -من خلال توزيعها المباشر واتصالها بالمحتاجين من شعوب الأُمَّــة العربية وغيرها من الشعوب- على ربطهم بتلك المنظمات وإضعاف علاقتهم بمؤسّسات دولتهم؛ وهو ما يترتب عليه وجود هُـوَّةٍ سحيقة بينهم وبين مؤسّسات دولتهم، التي عجزت عن توفير المتطلبات الأَسَاسية لحياتهم.
وقد خططت الإدارة الأمريكية الإجرامية مبكراً لاستخدام المنظمات العاملة في المجال الإنساني لتحقيق أهدافها في تدمير الشعوب ومقومات حياتها، وأفصحت عن ذلك في سبعينيات القرن الماضي في وثيقة سرية بعنوان مذكرة الأمن القومي، والتي عُرفت لاحقاً بـ (تقرير كيسنجر)، الذي أوصى الإدارة الأمريكية بعدم الإعلان عن أنشطتها، وأن تقوم باستخدام المنظمات غير الحكومية، والاعتماد على الوكالات المتعددة الأطراف، التي لديها مشاريع إنسانية في أغلب دول العالم.
ولا تقتصر أهداف القوى الاستعمارية الصهيوغربية على الجوانب السابقة، بل إنها تعمل على دراسة أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية في شعوب الأُمَّــة العربية تحديداً؛ لتعمل من خلال نقاط الضعف في هذه العلاقات على تدمير الروابط الاجتماعية، وزرع بذور الصراع بين أفراد المجتمع؛ فتبدأ القوى الاستعمارية الصهيوغربية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية أولًا: بتدمير ولاء الأفراد لدولتهم ووطنهم، لصالح مؤسّساتها وأجهزتها الاستخبارية، وتعملُ ثانياً: على تدمير وتفكيك النسيج الاجتماعي، ولا تقفُ أهدافَها الإجرامية عند هذا الحد، بل إنها تهيِّئُ المجتمعَ لصراع بيني، ينتهي بتدمير الدولة ومؤسّساتها، وهذا الوضع يبدو أكثر وضوحاً في هذه المرحلة، في عدد من شعوب أمتنا العربية وغيرها من الشعوب الآسيوية والإفريقية؛ ليجسد كُـلُّ ذلك الإجرام حقيقةَ أن (الإدارةَ الأمريكية مستنقَعُ الجريمة الدولية).