المواقفُ العربية والغربية والأثرُ الكاشفُ لـ (طوفان الأقصى)
د/ عبد الرحمن المختار
تباينت المواقفُ عربيةً وغربيةً، عقبَ عملية (طوفان الأقصى) في 7 أُكتوبر الماضي؛ فبدءًا بجوار غزة القريب المرتبط معها برابطة الجغرافيا، وروابطَ أُخرى أهم منها، وانتهاءً بالغرب البعيد عنها بقياس الجغرافيا، وبغيرِها مقارنةً بالجوار العربي؛ فمن العرب من أدان على الملأ عملية (طوفان الأقصى)، ومنهم من بالَغَ في الإدانة، ومنهم من تطرَّف وأسرَفَ في التوصيف، ويمكن -جدلًا- أن نلتمسَ له عُذرًا في اليوم الأول؛ فلعلَّ (طوفانَ الأقصى) أفسد عليه مشروعًا مُهِمًّا من وجهة نظره، (التطبيع) كان على وشكِ الإنجاز.
لكن بعد أول فعل من أفعال جريمة الإبادة المقترَفة من جانب جيش الكيان الصهيوني بحق أبناء قطاع غزة -أطفالًا ونساءً وشيوخًا- الأصل أن تتعدل ردة الفعل العربية الأولى على العملية، لينتقل صاحب الموقف إلى مقارنة جدوى مشروعه، الذي توقف؛ بسَببِ عملية الطوفان مع التزاماته الدينية والأخوية والأخلاقية والإنسانية، تجاه من تعرضوا لأول فعل من أفعال جريمة الإبادة.
وهنا قد يلتمس البعض لصاحب الموقف العربي عُذرًا إضافيًّا؛ باعتبَار أن ما حدث كان ردة فعل من الطرف الآخر الشريك له في مشروعه، وأنه يقدرُ له ذلك، حتى وإن كان مبالغًا فيه، لكن وبعد تكرار وتتابع أفعال جريمة الإبادة، فالمؤكّـد أن صاحب الموقف العربي سيُقيّم بشكل جدي موقفَه، ومدى انسجام هذا الموقف مع تعاليم دينه أولًا، وواجباته تجاه إخوانه ثانيًا، ومن ثَمَّ فتقييم الموقف لن يخرج والحال هذه عن أحد احتمالينِ:
الأول: الاعتراض على مبالغة شريكه في المشروع (الكيان الصهيوني) في ردة الفعل، ويطالبه بالتخفيف من حدة هذا الرد، بوصفه غيرَ متناسب مع الفعل من جوانبَ متعددة، أهمُّها وقوعُه على مَن لا علاقةَ لهم بفعل الطوفان خُصُوصاً الأطفال والنساء وكبار السن، وعُمُـومًا كُـلُّ من لم يشارك بأي شكل في ذلك الفعل.
الثاني: سيكون مترتِّبًا على موقف شريكه في المشروع من الاعتراض على سلوكه وفقًا للاحتمال الأول؛ فقد يلجأ صاحب الموقف العربي إلى المساعدة في معالجة آثار عملية الطوفان في حال استجابة شريكه في المشروع (الكيان الصهيوني) لوقف أفعال جريمته أَو التخفيف من حدتها بشكل تدريجي، أما إذَا لم يتفاعل في ذلك وصعّد أفعال جريمته، فَــإنَّ صاحب الموقف العربي سيكون مضطَرًّا إلى إنذار شريكه بإلغاء الشراكة معه في المشروع؛ لتجاوزه في ردة فعله حدود المعقول، وهذا هو المجرى العادي والطبيعي للأمور في أسوأ الأحوال.
وليس منطقيًّا ولا معقولًا ولا مقبولًا ألا يلتزمَ صاحبُ الموقف العربي بأيٍّ من الاحتمالين السابقين؛ باعتبَار أن عدم الالتزام بأحدهما يعني أمرًا واحدًا لا ثانيَ له، وهو أنه لا توجد شراكةٌ في مشروع بين طرفَينِ، بل يوجدُ طرفٌ واحدٌ ومشروعٌ واحد، وأن ردةَ الفعل صادرةٌ عنه، بغضِّ النظر عما هو ظاهرٌ ومعلَنٌ من وجود طرفَينِ شريكَينِ في مشروع، فذلك تكتيكٌ معلَنٌ، والأَسَاسُ أَو الاستراتيجي هو غيرُ المعلَن، الذي يؤكّـد اندماجَ الطرفين بشكل كامل؛ وهو ما يفسِّرُ موقفَ الطرف العربي بعدمِ تبنِّي أَيٍّ من الاحتمالين السابقين.
وقد يذهبُ البعضُ إلى أن هذا التحليل لا يعدو عن كونه فلسفةً بعيدةً عن الواقع؛ باعتبَار أن لكل دولةٍ طرفٍ في مشروع مع دولة أُخرى، أن تتخذَ الموقفَ المنسجمَ مع مصالحها؛ كونها صاحبةَ سيادة، ومن خصائصِ السيادة الاستقلال داخليًّا وخارجيًّا في تصرفاتها ومواقفها وقراراتها، وهذا القول يمكن أن يُقبل في حال دولة لا ينتمي شعبها إلى الأُمَّــة الإسلامية، أما بالنسبة لدولة تقع في قلب النطاق الجغرافي لهذه الأُمَّــة، فَــإنَّ الحديث عن سيادة الدولة واستقلالها في تصرفاتها لا يمكن قبوله بحال من الأحوال؛ باعتبَار أن التحليل السابق، الذي انتهى إلى أن الشريك العربي في المشروع المحدّد بكلمة واحدة بين قوسين (التطبيع) لم يتبنَّ أَيًّا من الاحتمالين محل التحليل، فَــإنَّ ذلك يعني انتفاءَ الشراكة في المشروع وانتفاءَ الأطراف الشركاء فيه؛ كون المشروعُ واحدًا، والكلُّ منصهرٌ فيه عبريًّا وعربيًّا!
وهذا التحليل له أَسَاسٌ قوي صادق، لا يمكن لمسلم أن يشكِّكَ فيه، متين يستحيل على مسلم أن ينفيَه، وهو من حَيثُ الأصل معلوم بالضرورة لكل مسلم، وهذا الأَسَاس هو قول الله سبحانه وتعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ وليس هناك من تحليل للحالة السابقة أفصح وأوضح وأقوى وأدق دلالة من هذه الآية، لسبب مهم، وهو أن التحليل البشري قائم على الاحتمال المترتب على المعطيات المتاحة، وهو إن لم يكن صائبًا تماماً، فَــإنَّه سيكون على الأقل قريبًا من الصواب، أما دلالة هذه الآية فهي قطعية قائمة على العلم بمكنونات وخبايا النفس البشرية، فوق كونها قائمةً على تحديد سلوكات يلزم من توافرها تحقُّق حُكم الآية، ومن ثَمَّ فَــإنَّ ما اصطُلح على تسميته (بالتطبيع) مع اليهود هو مولاة لهم، وهذا التطبيع يجعل المطبِّع أَو الراغب في التطبيع من اليهود لا فرقَ أبدًا بينهم.
وهنا يصُحُّ القول إن أثرَ (طوفان الأقصى) على مواقف الأنظمة العربية لم يكن منشئًا، بل إن هذا الأثر كاشفٌ لمواقفَ قائمةٍ وموجودةٍ فعلًا، من قبل عملية الطوفان، وهذه المواقف تتجاوز في خطورتها مُجَـرّد مسألة (التطبيع) التي تم الترويج لها منذ عقود، وانخرطت فيها أنظمة عربية، وأُخرى في الطريق، إلى ما هو أخطر من ذلك، وكل ذي وعي وبصيرة يستطيع بكل سهولة، وبدون جهد وعناء، وفي ظل تخاذل العلماء، أن يتبين التوصيف الحقيقي للحالة العربية للمطبِّعين من حكم هذه الآية الكريمة؛ فالتوصيف الحقيقي يتجاوز مُجَـرّد مصطلح التطبيع، وهذا التجاوز البالغ الخطورة، هو الذي يفسر -بكل وضوح- موقف الأنظمة العربية عُمُـومًا، وأنظمة الجوار العربي لفلسطين المحتلّة خُصُوصاً من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، التي اقترفها ولا يزال يقترفها جيش الكيان الصهيوني بحق سكان قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر.
ولا يقتصر الأمر هنا على مُجَـرّد موقف الأنظمة العربية عُمُـومًا، وأنظمة الجوار العربي لفلسطين المحتلّة خُصُوصاً، بل تجاوز ذلك إلى الشعوب العربية، التي لم تخرج مواقفُها الجوهرية عن مواقف أنظمتها الحاكمة، بغضِّ النظر عن بعض المواقف الشكلية لبعض الشعوب، التي لا ترقى أبدًا إلى أدنى مستوىً يمليه عليها واجبُها الديني، تجاه إخوانها من أبناء شعب فلسطين في قطاع غزة، فإذا كان منطقيًّا ومعقولًا ومقبولًا، وَفْقًا للمعطيات المتاحة، وصف موقف الأنظمة العربية بما سبق من الناحيتين الدينية والعقلية؛ باعتبَار أن المولاة للصهاينة على حساب دماء شعب فلسطين المسلم، ظلمٌ عظيمٌ، ينفي عن الحكام في تلك الأنظمة أَيَّةَ فُرصةٍ للاهتداء إلى الحق ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فما هو المعطى الذي على أَسَاسه يمكن توصيف مواقف الشعوب العربية المتخاذلة عن نصرة إخوانهم في قطاع غزة؟ وهل يرقى وصف موقف الشعوب إلى ما هو عليه موقف أنظمة الحاكمة من مولاة وظلم عظيم؟
الحقيقة أن (طوفان الأقصى) وما تبعه من جريمة إبادة بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، اقترف أفعالها ولا يزال جيش الكيان الصهيوني، بمشاركة قوى استعمارية غربية، على رأسها الإدارة الأمريكية، هذا الطوفان أثرُه كاشِفٌ أَيْـضاً لمواقف الشعوب العربية؛ فحالة الخِذلانِ لم ينشئها (طوفان الأقصى) من العدم، بل هي حالة كامنة في وجدان الشعوب العربية، اقتصر أثر الطوفان على الكشف عنها، وَإذَا كانت حالةُ الخِذلانِ هذه كامنةً في وجدان الشعوب العربية فما هو سبَبُها؟
إنَّ مَن يسعى فعلًا للحصول على إجَابَة وافية وكافية وشافية لهذا التساؤل، عليه الرجوع إلى دروس السيد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- الذي تحدث فيها بشكل مفصل عن حالة سَمَّاها (تدجين الشعوب)، وقد بيّن أن هذه الحالة على درجة عالية من الخطورة، وحمّل بكل صراحة ووضوح المسؤولية عنها للعلماء، الذين ارتضوا أن يكونوا أبواقًا للحكام؛ فكان دورُهم تدجينَ الشعوب وإخضاعَها للحكام، وبالنتيجة إخضاعها لأعدائها.
فالأمرُ تجاوَزَ بشكل خطير مُجَـرَّدَ خضوعِ الحكام لأعداء الأُمَّــة، بل سبقه ترويضُ هؤلاء الحكام لعلماء الأُمَّــة، الذين عملوا على إفسادِ دينها وقدَّموه للشعوب بأنه طاعةٌ مطلقةٌ لولاة الأمر، بغض النظر عن حالهم، ومدى التزامهم ووفائهم بواجبات دينهم؛ ليسوقَ الحُكَّامُ شُعُوبَهم في نهاية المطاف كقطعان الأغنام إلى حظائر القوى الاستعمارية الصهيوغربية!
فلا نستغربُ إذَن حالة الشعوب العربية الراهنة، ومواقفها المتخاذلة المتماهية مع مواقف أنظمتها الحاكمة؛ فهذه المواقف ليست وليدة اللحظة، ولم يكن متوقعًا لهذه المواقف أن تكونَ أفضَلَ مما هي عليه؛ باعتبَار أنَّها نتاجُ عقودٍ خَلَتْ من التضليل والانحراف، الذي تولَّاه عُلماءُ بلاط الحكام، ولا يمكن للدماء المسفوكة والأشلاء الممزقة في قطاع غزة أن تُنشِئَ موقفًا شعبيًّا عربيًّا مغايرًا لما هو عليه موقف هذه الشعوب، التي دُجِّنت وخنعت وخضعت لحكامها، والتزمت طاعتَهم دون قيد أَو شرط، ولا يمكن تجاوُزُ راهِنِ الشعوب العربية إلى ما هو أفضل، إلا بزلزالٍ مدمِّـرٍ يأتي على كُـلّ ما بناه علماء الضلال وحكام الجور والإجرام في وجدانها.
وإذا ما تساءلنا عن أثر (طوفان الأقصى) على موقف أنظمة الغرب وشعوبها، وما إذَا كان هذا الموقفُ كاشِفًا أَو مُنْشِئًا للحالة لديها؟ فالإجَابَة سهلةٌ ميسَّرَةٌ فبالنسبة للأنظمة الغربية الشريكة للكيان الصهيوني في جريمته، هذه الأنظمة استفادت كَثيراً من حالة التدجين والخضوع والخنوع، التي عليها الشعوب العربية في ترويجِ زيفِها وأكاذيبِها؛ ولأَنَّ من يقع على عاتقهم بيانُ الحال والمقال لشعوب الأُمَّــة مُجَـرّد أدوات في أيدي الحكام، وهؤلاء هم أَيْـضاً مُجَـرّد أدوات في أيدي تلك القوى، فقد كانت لها الصولة والجولة في كُـلّ ميدان، وكانت لها الكلمة الأولى في كُـلّ شأن من شؤون الشعوب العربية؛ فهي من تقرّر سقف الحقوق والحريات للشعوب، وكأنه لا أَسَاس ولا سقف لها في دينها! وانطلى على الشعوب كُـلّ ذلك الزيف الصهيوغربي.
ولما كشفت دماء وأشلاء الأبرياء -أطفالًا ونساءً وشيوخًا- في قطاع غزة ذلك الزيفَ، لم تأبه القوى الصهيوغربيةُ لذلك الانكشاف؛ لاعتمادها على سابق فعلها المؤثر خلال عقود من الزمن في وجدان الشعوب العربية، وإفسادها لدينها، فلم تخجل القوى الاستعمارية من سابق ترويجها لحماية حقوق الإنسان، وهي تشارك في إهدار أسمى حق من حقوق الإنسان في قطاع غزة، وهو الحق في الحياة! ليس بحالات فردية، بل بأفعال إبادة جماعية.
وفي كُـلّ الأحوال فَــإنَّ أثر (طوفان الأقصى) اقتصر على الكشف عن مواقف القوى الاستعمارية الصهيوغربية؛ فمواقفها لم تكن ردة فعل على عملية (طوفان الأقصى)؛ باعتبَار أن مواقفَها المعلَنةَ وأعظَمَ منها موجودةٌ مسبقًا وكامنةٌ في مخطّطات تلك القوى، التي أهدرت بـ (طوفان الأقصى) أَو بدونه حقَّ الإنسان العربي المسلم في الحياة، مع اختلاف العناوين والنطاقات الجغرافية، لكن النتيجة واحدة وهي استمرار القوى الصهيوغربية في أفعال إبادة الشعوب العربية بيدها أَو بيد أبناء تلك الشعوب، وهي تتنقلُ بكل أريحية من شعبٍ إلى آخرَ؛ لتُجهِزَ في نهاية المطاف على الجميع متفرقين!
وبالنسبة لأثر (طوفان الأقصى) على مواقف شعوب القوى الغربية الاستعمارية، فَــإنَّ هذا الأثر اقتصر على الكشف عن مواقف تلك الشعوب، ولم ينشئها من العدم؛ فعلى مدى عقود من الزمن روجت القوى الاستعمارية الغربية؛ لتبنِّيها الدفاعَ عن حقوق الإنسان في المنطقة العربية في مواجهة الحكام المتسلطين، ورغم أن ذلك الترويج لا يخرج عن كونه زيفًا وتضليلًا، غير أن الشعوبَ الغربية قابلته بارتياح بالغ، وترسَّخت لديها القناعةُ بأن أنظمتَها الحاكمة الديمقراطية، تنثُرُ الحريةَ وحقوقَ الإنسان على شعوب الأرض قاطبةً؛ لتحرّرهم من تسلط حكامهم، وتمكّنهم من ممارسة حقوقهم وحرياتهم.
لكن هذه الشعوب -ولأَنَّها غيرُ مبرمجة على طاعة الحكام في كُـلِّ الأحوال، كما هو حالُ الشعوب العربية- تأثَّرت بوحشية الكيان الصهيوني وأنظمتها الحاكمة التي جسَّدتها أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزةَ؛ فاستدعت مباشرةً قناعتها المترسخة عن دفاع أنظمتها الحاكمة عن حقوق الإنسان، وأسقطتها على ما يجري من إهدارٍ لحق الحياة في قطاع غزة؛ فتحَرّكت تلك الشعوب بتلقائيةٍ؛ لتُعَبِّــرَ عن مواقفِها في شكلِ احتجاجات متواصلة ومتصاعدة، ضد أنظمتها الحاكمة التي كشف (طوفان الأقصى) عميقَ زيفها وتضليلها، حولَ حماية ورعاية حقوق الإنسان والدفاع عنها.