المؤاخاة: منهجيةُ القوّة وتحقُّقُ النصر
سندس يوسف الأسعد
حرصت الشريعةُ السّمحاء -منذ فجر الإسلام الأول- على تحقيق الأخوة الإيمانيّة كضمانٍ لحفظ المجتمع على شتى المستويات وبالتاي تحقق الفلاح: ﴿يَا وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1]. وكما يتضح من الآية القرأنيّة الكريمة، ثمة ركائز ثلاث للأخوة ألا وهي: الإيمان + المحبة + الإيثار. كما أن السيرة العطرة لأئمة أهل البيت (عليهم السّلام) جسدت أسمى نماذج الأخوة الإيمانيّة حيث التحذير المتواصل من تفكك عُرَى الأخوة: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾[2].
إنّ كل السّياقات المحيطة بـ حادثة الغدير تكرس هذا المبدأ، فها هو النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يخاطب بني هاشم: «يا بني عبد المطلب إني لكم نذير من الله عز وجل، إني أتيتكم بما لم يأت به أحد من العرب. فإن تطيعوني ترشدوا وتفلحوا وتنجحوا، إن هذه مائدة أمرني الله بها فصنعتها لكم كما صنع عيسى ابن مريم لقومه فمن كفر بعد ذلك منكم فإن الله يعذّبه عذابًا شديدًا، واتقوا الله واسمعوا ما أقول لكم. واعلموا يا بني عبد المطلب إن الله لم يبعث رسولًا إلا جعل له أخًا ووزيرًا ووصيًا ووارثًا من أهله. ولقد جعل لي وزيرًا كما جعل للأنبياء من قبلي. وإن الله قد أرسلني للناس كافة وأنزل علي ﴿وأنذر عشرتك الأقربين﴾». ويتابع الرسول (صلى الله عليه وآله): «لقد جئتكم بخير الدنيا والأخرة ولقد أمرني ربي أن أدعوكم إلي.. فأيكم يؤزرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم من بعدي؟». تقول الرواية بأنهم أحجموا جميعًا عن الكلام إلّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي أجاب: «أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه». فكان ردّ الرسول (صلى الله عليه وآله): «إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»[3].
هذه التعاضد الاستثنائيّ بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السّلام) تحوّل لاحقًا إلى مدرسةٍ ومنهجٍ يُحتذى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[4]. لم ترتكز أخوتهما على العصبية أو رابطة الدم بل على ركائز التقوى والإيمان والتضحية في سبيل الله كما ورد في دعاء الندبة[5]: «ثم أودعه علمه وحكمته، فقال: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، ثم قال له: أنت أخي ووصيي ووارثي، لحمك من لحمي، ودمك من دمي، وسلمك سلمي، وحربك حربي، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنت غداً على الحوض معي، وأنت خليفتي، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي، وشيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة وهم جيراني، ولولا أنت يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي. فكان بعده هدىً من الضلالة، ونورًا من العمى، وحبل الله المتين وصراطه المستقيم».
في هذا السّياق، نلحظ كيف قدّم الشَّهيدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس (رض) انموذجًا فذًّا في الأخوة الإيمانيّة. معًا ضحيّا تضحياتٍ جمّة في سبيل إعلاء راية الإسلام المحمديّ الأصيل ومكافحة الإرهاب والتكفير وصدّ الدعايات الفتنويّة المغرضة، لذا فإنّ جريمة اغتيالهما لن تمحى من ذاكرة وقلوب الأجيال، وستبقى نبراسّا في المقاومة والجهاد والتآزر والعمل الرساليّ. منذ أن دخل الارهاب الداعشي الى أرض العراق، لم يتركا أية عملية دون أن يكونا حاضرين فيها على الأرض، خاصةً أثناء معركة «البوكمال» وغيرها من ملاحم البطولة. أدارا معًا غرفة العمليات التي شيّبت رأس الاستكبار؛ في منطقة «آمرلي»، لزما الميدان الصحراوي قرابة الشهر حتى انجاز فك الحصار. صورهما، تسجيلاتهما العفويّة، حكاياهما، ذكرياتهما ولا سيّما تلك المتعلقة بتشييعهما كلّها حديث الناس وأثرها أكبر وأعظم.
يعرّف آية الله الشّيخ عيسى أحمد قاسم[6] الأخوة كالتالي: «الأخوة الإيمانيّة تعنى روابط روحيّة متينة، ورؤية قكريّة مشتركة، تعني قلبين التقيا على خطّ الله، وهتديا بهديّه؛ فتوحد منهما الهدف وهو أكبر هدف، واشترك عندهما المنطلق وهو أصدق منطلق –أي منطلق التوحيد– وصارت حياتهما منشدة إلى منهد واحد وهو منهج الرسالة والأنبياء والرسل والأولياء (عليهم السّلام). إنها أخوّة قلبين تعارفا على طريق الله وتآلفًا. قد يلتقي أحدهما وهو في المشرق بالآخر وهو في المغرب، أخوة تتجه بالأخوين إلى الله سبحانه وتعالى وتوحد بينهما على مستوى العقل والإرادة والنفس بكل مشاعرها، وعلى مستوى الإرادة على مستوى السلوك»[7].
عن محمد بن يحيى، عن الأشعري، عن أحمد بن محمد، عن محفوظ بن خالد، عن محمد بن زيد قال: «من استفاد أخًا في الله فقد استفاد بيتًا في الجنة»[8]. الشَّهيد الحاج أبو مهدي (رض) كان يزور باستمرار سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) والشّهيدين الحاج عماد والسيد ذو الفقار (رض) وبعد شهادتيهما باتت روضة الشهيدين[9] وجهته الدائمة. قبل استشهاده، اتصل بالحاج قاسم طالبًا اليه عدم القدوم فرد الحاج (رض): «أنت لا تأت، أرسل لي الشباب، ولا تأت»، فأجاب أبو مهدي (رض): «اذا أتيت، فأنا سأحضر». فقد اعتاد الحاج أبو مهدي (رض) استقبال الحاج قاسم سليماني (رض) في المطار عند قدومه وتوديعه، وهذا ما حدث في نهاية المطاف حيث عرجا معًا، فكانا مصداقًا للآية القرأنية الكريمة: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[10].
كذلك يقول الله (سبحانه وتعالى) في محكم كتابه الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[11]. يتضح مما سبق أهمية الأخوة الإيمانيّة بين الشعوب كـ عاملٍ أساسيٍّ للقوّة والانتصار، وكـ رادعٍ للاستكبار العالميّ الطامع بثرواتنا ومقدراتنا، بل إن «جهاد التبيين» يحتم علينا اليوم صدّ كل محاولة التفرقة وتأجيج الفتن، وهذا تحديدًا ما قام به الشَّهيدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس (رض). سماحة الإمامُ الخامنئيُّ (دامَ ظلُّه) ينوّه بأن: «الجهادُ يعني بذلَ الجُهدِ في مواجهةِ العدوّ. ليسَ كلُّ جهدٍ جهادًا ثمّةَ كثيرونَ يبذلونَ الجهود، يبذلونَ جهودًا علميّةً كبيرة، يبذلونَ جهودًا اقتصاديّة؛ هذا أمرٌ جيِّدٌ، وفي مكانِه، لكنَّه ليسَ جهادًا. الجهادُ يعني جهدًا فيه استهدافٌ للعدوّ. هذا هو الجهاد»[12].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الحشر – الآية 9
[2] سورة الزخرف – الآية 67
[3] بناء المقالة الفاطمية – السيد ابن طاووس – الصفحة 129
[4] سورة آل عمران – الآية 33
[5] مما يُقرأ في زمن الغيبة؛ رواه السيد ابن طاووس
[6] أبرز المرجعيات الدينية الشيعية في الخليج
[7] آية الله قاسم، الأخوة الإيمانيّة في الكتاب والسّنة، ص 15
[8] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 71 – الصفحة 276
[9] روضة مركزيّة في ضاحية بيروت الجنوبيّة تضم أضرحة شهداء المقاومة الإسلاميّة
[10] سورة الفتح – الآية 29
[11] سورة آل عمران – الآيتان 102 و103
[12] كلمة بمناسبة ذكرى ولادة السيّدة فاطمة الزهراء (س) بتاريخ 23 يناير 2022