في ذكرى وفاة العلامة بدر الدين نقتبسُ عِلمًا ودينًا
ق. حسين بن محمد المهدي
مما لا ريب فيه أن من وثق بالله أغناه، ومن اعتصم به هداه، ومن توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه حماه، ومن خاف اللهَ قلَّت مخاوفُه، وتيسرت مطالبُه، وكَثُرَ نفعُه، وفاض علمُه بالهدى والتقى.
وصدق الله العظيم القائل (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).
العلماء الربانيون لهم دورٌ كبير في إصلاح شؤون الأُمَّــة وبيان ما أنزل الله في كتابه؛ فمن شرفت ذاته كثرت حسناته؛ فالعلماء ورثة الأنبياء إذَا صفت أخلاقهم، وعلت هممُهم أوضحوا وبيّنوا طرقَ الحق والصواب.
فأصحاب الهمم العالية والفقه في الدين لا تعيقُهم الأحداثُ ولو كانت كبيرةً، ولا تثنيهم العراقيل ولو كانت كثيرة.
الغرائز الطيبة التي أودعها الله في كيان العلماء العاملين والرغبة في توضيح شريعة سيد المرسلين دافعٌ يبعث على الهمة العالية على بيان ما جاء في القرآن الحكيم، ومن هؤلاء العلماء التي تمر بنا ذكرى وفاته لنذكر شيئاً من فضله وحسناته العلامة الرباني السيد الجليل المجاهد بدر الدين أمير الدين الحوثي -رضي الله عنه-.
لقد ألّف الفقيدُ -رحمه الله- كتاب التيسير في تفسير القرآن العظيم وهو من خير كتب التفسير العلمية وأكثرها نفعًا، لم نرَ مثله في تصانيف الأولين ولم نرَ شبيهًا له في تأليف العلماء المعاصرين.
اعتمد كَثيراً فيه على تفسير القرآن بالقرآن واعتماد اللغة العربية في البيان مستقلًا بإفهام معانيه، وحيث تختلف القراءات يعتمد قراءة أهل المدينة وقراءة حفص المروية عن الإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-.
لقد أبان فضيلةُ العلامة بدر الدين عما اشتمل عليه كلامُ الله العزيز من حِكَم الله وأحكامه، وحلاله وحرامه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، ووعده ووعيده، وحقيقته ومجازه، وعبره وأمثاله، وقصصه ومواعظه، وبيان ما اشتمل عليه من مكارم أخلاق وحسن معاملة، والدعوة إلى عبادة الله وتنزيهه، وبيان عظمته وقدرته.
لقد كان الفقيد رحمه الله يغوصُ في معاني الآيات القرآنية بأبحاث مفيدة، وحينما يكون هناك خلافٌ يناقشه بحكمة وأدب يجذب القارئ ولا ينفره.
فقد أودع في سورة البقرة بعد تفسيره لقول الحق سبحانه (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعانِ) بحثًا لطيفًا.
لقد بيّن في بحثه عن التوسل أنه لا معنى للتوسُّل بالأشخاص، ورد على من استدل بتوسُّل عُمَرَ بالعباس بقوله: قلت: لعل العباس كان يدعو فصح التوسُّلُ به لأجل دُعائه. وقال: فإذا قلنا: اللهم اقضِ حاجتَنا بجاه فلان فلا معنى له؛ لأَنَّ جاه الفاضل لنفسه لا لغيره.
ولم يكفر من يتوسَّــل بأشخاص الصالحين بل اعتبره لا معنى له.
أمَّا التوسُّلُ بحُبِّ الصالحين فلا إشكال في اتِّخاذه وسيلة، ورد على من يخالف هذا الرأي في سورة المائدة عند تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) بحكمة وفقه قد يجمعُ اللهُ الأُمَّــة كلها عليه؛ ما يكشف أن إمام التفسير العلامة السيد بدرالدين راسخ في العلم.
إن السيد العلامة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي رفيع الشأن تجتمع على محاسن أساليبه في كتابه (التيسير في التفسير) المَهَرَةُ المتقون المتقنون وكأن اللهَ -سبحانه وتعالى- قد أراد أن يكشف لنا ببيان حسن رصفه وجمال وصفه من محاسن القرآن وإعجازه الشيء الكثير.
إن براعتَه في الكلام يدل على تمكّنه من فنون القول ورغبته في جمع كلمة الأُمَّــة لا تفريقها.
إن الهممَ العالية هي التي تجعلُ الأمم تنهض وتتألق وتسعى إلى إصلاح شؤونها ولملمة جروحها وتشعل فتيلَ التنافس الذي يحقّق التقدم العلمي والحضاري للعالم اجمع، ورحم الله الشافعي، حَيثُ يقول:
أمطِري لؤلؤًا جبالُ سرنديب
وفيضي آبارُ تكرور تِبرا
أنا إن عشتُ لستُ أعدمُ قوتًا
وإذا متُّ لستُ أعدم قبرا
همتي همةُ الملوك ونفسي
نفسُ حُرٍّ ترى المذلة كُفرا
لقد كان رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- للمسلمين كافة مَثَلًا يُحتذى ونهجًا يُقتفى في كرم نفسه، وشرف همته وحبه إصلاح شؤون أمته، وتبليغ رسالة ربه، فالشريعة تحث عل ذلك.
وقد توعد اللهُ هذه الأُمَّــة إن هي أخلَّت بأمانتها، وعزفت عن أداء واجبها بقوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).
يتذكر المؤمنُ موتَ العلماء الذي هو ثلمة في الدين فيعمل صالحًا في حياته، ويسعى إلى تحصيل ما ينفعه بعد مماته؛ فهو يحب لقاء الله فيحب الله لقاءَه، وفي الحديث (تحفة المؤمن الموت) (مَن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه)
ألَا مرحبًا بالموت يا خيرَ نازلٍ
لمن كان يحيي ليلَه بالنوافلِ
وما الموتُ إلا راحةٌ من متاعبٍ
وأهوال دهر زعزعت كُـلَّ فاضل
وللإمام علي -عَلَيْـهِ السَّـلَامُ-:
لا دارَ للمرء بعد الموت يسكُنُها
إلا التي كان قبلَ الموت بانيها
فإنْ بناها بخيرٍ طاب بانيها
وإن بناها بِشَرٍّ خاب بانيها
ورحم الله القائل:
فالموتُ وردٌ للجميع وإنه
الحقُّ اليقينُ وما سواه الباطلُ
فاز المشمِّرُ للعبادة ساقَهُ
وثوى بقعرِ جهنمَ المتكاسلُ
فاعمل لما بعد الممات فَــإنَّما
الأعمالُ تنفعُ يومَ يأتي السائلُ
(يا أيها الإنسان إنَّك كادحٌ)
كدحًا إلى رَبِّ العباد فنائلُ
واحذر من التسويفِ فهو مضيعةٌ
للعمر أن الدورَ عندك واصل
لقد ترك الفقيدُ ثروةً علمية هائلة لا يتسع المجال لذكرها، ويكفي للإشادة بذكره وتخليد اسمه أنه عَلَمٌ مجدِّد مجاهد دعا إلى تحرير فلسطين بالقلم واللسان، وكان لذلك الأثر الكبير في نفوس أبنائه وأتباعه ومحبيه، وقد كان النواه الأولى في هذا العصر لتأسيس حركة الجهاد وإيجاد نخبة من أنصار الله تقودهم المسيرة القرآنية بقيادة السيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي ثم بقيادة نجله الأغر سيف الله المسلول السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي -حفظه الله- الذي كان لجهاده واجتهاده الأثرُ الكبيرُ والنصر المؤزر وسيتحقّق بإذن الله بسعيه وجده واجتهاده وأنصار الله وحزبه تحريرُ القدس الشريف (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
رحم اللهُ الفقيدَ رحمةَ الأبرار وأسكنه الفردوسَ الأعلى من الجنة (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي).