الأَسَاسُ القانوني لإجراءات محور المقاومة ضد الكيان الصهيوني
د/ عبد الرحمن المختار
تعرَّضَ الشعبُ الفلسطيني لمآسٍ كبيرةٍ جِـدًّا ناتجةٍ عن مئاتِ الجرائم، التي اقترفها الكيانُ الصهيونيُّ، منذ إعلانِ منظَّمة الأممِ المتحدة قرارَها مَنْحَ الأرض الفلسطينية لليهود، ولم تفارقْ تلك المآسي الديارَ الفلسطينية، منذ أن وطأت القدمُ الهمجيةُ أرضَ فلسطين إلى اليوم، ولعلَّ أقسى المآسي مأساة غزة، مظلومية العصر، وجريمة القرن، لم يسبق أن تعرَّضت البشريةُ لجريمة في مثل بشاعتها، لا من حَيثُ عدد المجرمين المشتركين في اقترافها، ولا من حَيثُ قسوةِ ووحشية آثارها، ولا من حَيثُ عدد المشتركين والمتمالئين مع مقترفيها، ولا من حَيثُ وضوحها وعِلم الكافة بأدق تفاصيلها، ولا من حَيثُ الانحطاطِ القيمي والأخلاقي والإنساني تجاهها، ولا من حَيثُ تخاذُلِ الأقربين عن إغاثة الملهوفين والمفزوعين من الأطفال والنساء من أهوالها، ولا من حَيثُ استكانةِ وتثاقل المأمورين بالنفير لمثلها!
وتكمُنُ بشاعةُ هذه الجريمة في أن أفعالَها تُقترَفُ بشكل مُستمرٍّ ومتتابع، يوميًّا وعلى مدار الساعة منذ عشرة أشهر، دونما توقف، وأن أغلبَ ضحاياها النساء وكبار السن والأطفال، الذين يُمزَّقون أشلاء؛ بسَببِ شدة الانفجارات الناتجة عن قوة القنابل الأمريكية، التي صُنعت خصيصًا لتُستخدمَ في الحروب النظامية بين الدول، لتدميرِ الملاجئ والمخازن على أعماق كبيرة تحت الأرض، وتُستخدَمُ اليومَ في غزةَ لتدمير الأحياء السكنية، التي لا يتوافرُ لها من التحصينِ نسبةُ 1 % مما أعدت له تلك القنابل.
رصيفُ غزة.. شريكٌ محرِّضٌ على الجريمة:
أمَّا من حَيثُ عدد المجرمين المشتركين في اقتراف جريمة القرن، فلم يسبقْ لجريمة أن سجّلت كُـلَّ هذا العدد الكبير، خُصُوصاً مع صغر النطاق الجغرافي الذي تقترف أفعالها فيه؛ وهو ما جعلَ مسرحها أوسعَ مسرح جريمة في تاريخ البشرية؛ فمن واشنطن ونيويورك وتل أبيب وأوتاوا ولندن وباريس وبرلين، وروما، وأستراليا، والرياض، وأبو ظبي والمنامة، وعُمان والقاهرة، وغيرها من العواصم في قارات أمريكا وأُورُوبا وآسيا وأستراليا، يمتد مسرح جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
والمجرمون في جريمة إبادة غزة فئات متعددة، لكل فئة منها دورٌ أَو أدوارٌ متعددة، محدَّدة ومرسومة سلفًا؛ فمنها من يباشر أفعال الجريمة، وهذا الدور مسنَدٌ للكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، التي انكشف دورُها المباشرُ في رصيف غزة العائم، وهي شريكٌ أَسَاسي ومحرِّضٌ على الجريمة من قبل اقتراف أول فعل من أفعالها، حين وصل رئيسُ الإدارة الأمريكية إلى تل أبيب وأعلن عما سمَّاه (حق “إسرائيل” في الدفاع عن النفس)، والذي يتجسد في القضاء على حماس، بوصفها الخطرَ الذي يهدّدُ أمنَ كيان الاحتلال، وأعلن الاستعدادَ عن توفير كافة أنواع العتاد الحربي، والمعدات العسكرية الكفيلة بتحقيق هدف الكيان الصهيوني المعلَن، وينطبق ذلك على دور الحكومة البريطانية أَيْـضاً.
وفئاتٌ من المجرمين اقتصر دورُها على التحريض، وتقديم المساعدة المعاِصرة واللاحقة لارتكاب أفعال الجريمة، كما هو الحالُ بالنسبة للحكومات الألمانية الفرنسية والإيطالية والكندية، وغيرها من الحكومات الغربية، التي أعلنت صراحةً عن مواقفها المساندة للكيان الصهيوني، وقدمت مختلفَ أنواع العتاد الحربي والمعدات العسكرية التي استخدمها الكيان الصهيوني في اقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويرقى دورُ بعض العواصم العربية والإسلامية إلى التحريض والشراكة في الجريمة، كما هو الحال بالنسبة للقاهرة وأبو ظبي؛ فالرئيس المصري صرَّحَ بشكل علني وواضح، بأن “إسرائيل” يمكنُها نقْلُ من أسماهم بالمدنيين إلى صحراء النقب؛ حتى تنجِزَ مهمةَ القضاء على فصائل المقاومة، وهذا الموقف في غاية الخطورة، ذلك أن سُكَّانَ غزةَ كُلُّهم مدنيون، ولا يوجد عسكريون ولا منشآت عسكرية، فأين هو مقرُّ وزارة الدفاع، ورئاسة الأركان، ووزارة الداخلية؟! فالأراضي الفلسطينية كلها تحت الاحتلال، ولشعبها -وَفْـقًا للقانون الدولي- مقاوَمةُ الاحتلال بشكل سلمي أَو مسلح، لكن ذلك لا يبرّر تصنيف سكان غزة، بأن منهم مدنيون ومنهم عسكريون؛ فالجميعُ مدنيون، ومن ثَمَّ يعد موقفُ الرئيس المصري تحريضًا على الإبادة الجماعية لفئة من أبناء الشعب الفلسطيني.
وذات القول ينطبق على أبوظبي، التي أعلنت ممثلتُها في مجلس الأمن الدولي إدانةَ حماس، ووصفت عمليةَ 7 أُكتوبر بأنها همجية، وما سبق ذلك وما لحقه من مواقفَ، سواء تلك المصنِّفة لحماس جماعةً إرهابية، أَو تلك المؤيِّدة لإجراءات الكيان الصهيوني، تجاه حماس وفصائل المقاومة، التي شملت غزة بكل ما فيها ومن فيها، ويندرج تصنيفُ الرياض لحماس جماعةً إرهابيةً ضمن مواقف التحريض للكيان الصهيوني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ويؤكّـد هذا التوصيفَ مواقفُ تلك العواصم السلبية على مدى عشرة أشهر اقترف فيها الكيان الصهيوني أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بشكل مُستمرّ ومتتابع، دون أن تحَرّك تلك العواصم ساكنًا، أَو تتخذ موقفًا جادًّا مغايرًا لمواقفها المعلَنة سابقًا.
الجسرُ البري.. خيانةُ الدول العربية:
ولم يقتصرِ الأمر على مواقف التحريض، بل تعدَّاه إلى تقديم المساعدة المعاصِرة لارتكاب أفعال جريمة الإبادة الجماعية، واللاحقة لها، خلال فترة العشرة الأشهر، حين سيَّرت تلك العواصمُ جسرًا بريًّا يَمُــرُّ عبرَ الأراضي الإماراتية والسعوديّة والأردنية؛ ليصل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهذا الجسر اتخذ منحىً تصاعديًّا، مع تصاعد مستوى أفعال جريمة الإبادة، ولو أن موقفَ تلك العواصم لم يكن تحريضيًّا ومساعدًا لمقترف الجريمة، لأوقفت فورًا إمدَادَه بمختلفِ الاحتياجات عبر الجسر البري، وينطبِقُ ما سبق على أنقرةَ في ما يتعلق بتقديم مساعدة معاصِرةٍ ولاحِقةٍ لاقتراف قوى الإجرام لأفعال جريمة الإبادة الجماعية.
وذلك يعني أن الكيان المجرم قد استخلص من مواقف العواصم السابقة، عدمَ اعتراضها عمليًّا على استمراره في اقتراف أفعال الجريمة، ولو تناهى إلى فهمِ كيان الإجرام أن مواقفَ هذه العواصم، يرفُضُ ويدين استمرار الجريمة بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لَمَا استمر فعلًا، والأكثرُ دلالةً من ذلك أن عواصم العار، لو كان لديها موقف حقيقي فعلي مناهض لارتكاب الجريمة لاستخدمت حاجتَه للإمدَادات عبر الجسر البري وعبر الموانئ وسيلةً للضغط عليه، وإجباره على وقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية، لكنها لم تفعل، وهذا يعني عمليًّا أنها غيرُ معترضة على استمرار ارتكاب الجريمة، بغضِّ النظر عن بعض التصريحات الإعلامية، التي يُقصَدُ منها ذَرُّ الرماد في العيون، وتضليلُ وتخدير الرأي العام العربي والإسلامي، وهي بمثل هذه التصريحات إنما تخدُمُ قوى الإجرام بامتصاصها لغضبِ الرأي العام، وتهدِئَةِ أية عواطفَ شعبيّة انفعالية تجاه مقترف الجريمة!
وهذا الاتساعُ الكبيرُ لمسرح جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، التي توزعت أدوار المجرمين فيها، بين مباشرين أَو محرِّضين أَو شركاءَ أَو مساعدين أَو متمالئين، على قارات العالم، شاملًا ذلك أغلبَ أعضاء منظمة الأمم المتحدة، والأجهزة التابعة لها، المتنصلين عمَّا ألزمهم به ميثاقُها، والقانونُ الدولي من واجبات، يعد التنصلُ عن الاضطلاع بها ارتكابًا للجريمة في صورةِ فعلها السلبي، ورغم كُـلّ ذلك، وكل هذا الحشد من المجرمين، لم يُسمَحْ للقوى الحية في العالم، مَنْعُ قوى الإجرام من الاستمرار في اقتراف أفعال جريمة الإبادة.
فحين تحَرّك شعبنا، ومحور المقاومة لإسناد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، للدفاع عن أنفسهم في مواجهة قوى الإجرام، اعتبرت القوى الإجرامية هذا التحَرّك مزعزعًا للسلم والأمن الدولي، وكأن ما يحدث في قطاع غزة، وما تلقيه طائرة الإجرام، ما هو إلَّا عبارة عن ملطفات لجوِّ السلم والأمن الدولي السائد في الظرف الراهن! وكأن تواجد السفن والبوارج والمدمّـرات وحاملات الطائرات شرقي البحر المتوسط، ما هو لبَثِّ مشاعر الود والطمأنينة والسلام! وليس لفرض حالة ردع عام! على محيط غزة بشكل خاص وعلى المنطقة بشكل عام.
ولأَن سلوكَ شركاء الجريمة لم يُجْدِ نفعًا في ردع قيادتنا وشعبنا، ومحور المقاومة عُمُـومًا؛ فقد تحَرّكت قوى الإجرام إلى البحر الأحمر؛ لفرض حالة ردع خَاصَّة على بلادنا؛ بسَببِ الإجراءات الضاغطة التي استهدفت منع مرور سفن الكيان الصهيوني، والسفن المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلّة، عبر مضيق باب المندب، وتصاعدت تلك الإجراءات لتشمل البحر الأحمر عُمُـومًا وخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي والبحر العربي، وتصاعدت كذلك الإجراءات الضاغطة في مختلف جبهات الإسناد في محور المقاومة.
وكانت الإدارة الأمريكية قد حاولت تعزيز تواجدها في البحر الأحمر على رأس ما سُمِّيَ بتحالف “حارس الازدهار”، بإجراءات قانونية أممية، حين قدمت إلى مجلس الأمن الدولي مشروع قرار يدين إجراءات بلادنا في مواجهة سفن الكيان الصهيوني، والسفن المتجهة إلى الأراضي المحتلّة؛ باعتبَار تلك الإجراءات تمثل تهديدًا لطرق الملاحة الدولية، وليس الكيان الصهيوني فحسب، والمؤسف أن الدول الأعضاء في مجلس الأمن، تعاطت مع مشروع الإدارة الأمريكية بشكل سلبي منتهك لميثاق الأمم المتحدة.
فقد كان الواجب على أعضاء مجلس الأمن الدولي -سواء من يتمتعون بعضوية دائمة، أَو الأعضاء العشرة غير الدائمين- التعاطيَ مع مشروع القرار المرفوع ضد بلادنا بموضوعية تجسد أحكام ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في الفقرة الثالثة من المادة (27) منه على أن (تـصـدر قـرارات مجلـس الأمـن في المـسائل الأُخرى كافـة بمـــوافقة أصوات تــسعـة مــن أعــضائه يكــون مــن بينــها أصوات الأعضاء الــــدائمين متفقــــة؛ بـــشرط أنـــه في القــرارات المتخــذة تطبيقــاً لأحكــام الفــصل الــسادس، والفقــرة ٣ مــن المــادة ٥٢، يمتـــنع مــن كـــان طرفـــاً في النـزاع عن التصويت في الإجراءات).
والواضح من خلال هذا النص أن تمرير أي قرار في مجلس الأمن يلزم موافقة أصوات تسعة أعضاء، بينهم أصوات الأعضاء الدائمين الخمسة متفقة، وهذا الشرط لم يتحقّق في القرار الصادر عن المجلس بإدانة إجراءات بلادنا، ولم يتحقّق شرطٌ آخرُ أكثرُ أهميّةً، هو امتناعُ الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية عن التصويت على القرار؛ باعتبَار أنهما طرفان في النزاع المعروض على مجلس الأمن!
وشرط ثالث أغفله مجلس الأمن وهو ما ورد في المادة (32) من ميثاق الأمم المتحدة ونصه (كل عضو مـن أعضاء “الأمم المتحـدة” لـيس بعـضو في مجلـس الأمن، وأيـة دولـة ليـست عـضواً في “الأمم المتحـدة” إذَا كـان أيهما طرفاً في نزاع معروض على مجلس الأمن، لبحثه يُـدعى إلى الاشتراك في المناقـشات المتعلقـة بهذا النــزاع دون أن يكـون لـه حَــقٌّ في التصويت…).
والواضحُ من خلال هذا النص أن أي نزاع معروض على مجلس الأمن، لا يكتفي المجلس بالاستماع إلى طرف واحد، بل لا بُـدَّ من الاستماع إلى الطرف الآخر في النزاع، سواءٌ أكانت الدولةُ عضوًا في مجلس الأمن، أَو عضوًا في الأمم المتحدة فقط، والأبعدُ من ذلك والأكثرُ عدالة، أن النصَّ لم يغفل حقَّ الدولة -التي ليست عضوًا لا في مجلس الأمن ولا في الأمم المتحدة- بالاشتراك في مناقشة الموضوع المعروض على مجلس الأمن، إذَا كانت طرفًا في النزاع القائم.
وباعتبار أنه في ذلك الحين، عند وضع ميثاق الأمم المتحدة كانت هناك دول لم تكن قد انضمَّت إلى المنظمة الدولية، ودول لم تستقل بعدُ؛ فكان ذلك محل اعتبار واضعي هذا النص، والغريب أن بلادنا عضو في الأمم المتحدة، وطرف في النزاع المعروض على مجلس الأمن! لكن المؤسف أن المجلس تجاهل بلادنا تماماً، وكأنه لا يوجد طرف آخر في النزاع، أَو أن الأمر متعلق بأعمال قرصنة صادرة عن مجهولين! رغم أن إجراءات بلادنا معلَنة وواضحة ومحدّدة، وكان على مجلس الأمن أن يجسِّدَ النص، ويعتبر بلادنا في أسوأ الأحوال دولةً ناشئة، ليست عضوًا في الأمم المتحدة! لها حق الحضور المناقشة والتوضيح لملابسات النزاع!
ويعد النص السابق أكثر عدالة حين صياغته، عندما قرّر للدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة حقَّ الحضور، ومناقشة الموضوع المعروض على مجلس الأمن؛ باعتبَارها طرفًا في النزاع المعروض على المجلس، ومبدأ العدالة قبل أن يقرّره النص السابق، ورد التأكيد عليه في المبدأ الثالث في ديباجة الميثاق، ونصه (وأن نبــيِّن الأحوال الــتي يمكــن في ظلــها تحقيــق العدالــة واحترام الالتزامــات الناشــئة عــن المعاهــدات وغيرهــا مــن مــصادر القــانون الدولي)، ومجلس الأمن لم يحترم مبادئَ الميثاق ونصوصَه، ولم يحترم في تعاطيه مع مشروع القرار المقدم ضد بلادنا، أيةَ التزامات دولية، ولو أن الأعضاء -تحديدًا المتمتعين بالعضوية الدائمة- قد تعاملوا بموضوعية مع ما هو معروض على المجلس لسقط مشروع القرار، الذي يعتبر صدورُه فضيحةً للمنظمة الدولية ومجلس أمنها.
وكل ما تملكه الإدارةُ الأمريكية والحكومة البريطانية، هو إبلاغُ مجلس الأمن الدولي بوجود وقائعَ من شأنها تهديد السلم والأمن الدولي، لا أن تتواجد بقواتها في البحر الأحمر، ثم تحاول شرعنة هذا التواجد بمشروع قرار، تمرره عبر مجلس الأمن، وكأنها ليست دولة طرف في النزاع! فالإدارة من الأمريكية من حَيثُ الأصل عضوٌ في الأمم المتحدة، مثل غيرها من الدول، ومجلسُ الأمن بكامل قوامه هو المعني -وَفْـقًا لأحكام الميثاق- بفحص البلاغ بوجود خطر يهدّد الأمن والسلم الدولي، فما يهدّد الأمن والسلم الدولي هو التواجد الأمريكي والبريطاني وتحالفهما الإجرامي في البحر الأحمر! وكان الأجدر بمجلس الأمن أن يبحث هذه المسألة أولًا، وحتى قبل بحث ومناقشة موضوع الإجراءات الضاغطة التي اتخذتها بلادنا في مواجهة الكيان الصهيوني!
وذلك ما ورد في المادة (34) من ميثاق منظمة الأمم المتحدة ونصه (لمجلس الأمن أن يفحـص أي نـزاع أَو أي موقـف قـد يـؤدي إلى احتكاك دولي أَو قد يثير نزاعاً لكي يقرّرَ مـا إذَا كـان استمرار هذا النـزاع أَو الموقف من شأنه أن يعرِّض للخطـر حفـظ الـسلم والأمن الدولي) وواضح من هذا النص أن القرار لمجلس الأمن بكامل قوامه، بعد فحص ومناقشة النزاع المعروض عليه، وقد يصل مجلس الأمن إلى قناعة بإزالة الأسباب التي أَدَّت إلى نشوب النزاع أَو الموقف، الذي يمكن أن يؤدي إلى احتكاك دولي، وذلك على فرض أن المجلس تعاطى مع ما هو معروضٌ عليه بموضوعية تامة، وحرصٍ كاملٍ على تطبيق أحكام الميثاق، وهذا هو واجبُ الدول دائمة العضوية في المجلس التي قرّر لها الميثاقُ حقَّ الاعتراض (الفيتو) قبل غيرها من الدول الأعضاء فيه غير دائمة العضوية، وهي قد أخلت بواجباتها إخلالًا جسيمًا!
تحَرُّكٌ مشروع:
ويدرك أعضاء مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، أن إجراءات بلادنا الموجَّهة ضد سفن الكيان الصهيوني هدفُها الضغطُ على هذا الكيان المجرم لوقف جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وإجراءات بلادنا الضاغطة ليست تعسفية، ولا مبنية على مُجَـرّد احتمالات بوقوع إبادة جماعية، بل هي إجراءات مبنية على حقائقَ قائمةٍ على أرض الواقع، يشاهدها العالم بأسره بشكل مباشر، والجريمة ذاتها معروضة على الجهاز القضائي لمنظمة الأمم المتحدة (محكمة العدل الدولية)، التي تنظر دعوى مرفوعة أمامها من جمهورية جنوب إفريقيا، تدعو المحكمة إلى الأمر بالوقف الفوري للعمليات العسكرية للكيان الصهيوني، التي أَدَّت لارتكاب أفعال إبادة جماعية وسيؤدي استمرارُها إلى استمرار الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ويجسِّدُ تحَرُّكُ شعبنا ومحور المقاومة ضد الكيان الصهيوني المجرم وشركائه في الجريمة، ما ورد في مقدمة اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقَب عليها من توصيف الجمعية العامة للأمم المتحدة للإبادة الجماعية، بأنها جريمة بمقتضى القانون الدولي ونص ذلك (إذ ترى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بقرارها 96 (د–1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر، 1946 قد أعلنت أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن).
ويأتي تحَرّك بلادنا -وَفْـقًا لهذا المبدأ- لوقف همجية ووحشية تحالف الإجرام الصهيوغربي، الذي يتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، والأصل أن يحظى موقف بلادنا ومحور المقاومة بتأييد واسع النطاق، وفي المقابل إدانة تحالف الإجرام الذي روَّج زيفًا وتضليلًا لعقود من الزمن للمدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو اليوم ينتهك في قطاع غزة أسمى حق من حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة، وبصورة وحشية جماعية، لم يسبق لها في تاريخ البشرية مثيل.
واعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مبدأٍ آخرَ بما لحق بالإنسانية من خسائرَ جسيمةٍ؛ نتيجة لتلك الجريمة التي وصفتها بالآفة البغيضة، وكما ورد ذلك في اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقَب عليها ونصه (وإذ تعترفُ بأن الإبادة الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائرَ جسيمة بالإنسانية؛ وإيمانًا منها بأن تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلبُ التعاونَ الدولي) فأين هو اعترافُ الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن مما يحدث اليوم في قطاع غزة من جريمة إبادة جماعية؟ وأين هو إيمَـانُ الجمعية العامة للأمم المتحدة بتحرير البشرية من جريمة الإبادة الجماعية، التي وصفتها في ذلك التاريخ بأنها آفةٌ بغيضة؟ وأين هو إقرارُ الأمم المتحدة بضرورة التعاون الدولي لتحرير البشرية من تلك الآفة البغيضة على حَــدِّ وصفها؟
وتقرّر المادة (8) من اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقَبِ عليها، للدول الأطراف في الاتّفاقية طلبَ اتِّخاذ إجراءات المنع والقمع لأفعال الإبادة، وذلك بنصها على أن (لأيٍّ من الأطراف المتعاقدة أن يطلبَ إلى أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذ -طبقاً لميثاق الأمم المتحدة- ما تراه مناسبًا من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية أَو أيٍّ من الأفعال الأُخرى المذكورة في المادة الثالثة)، ورغم أن دولةَ جنوب إفريقيا قد دقَّت ناقوسَ الخطر أمام محكمة العدل الدولية، غير أن هذه المحكمةَ لم تتخذ أيَّ إجراء جِدي يُذكر، ليس لأَنَّ أعضاءَ هذه المحكمة غيرُ أكفاء أَو غير جديرين بتقييم ما يجري على أرض الواقع، بل لأَنَّ جميعَ أعضاء المحكمة تعرَّضوا لتهديد مباشر معلَن من مستويات متعددة في الدول المشتركة في الجريمة وعلى رأسها، رأس الشر والإجرام الإدارة الأمريكية.
وإذا ما بات واضحًا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصبحت عاجزة عن اتِّخاذ أي إجراء لوقف أفعال الإبادة الجماعية، ومجلس الأمن كذلك غدا معطَّلًا، ومحكمة العدل الدولية يتعرض أعضاؤها للتهديد والوعيد من جانب قوى الإجرام، فَــإنَّ الواجبات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، واتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنتقل إلى الدول فرادى وجماعاتٍ، والقول بغير ذلك يعني سقوطَ القِيَمِ الإنسانية والأخلاقية الفطرية عن الأمم والشعوب جميعِها، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة؛ إذ ستتحول البشرية إلى غابةٍ من الوحوش، يفترس فيها القوِيُّ الضعيفَ، ولا بقاءَ فيها إلا للأقوى.
ولذلك تأتي إجراءاتُ بلادنا ومحور المقاومة المناصِرةُ لمظلومية الشعب الفلسطيني في مواجهة قوى الإجرام، دفاعًا عما تبقى من جوانبَ إنسانية فِطرية لدى الأمم والشعوب؛ باعتبَار أن الأصلَ بقاءُ هذه الجوانب كامنةً في النفس البشرية، وإن طغت عليها -في وقت من الأوقات- النوازعُ الوحشية الإجرامية وأصبح لهذه النوازع السيادةُ والهيمنةُ إلا أنها طارئةٌ، وإن كان لمن يدفعون بها ويدافعون عنها العلوُّ والكثرةُ عدداً وعُدةً؛ فمصيرُها الزوال، ولن تبقى للقوى الظالمة المستبِدة من باقية، وهذه سُنَّةُ الله تعالى في خلقه، حَيثُ قال جل وعلا: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ وليس هناك من ظلم أشدَّ مما تعرض ويتعرضُ له أبناءُ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من إبادة جماعية لم تستثنِ طفلًا صغيرًا ولا شيخًا مسنًّا؛ فالجميعُ تُمَزَّقُ أجسادُهم أشلاءً.
وما تقومُ به القوى الإجراميةُ يتنافى مع تكريمِ الله “سُبحانَه وتعالى” لبني الإنسان، حَيثُ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ والبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ وعظَّم اللهُ “سبحانَه وتعالى” من شأن النفس البشرية، واعتبر المساسَ بها بدون حق جريمةً تَمُسُّ الناسَ جميعاً فقال تعالى: ﴿مِنْ أجل ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَاْئِيْلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
وخُلاصةُ القول إن موقفَ محور المقاومة المتجسد في الدفاع عن مظلومية الشعب الفلسطيني، في مواجهة مجرمي العصر، القوى الصهيوغربية المتوحشة، يجدُ أَسَاسَه القانوني في مصادرِ القانون الدولي المتعددة وعلى رأسها ميثاقُ الأمم المتحدة، ويجدُ أَسَاسَه قبل ذلك، وفوقَ ذلك في الفطرة الإنسانية السليمة، التي فطر اللهُ الناسَ عليها، والتي تأبَى الظلمَ والوحشيةَ والإجرامَ.