من غزة تفاصيل تهز الوجدان.. كيف كانت الليلة التي فقدت فيها عائلتك؟
المسيرة | متابعات
لم تكن أيٌّ من ليالي الإبادة التي يعيشها مليونا فلسطيني في قطاع غزة حدثاً عابرة، فتفاصيلها المروعة ستترك ندباتها على ذاكرة الضحايا الناجين ممن فقدوا أحباءهم في لحظة فارقة قلب حياتهم رأساً على عقب، ليجدوا أنفسهم وسط دوامة “عقدة الناجي الوحيد” وسؤال النفس المشبع بالألم، لماذا لم أكن معهم؟
في غزة.. هناك من القصص التي في تفاصيلها ما يهز الوجدان والضمير الإنساني، تفاصيل وثقها العشرات من المواطنين الفلسطينيين، شاهدتهم في ردهم على سؤال طرحته الصحيفة الفلسطينية “وعد أبو زاهر”، على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، “كيف كانت تلك الليلة التي فقدت فيها عائلتك، أين كنت؟”
تقول “أسماء” التي تقيم في الأردن: “كانت ليلة غريبة انقطع فيها الاتصال للمرة الثالثة. وبدون شعور كان لساني يردّد، اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه. بقيت أردّدها بجنون حتى نمت وأنا مرعوبة، ولكن لدي شعور بسكينة داخلية لا أعرف سببها”.
استيقظت “أسماء” على اتصال غير معتاد من ابن عمها في الضفة، قالت: “طلبت منه التحدث بسرعة إن كان هناك شيء فطلب مني الهدوء. كرّرت طلبي مراراً أن يحكي. أخبرني أنهم قصفوا بيت أخي، سألته: مين استشهد؟ ظل ساكت. سألته طيب: مين عايش؟ ظل ساكت.. كلهم استشهدوا؟”.
وتمضي بالقول: “أخذ ابن عمي بالبكاء، وأنا كان ردي الحمد لله؛ لأَنَّه ماما هيك كانت بدها يا يعيشوا كلهم يا يموتوا كلهم.. واستشهدوا كلهم سوى، ماما بابا إخواني الاثنين، ونسوانهم وبناتهم وخواتي وزوج أختي وابنها”، كلهم استشهدوا”.
كتبت “منار مروان” تعيش في غزة: “كنا تحت الأنقاض ولفظ زوجي أنفاسه الأخيرة بجانبي واستشُهد وأنا ما زلت أنادي عليه وأمد يدي له كي يسمعني. لم تكن ليلة بل كانت كابوس سيلاحقني إلى أن ألتقي به”.
ووثقت “أسماء نعيم” ما حدث في تلك الليلة، “كنا ١٩ شخصاً في البيت، أنا وأخواتي وأبناءنا ١٢ شخصاً في غرفة صغيرة، كلنا نيام إحدانا بجانب الأُخرى، سماح وطفلتها لارا. شيماء وابنها تيسير، بجانبها بتول، ومقابلها باقي أخواتي، وبقرب الحائط أنا وبناتي ليا وريما في حضني”.
وتخبر أن ليلة الفقد تلك كان قد مر على حرب الإبادة أكثر من ست شهور، “أرى ليلة القصف كُـلّ ليلة، أراها في عينَيَّ كلما أغلقتهما، أرى الظلام الحالك، وركام البيت وأكوام الحجارة. أرى اشتعال النار رغم امتلاء عيناي بالتراب والغبار. أرى ابنتَيَّ، ليا وريما، ممددتين أمامي وأنا عاجزة، لا أتحَرّك ولا أستطيع الوصول إليهن”.
وتزيد بالقول: “أدركت أننا الهدف، أسمع دقات قلبي، يكاد ينفجر، أصرخ بلا وعي، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. صرخت وفمي مليء بالتراب، صرخت حتى انهارت قواي، لم أعلم ما أفعل غير أن أكرّرها، علها تكون آخر كلماتي، وتعود طائرة فتلحقني بمن سبقنا عاجلاً”.
أدركت أسماء لحظتها أنها في أصعب اختبار لم يمنعها من الشعور بالذنب، تقول: “بدأت وسط هذه النيران والركام أحدث نفسي بأني ما زلت في الدنيا الدنيّة، لماذا؟ لماذا أنا على قيد الحياة؟ لماذا لم تختارني؟ لماذا رأيت الموت ولم يكتب لي الشهادة معهم؟ هل أنا لوحدي؟ أين هم؟ أين البقية؟ كيف سأخبر أمي؟!.. ثم يأتيك خبرهم واحداً تلو الآخر، تكاد تسمع تكسر جدار قلبك مع ذكرهم كُـلّ اسم فكانت القاصمة، لم تنجُ ابنتي ليا.. لم نجد شيماء، وعرفنا تيسير من بنطاله الأزرق”.
أما “آلا محمود” فكتب: “كنت أرضع صغيرتي التي لم تتجاوز ٥ أَيَّـام، تحدثت معه عبر الهاتف وكان آخر ما قاله لي: لا تخافي، دير بالك على سارة. بعد ساعات خرج إلى بيت عمه، ومن عادتي قبل أن تغفو عيني أقرأ الأخبار”.
وتابعت، “قرأت قصف البيت وكذبت عيني ثم صرخت خوفا، لم أنم ليلتها، شعرت بحرارة عالية، وشعرت بنخزة في قلبي، لم يستطيعوا إخراجه من تحت الانقاض، ناجيت الله ليلَ نهارَ أن يخرج حياً لكن قدر الله نافذ، استطاعوا إخراجه ودفنه بعد ثلاث أَيَّـام من استشهاده”.
وتمضي بالقول: “من يومها أصبحت أتفاجأ بدموع من عيوني؛ بسَببِ وبدون سبب، لازلت أشعر أنه على قيد الحياة وأتعامل مع ذلك، حتى أنني عندما اذكر اسمه يصعب على قول رحمه الله، ادعو له ما كنت أحب أن ادعوه له بالدنيا الله يرضى عنك!.
ويروى “ثائر أبو وردة” شاهدته على تلك الليلة التي فقد فيها والديه وجرح فيها شقيقه عائد: “كانت ليلة قاسية ظللت معهم عبر مجموعة “الواتساب” حتى الفجر، تلقينا من أبي دعاء ووصية لنا بأن نكون رحماء على بعضنا كرجال، وأخواتنا على وجه الخصوص”.
ويضيف: “جميعنا استغرب من هذه الرسالة. كان أخي يرسل لي عن شدة القصف وعن ثباتهم ويطلب مني النوم وعدم القلق عليهم. غفت عيني ساعتين حتى جاء الخبر الذي زلزل روحي وغيَّر حياتي كالصاعقة الساعة السابعة والنصف”.
ويتابع، “جرح عائد بما يقدر بخمسين غرزة وأكثر من رأسه حتى قدميه. وقد ظل نصف ساعة ينزف بعد استشهادهم لا يعلم شيء غير أنه أزاح نفسه فوقهم عسى أن يأتي صاروخ آخر ويستشهد معهم، لكنه لم يأتِ فقرّرت الزحف حتى استطاع الاتصال بأحد”.
أما عما هز كيان ثائر فكان ما حدثه به شقيقه الذي له من اسمه نصيب، فيمضي بالقول: إن “عائد مكث في مشفى الشفاء بين الحياة والموت، فبينما طلب منه التمريض التحمل بعدما آووني إلى عمود لعدم وجود أسرة كافية، “وهناك غبت عن الوعي وبدأت رحلة عجيبة”.
يحدث عائد شقيقه: “فتحت لي طاقة من نور وهاتف يحدثني لا أراه يقول لي: يا عائد أمرنا أن نفصلَ روحك عن جسدك الآن ونأخذك إلى الملأ الأعلى في عليين على البراق”.
ويضيف، “استوقفت أخي وسألته إن كان قد رأى البراق حقاً، فقال نعم، مخلوق ما بين الحصان والحمار وزدت عليه والهاتف، فقال لي: لا”.
ويكمل عائد لشقيقه ما حدث معه: “بدأنا نمشي في ممرات نورانية حتى وصلنا إلى مكان لا يمكن وصفه. ووجدت معي أناساً كثيرين يطلعون معي أغلبهم أطفال ويكبرون تكبيرات العيد، صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده”.
يتابع عائد: “بدأ الهاتف يحدثني ويقول لي يا عائد أترى ما هناك، هذه السرر المرفوعة، وتلك الأكواب الموضوعة، وهناك غرفة والدك ووالدتك وغرفتك إن صبرت وغرفة فلان وغرفة فلان لكنه لن ينالها حتى يسدد الدين الذي عليه”.
ويؤكّـد عائد لشقيقه: “أنا وشخص آخر فقط نعرف أن عليه دين فقلت للهاتف أنا سأبقى هنا وسأرد دينه فرد عليّ لا عائد أنت ستعود للدنيا، أتينا بك هنا لنطمئنك. لك عمر ويجب أن تقضيه”.
ويقول عائد: “عندما أنزلوني وأرجعوا روحي لي شعرت وكأن جسدي ضرب في جدار بسرعة ٥٠٠ ألف كيلو، شيء قاسي وصعب رجوع الروح وفتحت عيني وإذ بالناس تصورني”.
ومنذ 7 أُكتوبر 2023م، يشن الاحتلال حرب إبادة على قطاع غزة، أسفرت عن أكثر من 140 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وإلى نزوح نحو 1.9 مليون شخص، وما يزيد عن 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل في البنية التحتية الصحية والتعليمية ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال، بحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة.