فرضية تورُّط الإدارة الأمريكية في جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية
د/ عبد الرحمن المختار
الإدارة الأمريكية متورطة علناً في أبشع جريمة اغتيال جماعية في تاريخ البشرية، إنها جريمة إبادة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أطفالاً وشيوخاً ونساء، وليس هناك في عالم اليوم من يمكنه أن يتجاهل أَو ينكر تورط الإدارة الأمريكية في هذه الجريمة؛ فهذه الإدارة هي من حرّض الكيان الصهيوني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وقد تجسد ذلك التحريض في إعلان رئيس الإدارة الأمريكية، أثناء زيارته لدولة الكيان الصهيوني عقب عملية 7 أُكتوبر، بشكل صريح وواضح أن إدارته تقف إلى جانب دولة الكيان، وجاء ضمن ذلك التحريض ما أسماه رئيس الإدارة الأمريكية بحق الدفاع عن النفس، وبشكل مطلق دون حدود أَو قيود، وتكرّر تحريض الإدارة الأمريكية للكيان الصهيوني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ما ورد على لسان وزير خارجيتها بليكن أثناء زيارته لدولة الكيان المجرم، حين أكّـد أن زيارته تأتي بصفته يهودياً صهيونياً قبل أن يكون وزيراً لخارجية الإدارة الأمريكية.
وكلّ ما أعلنه رئيس الإدارة الأمريكية ووزير خارجيتها يندرج قانوناً في إطار التحريض على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، المُستمرّة والمتتابعة الأفعال منذ عشرة أسهر، والتحريض بحد ذاته يعد اشتراكاً في الجريمة وفقاً لأحكام (اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها)، لكن الإدارة الأمريكية لم تكتف بالاشتراك في الجريمة بمُجَـرّد التحريض فحسب، بل إنها فوق ذلك وفرت للكيان الصهيوني أدَاة الجريمة ووسائلها، التي لولاها لما تمكّن المجرم من اقتراف جريمته، فقد قدمت الإدارة الأمريكية وبشكل علني للكيان المجرم أحدث المعدات العسكرية، وآلاف الأطنان من أفتك القنابل والصواريخ وأشدها تدميراً، والتي تمثل أحدث ما أنتجته مصانع الآلة الحربية الأمريكية، وقد استخدمها كيان الإجرام الصهيوني في تدمير غزة بشكل شامل، وتسوية بنيتها وبنيانها بسطح الأرض، بل بأعمق من سطحها، وقتل أبنائها جماعياً، ومزقهم إلى أشلاء، أطفالاً ونساء وشيوخاً.
وليس في هذا العالم من يستطيع أن ينكر أَو ينفي دور الإدارة الأمريكية في جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ذلك الدور الذي فاق دور الكيان الصهيوني المباشر لأفعال الجريمة، فأدَاة اقترافها ووسائلها قدمتها الإدارة الأمريكية، التي لولاها لما تمكّن المجرم من اقتراف جريمته، والاستمرار في اقتراف أفعالها على مدى عشرة أشهر، وشحنات الموت تتدفق بشكل متواصل من جانب الإدارة الأمريكية، وفوق ذلك ما وفرته الإدارة الإجرامية من غطاء سياسي للجريمة في مجلس الأمن الدولي وغيره من المحافل الدولية، حين حالت دون صدور أي قرار يوقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية.
ولم يقف دور الإدارة الأمريكية عند ذلك الحد، بل إنها رفدت خزينة دولة الكيان الصهيوني بعشرات المليارات من الدولارات، وليس ذلك فحسب، بل تواجدت بقواتها العسكرية البحرية والجوية لفرض حالة ردع ضد كُـلّ من يحاول منع الكيان الصهيوني من الاستمرار في اقتراف جريمة الإبادة الجماعية، وما تبعها من احتفاء الكونجرس الأمريكي بالمجرم نتن ياهو، ذلك الاحتفاء الذي جسد الانهيار القيمي الأخلاقي والإنساني للإدارة الأمريكية، ولمجلسها التشريعي الذي طالما سن التشريعات المعاقبة لعدد من الأنظمة حول العالم بذريعة انتهاكها لحقوق الإنسان.
ووفقاً لما سبق فَــإنَّه ليس هناك من معطيات يمكن الاعتماد عليها في استبعاد الإدارة الأمريكية من فرضية الاشتراك في جريمة اغتيال الشهيد المجاهد إسماعيل هنية في طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليس لدى الإدارة الأمريكية من حَــدّ أدنى من القيم الإنسانية والأخلاقية، يمكن أن تحول دون تورط هذه الإدارة المجرمة في جريمة الاغتيال، ولو كان لديها حَــدّ أدنى من القيم الإنسانية والأخلاقية، لاتضح ذلك جليًّا في موقفها من جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
فقد كشفت غزة زيف وتضليل الإدارة الأمريكية لعقود من الزمن، حول تبنيها حماية ورعاية حقوق الإنسان حول العالم، والدفاع عنها ضد الانتهاك من جانب الأنظمة الحاكمة، خُصُوصاً في منطقة الشرق الأوسط، ولقد أكّـدت جريمة غزة وبما لا يدع مجالاً للشك، خُصُوصاً تلك المناظر البشعة لأطفالها الذين مزقت أجسادهم البريئة الطاهرة القنابل الأمريكية، أن هذه الإدارة موغلة في الإجرام، وأن ما روجت له زيفاً وتضليلاً عن حماية ورعاية حقوق الإنسان وتحديداً حقوق الأطفال، لم يكن سوى ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وشخصيًّا أميل إلى تأكيد فرضية تورط الإدارة الأمريكية في جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية لأسباب متعددة منها، ما يتوافر للإدارة الأمريكية من إمْكَانيات مادية ولوجستية في المنطقة المحيطة بالنطاق الجغرافي للجريمة، والفضاء الذي يعلوها، وهذه الإمْكَانيات الهائلة لا تتوافر لدولة الكيان الصهيوني في نطاقها الجغرافي المغتصب، أَو في غيره، ومثلما وفرت الإدارة الأمريكية للكيان الصهيوني كافة وسائل وأدوات جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، دون مراعاة لأية قيم أخلاقية أَو جوانب إنسانية، رغم معرفة تلك الإدارة المجرمة، أن كُـلّ ما قدمته من أسلحة فتاكة، وغطاء سياسي، ودعم مالي، وحماية عسكرية على أرض الواقع، كُـلّ ذلك لم يكن موجهاً ضد دولة تملك جيشاً نظامياً قوياً يمثل تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني، بل في مواجهة أطفال ونساء وشيوخ، أما المقاومة الفلسطينية المسلحة المشروعة؛ فهي باعتراف الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني لا تتواجد بشكل ظاهر على سطح الأرض، بل تتخذ من باطنها منطلقاً مشروعاً لمقاومة الاحتلال.
وما تم تدميره هو بنيان غزة وبنيتها، ومن تم قتلهم هم أطفالها ونساؤها وشيوخها، أما المقاتلون فلا يزالون إلى اليوم ينكلون بجيش كيان الإجرام الصهيوني، ورغم كُـلّ ذلك الوضوح والانكشاف، لدور الإدارة الأمريكية الإجرامية المباشر في جريمة الإبادة الجماعية على مدى عشرة أشهر، فَــإنَّها لا تزال مُستمرّة إلى اليوم في شراكتها في الجريمة، وأكّـد هذه الشراكة موقف الكونجرس الأمريكي، الذي احتفى بشكل غير مسبوق بالمجرم نتن ياهو.
وإذا كان الأمر كذلك، والواقع والوقائع يؤكّـدان كُـلّ ذلك، فما هو المبرّر الأخلاقي والإنساني الذي يجعلنا نستبعد فرضية تورط الإدارة الأمريكية من جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، ويعد من الأسباب التي ترجح تورط الإدارة الأمريكية في جريمة الاغتيال في عاصمة الجمهورية الإسلامية، وتحديداً في هذا التوقيت بالذات، هو ذلك الانتقال السلس والهادئ لمنصب رئيس الجمهورية، عقب الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي مثلت نموذجاً راقياً فاق بكل المعايير زيف الديمقراطية الغربية، وتحديداً الأمريكية، التي لا تزال عالقة بأذهان الرأي العام تلك المناظر للفوضى العارمة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية قبل قرابة الأربع سنوات، والتي تم فيها الإعلان عن فوز بايدن بمنصب الرئاسة الأمريكية، وما ترتب على ذلك الإعلان من فوضى وشغب واقتحام وتخريب لمحتويات مبنى الكونجرس الأمريكي، كُـلّ ذلك فضح زيف وتوحش الديمقراطية الأمريكية.
ووفقاً لذلك فالإدارة الأمريكية تعد أكثر استفادة من غيرها من جريمة الاغتيال، فهي تهدف إلى محق ما اتسمت به الانتخابات الرئاسية الإيرانية من رقي، وما ترتب عليها من سمعة دولية إيجابية لديمقراطية النظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية، مقارنةً بتلك السمعة السلبية للإدارة الأمريكية وديمقراطيتها الزائفة، ولو أن جريمة الاغتيال كانت مقصودة بحد ذاتها لأمكن للكيان الصهيوني بالشراكة مع الإدارة الأمريكية تنفيذها في أي مكان آخر تواجد فيه الشهيد إسماعيل هنية، إما موقتاً أَو بشكل دائم؛ باعتبَار أن أجهزة الاستخبارات الصهيونية والأمريكية تصول وتجول بحرية تامة دون أية موانع أَو عوائق، وكان يمكن أن تتم عملية الاغتيال بسهولة أكبر، ودون أن تثير ردود أفعال تذكر، لكن اختيار أراضي الجمهورية الإسلامية لتنفيذ جريمة الاغتيال يخدم أهداف الإدارة الأمريكية من حَيثُ المكان أكثر مما يخدمها تنفيذ الجريمة في مكان آخر.
وبالنسبة لتوقيت الجريمة، فالزمن أَيْـضاً يخدم أهداف الإدارة الأمريكية، ولو كان تنفيذ جريمة الاغتيال مقصوداً بحد ذاته في الأراضي الإيرانية، لتم تنفيذ هذه الجريمة في أي وقت سابق تواجد فيه الشهيد إسماعيل هنية في الأراضي الإيرانية، وهو كَثيراً ما تواجد فيها وفي مناسبات متعددة أبرزها تقديم العزاء في استشهاد الرئيس إبراهيم رئيسي ورفاقه، لكن الإدارة الأمريكية كانت تدرك تماماً أن تنفيذ جرمية الاغتيال في توقيت سابق ما كان ليؤدي ذات الأثر على الجمهورية الإسلامية، التي احتفت بحضور دولي كبير بتنصيب رئيسها الجديد، كنتيجة لانتخابات شعبيّة حرة ونزيهة، أكّـدت مدى القبول والتسليم بالإرادَة الشعبيّة، الذي ليس له نظير في الديمقراطية الرأسمالية الغربية الأمريكية المتوحشة، وهو ما يؤكّـد أن جريمة الاغتيال مرتبطة مكانياً وزمانياً بحنق الإدارة الأمريكية وغيظها من النجاح الكبير للانتخابات الرئاسية في إيران، ومن حالة الاستقرار والسلم الاجتماعي في الجمهورية الإسلامية، التي نهضت بقوة وعنفوان في جميع المجالات، وعلى رأسها المجال السياسي، الذي بدأ يتقهقر أمريكيًّا وغربيًّا؛ بسَببِ ما يشوبه من نفاق وزيف وتضليل.
ولقد كانت الإدارة الأمريكية تعول بشكل كبير على حدوث تصدعات داخلية كبيرة عقب حادث استشهاد الرئيس إبراهيم رئيسي ورفاقه، وكانت الإدارة الأمريكية تتوقع انهيار النظام الحاكم، أَو على الأقل حدوث اختلالات كبيرة تخرج البلاد عن سيطرته، لكن النتيجة التي جاءت بها الانتخابات الرئاسية كانت صادمة للإدارة الأمريكية، وهو ما دفعها للعمل على تنغيص تلك اللحظة التاريخية للجمهورية الإسلامية، والواضح أن الإدارة الأمريكية وهي مقبلة على انتخابات رئاسية تخشى أن تحمل هذه الانتخابات معها عنفاً واضطرابات وفوضى، كما حدث في الانتخابات السابقة، لتصبح ديمقراطيتها الزائفة وانتخاباتها المفبركة أضحوكة العالم، عند مقارنتها بالانتخابات الرئاسية الإيرانية.
وأعتقد وفقاً لما سبق أن دور الكيان الصهيوني في جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، لا يتعدى الإعلان عن تبني الجريمة، أما التخطيط والتنفيذ بكل متطلباته ومستلزماته، فينعقد الاختصاص به للإدارة الأمريكية، التي تملك إلى جانب الإمْكَانيات المادية والاستخبارية، خبرة كبيرة في تنفيذ جرائم اغتيال مشابهة في بلدان متعددة، ومسألة أُخرى مهمة تؤكّـد ما سبق، وهي لو أن دولة الكيان الصهيوني هي بمفردها من خطط ونفذ، دون أي فعل مشارك من الإدارة الأمريكية، لنأت هذه الإدارة بنفسها عن التبعات القانونية والأخلاقية المترتبة على هذه الجريمة؛ باعتبَار الإدارة الأمريكية عضواً دائماً في مجلس الأمن، الذي تعد من أهم مهامه الحفاظ على السلم والأمن الدولي، والأصل أن تترك الإدارة الأمريكية الكيان الصهيوني يتحمل كافة الآثار المترتبة على جريمة الاغتيال، سواءٌ أكانت انتقامية أَو قانونية، والأمر المنطقي أن تدين الإدارة الأمريكية الكيان الصهيوني لارتكابه هذه الجريمة، لا أن تطلب من الدولة التي انتُهكت سيادتها وارتُكبت الجريمة على أراضيها عدم التصعيد، وفي ذات الوقت تعلن التزامها بالدفاع عن الكيان الصهيوني في حال تعرضه لأية ردود فعل انتقامية!
ولا ينفي ما سبق احتمال تورط عدد من أجهزة الاستخبارات العربية والغربية، للدول التي لها تمثيل دبلوماسي لدى الجمهورية الإسلامية، في توفير بعض المعلومات الضرورية من الأرض خدمة لمخطّط الإدارة الأمريكية، خُصُوصاً أن أغلب الدول الغربية والعربية، التي لها تمثيل لدى الجمهورية الإسلامية ضمن التحالف الإجرامي الأمريكي في جريمة الإبادة بقطاع غزة، كما أن الأجهزة الاستخبارية للدول العربية تمثل جزءاً من أجهزة الاستخبارات الأمريكية وتعمل لحسابها، وهذا الأُسلُـوب القذر القائم على تجنيد الآخرين لخدمة أهدافها، يمثل أحد أهم أساليب الإدارة الأمريكية، ويحمل بصماتها الإجرامية القذرة.