مَن هم أصحابُ المواقف الدينية السليمة؟
د. يوسف الحاضري
تكثر عبر التاريخ الاختلافات المنهجية بين الناس في مجال حق واحد، فتنشأ المذاهب والتيارات المتعددة والتي ينسب كُـلّ جانب الحق له وأنه صاحب المسار السليم وما دونهم أصحاب باطل، غير أن الله الحكيم الخبير يبين ذلك بالمواقف العظيمة القوية المزلزلة حتى يتبين الناس الآخرون من هم أصحاب الحق السليم من أصحاب الباطل، وهذا ما بينه الله لنا في القرآن الكريم والتي جعل المعارك (الجهاد في سبيله) أهم هذه الطرق لذلك، وليست تلك الممارسات العبادية الشكلية السهلة جانباً منها إطلاقاً كالزكاة والصلاة والحج والصيام، والتي هي عبادات ذاتية لتزكية نفوس العباد وليست للغربلة فالجميع مشتركون فيها، وسنسرد قصتين قرآنيتين لتوضيح ذلك كالتالي:-
– طالوت -عليه السلام- عندما تحَرّك بقوة بسيطة لمواجهة جالوت صاحب القوة الجبارة فحصل خلال التحَرّك غربلة تاريخية في جيشه من خلال (النهر) فقال لهم: {فَلَـمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَـمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قليلًا مِنْهُمْ} فافتضح أصحاب الشعارات الكاذبة المخادعة رغم أنهم في البدء أظهروا لنبيهم أنهم يرغبون في القتال {أَلَـمْ تَرَ إلى الْـمَلَإِ مِنْ بَنِي إسرائيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى، إذ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ} فعجزوا عن الصبر أمام الماء فكيف سيصبرون أمام جيش جالوت بعدته وعتاده، غير أن المؤمنين حقاً كانوا سبب النصر والثبات والصبر {قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فظهر أصحاب الحق السليم من أصحاب الزيف والكذب والزيغ رغم أنهم جميعاً كانوا قبل المعركة متشابهين في الممارسات العبادية الأُخرى.
– النموذج الثاني معركة الأحزاب في عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حَيثُ كان أهل المدينة قبل الحرب متساوين في العبادات الشكلية فاقتضت حكمة الله عز وجل، أن يحدث حدثان هامَّان أولهما (يزلزل المؤمنين خوفاً من قوة العدو)، حَيثُ وصف الله الحالة النفسية للمعركة بقوله: {إذ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} ليتغربل أهل الحق المؤمنون من المنافقين وأهل الزيغ، وبالفعل حصلت الغربلة كما وصفهم الله في سورة الأحزاب وكيف كان موقفهم المخزي والعار، الذي وصل في مرحلة من مراحله أنهم شكوا في مصداقية الله عز وجل ورسوله {وَإِذْ يَقُولُ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، أما الموقف الثاني فهو لما انبرى عمرو بن ود صنديد قريش وأشدهم قوة ليقاتل المسلمين فتراجع الكثير منهم رغم وعد النبي لهم بالجنة لمن يخرج ليقاتله ولم ينبر له إلَّا من تعمق وتغلغل في الحق والثقة بالله ورسوله وتمثل في الإمام علي عليه السلام، فلو كان الأمر (من يصلي ١٠٠ ركعة) فسنرى الكثير يتسابقون لهذا الأمر غير أن هذا ليس مجالاً للغربلة أبداً؛ لأَنَّه لا خشية على الروح ولن يعرض صاحبه للقتل كحال (من يقاتل عمرو بن ود وله الجنة).
اليوم، جاءت عملية (طُـوفَان الأقصى) وما أدراك ما (طُـوفَان الأقصى) والذي مر عليه عام كامل، والتي كانت المواجهة بين الحق ممثلاً بمجاهدي فلسطين وبين الباطل وأكابر الشر في الأرض ممثلاً بالكيان الصهيوني ومن خلفه من الأمريكان والأُورُوبيين، وهنا نرى اختلاف موازين القوة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولا وجه للمقارنة، وهنا تظهر حكمة الله عز وجل، في هذه المعركة ليبين للناس جميعاً خَاصَّة أُولئك الذين شغلونا بعبارة (لم نعد نعرف أين الحق؟ كلكم تقولون نحن الحق نحن الحق) فتم غربلة الجميع على جميع المستويات الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها، حَيثُ رأينا أصحاب الباطل كيف تحزبوا مع الكيان الصهيوني وأمريكا وعلى رأس هؤلاء (أنظمة معظم الدول العربية على رأسها السعوديّة والإماراتية والأردنية والمصرية وَأَيْـضاً الفكر الوهَّـابي ومن يدور في فلكه وإعلاميو هذه الجهات ومفكريهم وغيرهم) والذين كسروا رؤوسنا في أنهم أصحاب الحق وحملة وحفظة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الطرف الآخر تحزب مع الحق وناصر الحق وتحَرّك مع أهل غزة ومجاهديها كُـلّ من كان يشن عليهم الهجوم من هؤلاء المنافقين بأنهم مجوس وروافض وأهل بدع وباطل كحال (أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان والمقاومة العراقية والجمهورية الإسلامية الإيرانية)؛ لأَنَّه بالفعل لا يمكن أن يتصدى لأهل الباطل بقوتهم وعتادهم واقتصادهم إلَّا من يمتلك إيماناً ومنهجية دينية حقيقية منبثقة من الله عز وجل، أما أصحاب التدين الشكلي القشري فهؤلاء أوهنُ من بيت العنكبوت حتى لو امتلكوا ثروات عظيمة وجيوشًا جرارة، في أوضح وأوسع غربلة تاريخية؛ لأَنَّ من غربلهم الله في جيش طالوت وغزوة الأحزاب لم يكونوا يمتلكون ما يمتلكه منافقو عصرنا اليوم.
فبأي حديث وأحداث بعد كُـلّ هذا سيؤمن الجهلة والتائهون وظالموا أنفسهم!