ارتباطُ زوال الكيان الصهيوني بإنهاء الوجود العسكري الغربي
د/ عبد الرحمن المختار
التواجُدُ العسكريُّ الاستعماريُّ الغربيُّ في معظم النطاق الجغرافي لشعوبِ الأُمَّــة العربية أمرٌ واقعٌ، وهذا التواجُدُ -وإن كانَ تحتَ عناوينَ زائفةٍ ومخادعةٍ- يمثِّلُ في حقيقة الأمر احتلالًا عسكريًّا مباشرًا، ومن ثَــمَّ فَــإنَّ عددًا من البلدان العربية تعد في الوقت الراهن محتلّة واقعًا من جانب القوى الغربية، وفقًا للأُسلُـوب الاستعماري الحديث، الذي اتّبعته هذه القوى عقب تأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945م، ويعد التواجد العسكري للقوى الاستعمارية الغربية في أجزاء من العراق وسوريا واليمن احتلالًا مباشرًا، وفقًا للأُسلُـوب التقليدي، الذي عادت إليه القوى الاستعمارية عندَ ما لم يفلح أُسلُـوبُها الاستعماري الجديد في إخضاع هذه الدول، التي تخوض شعوبها مواجهاتٍ عنيفة للتخلص من الاحتلال العسكري الغربي لجزء من أراضيها.
ويعد الاحتلال العسكري للجغرافيا العربية من جانب القوى الاستعمارية الغربية -سواء وفقًا لأُسلُـوبها التقليدي أَو الحديث- امتدادًا للاحتلال الصهيوغربي للأراضي الفلسطينية، وجزء من الأراضي اللبنانية والسورية، ولا يمكن الفصلُ بحال من الأحوال بين الأُسلُـوب التقليدي في احتلال أجزاء من أراضي جمهورية العراق والجمهورية العربية السورية والجمهورية اليمنية، والأُسلُـوب الحديث في احتلال أجزاء مهمة من الجغرافيا العربية، كما هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعوديّة ومملكة البحرين والمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الكويت ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، ولا يمكنُ كذلك الفصلُ بين هذا الأُسلُـوب من الاحتلال، والاحتلال المباشر للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية؛ فهذا الاحتلال واحد وغير قابل للتجزئة بغض النظر عن الأُسلُـوب، تقليديًّا أكان أَو حديثًا.
وقد أوضحنا بشكل مفصل في مقالاتٍ سابقة أن ما يسمى بدولة “إسرائيل” ليست سوى كيان وظيفي لخدمة أهداف القوى الاستعمارية، وقاعدة متقدمة لحماية مصالحها غير المشروعة في المنطقة، ولا بد أن نتذكَّر ما قاله بايدن قبلَ (38) سنه تحديدًا سنة 1986م: (لو لم تكن هناك “إسرائيل” لكان على أمريكا خلق “إسرائيل” لحماية مصالحها) وتكراره هذه المقولةَ في 18 أُكتوبر سنة 2023م في خطابه من عاصمة كيان الاحتلال الوظيفي الصهيوني قائلًا: (إن “إسرائيل” يجب أن تعود مكاناً آمناً لليهود، وإنه لو لم تكن هناك “إسرائيل” لعملنا على إقامتها) ومَن يتابِعْ أفعال الإبادة الجماعية والدمار الشامل ويقرأِ المشهد بعمق سيدركْ يقينًا أن كُـلّ ذلك تجسيدٌ لتوجّـهات الإدارة الأمريكية!
ولا يخرج دور الكيانات الوظيفية العربية عن دور الكيان الصهيوني الوظيفي إلا من حَيثُ الاعتماد على الأُسلُـوب الاستعماري الحديث أَو التقليدي، أما المهام الوظيفية فهي واحدة موحدة، فعقب إقلاعها عن الأُسلُـوب الاستعماري القديم، اختارت القوى الاستعمارية الغربية أُسلُـوبًا حديثًا لا يعتمد على السيطرة العسكرية المباشرة، وإخضاع الشعوب المحتلّة بالقوة المسلحة، بل يعتمد التواجد العسكري في البلدان التي يحتلها تحت عناوينَ متعددة تقوم على أَسَاس توقيع اتّفاقيات تعاون عسكري وأمني مع الكيانات الوظيفية القائمة على سُدَّة الحكم في عدد من الدول العربية، ومعلومٌ أن مجالات التعاون التي تمثل الذريعة للتواجد العسكري للقوى الاستعمارية الغربية واسعة ومتعددة، منها التدريب والتأهيل وتبادل الخبرات ومكافحة الإرهاب، والتحالف والشراكة وغير ذلك من العناوين الزائفة التي تغطي بها الكياناتُ الوظيفية العربيةُ الاحتلالَ الغربي لشعوب الأُمَّــة.
ومع ذلك فقد احتفظت القوى الغربية بنموذجٍ لأُسلُـوبها الاستعماري القديم القائم على السيطرة المباشرة وإخضاع الشعوب بالقوة العسكرية، ويتجسد هذا النموذج في الكيان الصهيوني الذي تسيطر به القوى الاستعمارية الغربية على مساحات كبيرة من الجغرافيا العربية في فلسطين وسوريا ولبنان، وفي ذات الوقت وسّعت هذه القوى الإجرامية من أُسلُـوبها الاستعماري الجديد القائم على تمويه احتلالها للجغرافيا العربية بعناوين متعددة، تشرعنُها اتّفاقياتٌ زائفة، تبرمها هذه القوى مع الكيانات الوظيفية التابعة لها القابعة منذ عقود على رأس السلطة في البلدان العربية، وبعض هذه الكيانات أنشأتها القوى الاستعماريةُ في ذات المرحلة التي أنشأت فيها كيانَها الوظيفي الصهيوني، وفي مراحلَ لاحقةٍ أنشأت كياناتٍ وظيفيةً عربية أُخرى، بحيث يجسد الكيان الوظيفي الصهيوني الأُسلُـوب الاستعماري التقليدي للقوى الغربية، وتُجسد الكيانات الوظيفية العربية الأُسلُـوبَ الاستعماري الحديث لهذه القوى، ورغم ذلك تشهد المرحلة الراهنة عودةَ القوى الاستعمارية لأُسلُـوبها الاستعماري القديم باحتلالها أجزاءً من أراضي العراق وسوريا.
ووفقًا لما سبق فَــإنَّه لا يعد مجديًا ولا صائبًا ولا منطقيًّا العملُ على إزالة الكيان الصهيوني من الجغرافيا العربية، دون العمل بشكل سابق أَو متزامن على أقل تقدير لإزالة الوجود العسكري للقوى الاستعمارية الغربية من الجغرافيا العربية، تحت أي عنوان أَو أي مسمى، وسيترتب حتمًا على إزالة هذا الوجود الاستعماري للقوى الغربية زوال الكيان الوظيفي الصهيوني بشكل تلقائي، وكذلك التخلص من جميع الكيانات الوظيفية العربية، وبذلك ستتحرّر شعوبُ الأُمَّــة العربية من التبعية والارتهان للقوى الاستعمارية الغربية، وسيتم استئصالُ غُدتها السرطانية المزروعة في جسد الأُمَّــة، وحتى لا يكون هذا الطرح مُجَـرّدَ أُمنيات لا بد من الإشارة إلى عدد من المعطيات الراهنة التي يمكن أن تخدُمَ مشروعَ تحرير شعوب الأُمَّــة العربية من سطوة وسيطرة القوى الاستعمارية الغربية.
إن ما جرى سابقًا ويجري في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة ما هو إلا تجسيد لقلق القوى الاستعمارية الغربية من منافسة شرسة ومحمومة من جانب الدب الروسي والتنين الصيني في كافة المجالات، وما تخشاه هذه القوى هو إفلات زِمام المنطقة العربية من قبضتها، بوصفها مجالًا حيويًّا خاصًّا بنفوذها وسيطرتها؛ ولذلك لجأت هذه القوى إلى العمل وبشكل هستيري على تثبيت وجودها وتشديد قبضتها على هذه المنطقة الحيوية الاستراتيجية؛ لتتمكّن من الانتصار في مواجهتها المرتقَبة مع خصومها.
وتعتقد القوى الاستعمارية الغربية أنها يمكن أن تكرِّسَ سيطرتَها على المنطقة العربية، من خلال مشاريع إعادة تقسيمها وتجزئتها وإثارة الصراع في ما بين شعوبها لتظل ضعيفة ممزقة غير قادرة على التصرف في أبسط شؤونها بدون موافقة مسبقة من جانب هذه القوى، وبمشاريع إعادة التقسيم والتجزئة تمنع القوى الاستعمارية الغربية أية تأثيرات من جانب خصومها على منطقة نفوذها الخالصة، وما جرى منذ أكثر من عام ولا يزال يجري من أفعال إبادة جماعية ودمار شامل في قطاع غزة والضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، ما هو إلَّا تجسيد للقلق الذي تعانيه القوى الاستعمارية الغربية، وتعمل على تنفيس جزء كبير منه في الجغرافيا العربية، من خلال ما ترتكبه من أفعال إبادة جماعية وتدمير شامل لبنية شعوب الأُمَّــة العربية.
وطالما استمر التنافس وتصاعدت مؤشرات الصراع، فَــإنَّه سينتهي لا محالة بمواجهة عسكرية من المتوقع أن يكون طرفَاها الصين وروسيا وحلفاءَهما، والقوى الاستعمارية الغربية وأدواتها في المنطقة، ومعلومٌ أن كُـلًّا من طرفَي هذا الصراع يراكم مخزونه من الأسلحة الفتاكة، وهذا المخزون لن يظل إلى ما لا نهاية حبيس جدران مخازنه، بل سيأتي اليوم الذي يستخدم فيه طرفا الصراع هذا المخزون في مواجهة بعضهما، وحينها ستدرِكُ الشعوب العربية أن كُـلّ ما جرى على أراضيها خلال العقود الماضية أَو في الوقت الراهن، لم يكن سوى تسخين وتهيئة للانفجار الكبير، وهذا اليوم قادم لا محالة، وسيترتب عليه حتمًا وبشكل تلقائي زوالُ كيان الاحتلال الصهيوغربي من كافةِ النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية.
وليس معنى ذلك أن تظل الشعوب العربية في حالة انتظار، بل الواجبُ عليها التحَرُّكُ الفوري في مواجهة الوجود الاستعماري الصهيوغربي في الجغرافيا العربية؛ للتعجيل بهذا اليوم؛ فالغرب الاستعماري يستخدم الجغرافيا العربية للتنفيس عن إخفاقاته في مواجهة خصومه، ومن هذه الجغرافيا وعلى حساب أصحابها يرسل رسائله النارية إليهم، وفيها يجري مناوراته ويستعرض قوته وعضلاته، وَإذَا ما تحَرّكت الشعوب العربية ومعها الشعوب الإسلامية وبشكل فوري وفاعل ضد مصالح القوى الاستعمارية الغربية وفي مواجهة وجودها العسكري، وَإذَا ما تم إغلاق الساحة العربية في وجه هذه القوى، فلن تبقى لها من ساحة للمناورات العسكرية أمام خصومها، وللتنفيس عن إخفاقاتها، ولن يكون أمامها من خيار إلا الإذعان لطموحات الدب والتنين، أَو الدخول معهما في مواجهة مباشرة، وفي كُـلّ الأحوال، فَــإنَّ تخليص الجغرافيا العربية من سطوة وسيطرة القوى الاستعمارية الغربية سيؤدّي وبشكل تلقائي إلى زوال الكيان الصهيوني، والتخلص من الكيانات الوظيفية الأُخرى، التي عملت خلال العقود الماضية على خدمة أهداف هذه القوى، وعلى حساب مصالح شعوب الأُمَّــة العربية.