عامٌ على (طوفان الأقصى).. الهزيمةُ الاستراتيجيةُ لـ “إسرائيل”
المسيرة – إبراهيم العنسي:
بعدَ مرورِ عامٍ على (طُـوفَان الأقصى) وفي وقت قصير بعدِ نشوة النصر الاستخباراتي لـ “إسرائيل” أمام حزب الله، سرعان ما عادت حالةُ الخوف داخل “إسرائيل”، حَيثُ يتردّد بقوة في الأوساط الإسرائيلية، أن هناك إخفاقًا كبيرًا وهزيمة استراتيجية، حَيثُ آثارُ (طُـوفَان الأقصى) العميقة التي تركها على المجتمع والدولة في “إسرائيل”، على كافة المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، تضربُ في أعماق الكيان بكل قوة.
على مدار عام لم يتغير الواقع الاستراتيجي لـ”إسرائيل”، لم تُهزم المقاومة ولم ينجح مخطّط تهجير سكان غزة، وما فعلته “إسرائيل” لم يكن إلا مزيدًا من الهروب إلى الأمام، نحو أهداف تكتيكية لن تكون قادرة على تغيير الصورة العامة للمشهد فيما يعجز هذا الكيان عن تقديم أي إنجاز ملموس للمجتمع الإسرائيلي الذي بات أكثرَ هوسًا بالحديث عن المستقبل والمصير ما بعد السابع من أُكتوبر/ تشرين الأول 2023م؛ فقد دخلت “إسرائيل” الحرب على وَقْعِ صراع داخلي عميق حول هُــوِيَّة ومستقبل الدولة في ظل هواجس الزوال وجدلية البقاء وفقدان الثقة بين الجيش والمجتمع، وتآكل الردع. في وقت ينفرد التيار الإسرائيلي المتطرف بتسيير دفة السفينة الصهيونية على نحوٍ جنوني.
تآكُلُ شرعية إسرائيل:
في عام من معركة (طُـوفَان الأقصى) باتت “إسرائيل” تعاني تراجعًا في شرعيتها الدولية وانقسامًا داخليًّا عميقًا، أظهر هذا الكيان أنه صورة استبدادية نازية للنسخة القديمة من ألمانيا وحتى أمريكا التي نشأت على جماجم عشرات ملايين الهنود الحمر. هكذا بدت “إسرائيل” اليوم للعالم وإن كانت نشوة النصر الاستخباراتي الوقتي ضد قيادة حزب الله قد دفع معارضي نتنياهو لركوب بساط تأييده خَاصَّة مع استهدافه رأس قيادة حزب الله، لكن سرعان ما عادت أزمة الداخل الإسرائيلي بعد عملية “الوعد الصادق 2” الإيرانية والاستهداف غير المسبوق لقواعد ومنشآت “إسرائيل” العسكرية والأمنية، وحيث جدارُها الأمني بات أكثر تصدعًا مع توالي ضربات المقاومة التي أفقدت معه الجمهورَ الإسرائيلي جزءًا كَبيرًا من شعوره بالأمن، وصعَّدت من حركة هجرة عكسية واسعة تشهدها مطارات “إسرائيل”.
ومع المساعي الإسرائيلية المتعثرة لاستعادة الهيبة والردع ضمن عقيدة بن غوريون الأمنية، فقد أَدَّت المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة إلى تراجع المكانة السياسية والشرعية لـ “إسرائيل”، وزيادة تكلفة دعمها على رعاتها التقليديين، كالولايات المتحدة وبعض دول أُورُوبا على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
لقد كان الرفض الإسرائيلي وقبله الأمريكي بوقف حرب غزة في ظل استمرار دعم واشنطن ودول غربية، على رأسِها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لاستمرار مجازر الكيان بغزة، هو المحرك الذي دفع الأمم المتحدة للرد بتصويت جمعيتها العامة في الـ 10 من مايو 2024، على انضمام فلسطين بصفتها دولةً كاملةً في الأمم المتحدة؛ قطعًا للطريق الذي بات الكيان الغاصب يروج له حول “إسرائيل الكبرى” وترحيل سكان الضفة والقطاع. وقد اعترفت 147 دولة في الأمم المتحدة بفلسطين دولةً ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة؛ اعتبارًا من مايو 2024.
في خطاب قوي لمندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، نيبينزيا، الجمعة، ذكّر الكيان الصهيوني بالأَسَاس الذي قام عليه والشروط التي رافقت الاعتراف به قبل ثمانين عامًا، ومما قال في خطابه: إنه “في عام 1949، تم قبول دولة “إسرائيل” في الأمم المتحدة بشرط الامتثال لـ “قرارَين” محوريين للجمعية العامة – القرار رقم 181 المتعلق بـ “تقسيم فلسطين” إلى دولتين (عربية ويهودية) والقرار رقم 194 بشأن اللاجئين، الذي يشكل أَسَاس تفويض “الأونروا” التي سطت “إسرائيل” على موقع لها بمدينة القدس لتحويلها إلى مستوطنات كما أعلنت عن ذلك بالأمس.
أضاف: إلى جانب هذا فقد أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا استشاريًّا ثانيًا يؤكّـد بشكل واضح على “عدم شرعية “الاحتلال الإسرائيلي لـ “الضفة الغربية” بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة.
وتابع وهو يلفت نظر “إسرائيل” إلى أنها كمن يخرّب بيته بيده “لكن ما نراه اليوم هو أن “إسرائيل” تقومُ تخريبها المتعمد لتطبيق هذه العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، وهذا يتم بدعم واضح من الحلفاء الأمريكيين لـ “إسرائيل”.
ومع استمرار تآكل شرعية المحتلّ الإسرائيلي تواصل تل أبيب “الإبادة” لسكان غزة، متجاهلة قرارات مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورًا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتِّخاذ تدابيرَ لمنع أعمال القتل والإبادة الجماعية.
ومع إطلاق “إسرائيل” تصريحاتها العدائية ضد أمين عام الأمم المتحدة غوتيريش، فهي تفعل نفس الشيء مع المدعي العام بمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، بعد طلبه المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت. ووصل الأمر بنتنياهو أن وصف قرار المدعي العام بأنه “عبثي” واتهم خان بأنه “معادٍ للسامية” وأن ما يقوم به هو “عار أخلاقي” من الدرجة الأولى.
وفي ظل تواصل العدوان على قطاع غزة خلال عام برزت “إسرائيل” كدولة متمردة على الصعيد الدولي بشكل أوضح من أي وقت سابق، فقد أهملت وتحدت قرارات عديدة أصدرتها المؤسّسات الدولية، منها:
قرار مجلس الأمن الدولي في 25 مارس/آذار 2024 بوقف إطلاق نار فوري خلال شهر رمضان يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار.
قرار المجلس في 10 يونيو/حزيران 2024 بوقف فوري تام وكامل لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن.
قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني 2024 باتِّخاذ تدابيرَ مؤقَّتة “لمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأَسَاسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية”.
قرار المحكمة ذاتها في 24 مايو/أيار 2024 بالوقف الفوري لهجومها العسكري على رفح.
وللمرة الأولى في تاريخ “إسرائيل” أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/أيار 2024 تقديم طلبات لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت، وإن كان رافقها طلب اعتقال 3 من قادة حركة حماس.
كما تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إلى محكمة العدل الدولية لتبيان الآثار المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حصل بالفعل، وأعقبه قرار للجمعية العامة في 18 سبتمبر/أيلول 2024 بطلب انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلّة عام 1967 خلال 12 شهرًا ضمن مجموعة من التوصيات التي تُظهِرُ غضبَ أغلبية دول العالم من الاستهتار الإسرائيلي بالمؤسّسات الدولية والحقوق الفلسطينية والقيم الإنسانية.
في 5 أُكتوبر 2024، أشَارَت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن زيادة نفوذ العناصر اليمينية المتطرفة في “إسرائيل” بعد عملية (طُـوفَان الأقصى) أسهمت في تصاعد التوترات داخل المجتمع الإسرائيلي وأضعفت شرعية “إسرائيل” على الساحة الدولية، وجعلت ردودها تبدو عشوائية وغير مدروسة، حَيثُ غابت الأهداف السياسية الواضحة عن الحملة العسكرية؛ مما أَدَّى إلى تصعيد الصراع بدلًا عن تحقيق السلام أَو الاستقرار.
وعلاوة على ذلك، تسببت هذه السياسات في تدهور العلاقات مع الحلفاء، حَيثُ أَدَّت الأخطاء الاستراتيجية إلى تفاقم العزلة الدولية لـ “إسرائيل”.. وفي الداخل، سيطرت العناصر اليمينية المتطرفة على الحكومة؛ مما أثر سلبًا على التوازن الاجتماعي وعمّق الفجوات بين مختلف فئات المجتمع الإسرائيلي.
والواضح أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والمُستمرّة -منذ عام- أَدَّت إلى إحياء الدعوات للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ففي الـ 22 من مايو 2024م، وفي خطوة أُورُوبية لافتة أعلنت أيرلندا وإسبانيا والنرويج رسميًّا الاعترافَ بدولة فلسطين، تبعتها سلوفينيا باعترافها الرسمي في 4 يونيو الماضي. بينما تحدثت مالطا وأستراليا عن إمْكَانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وفي مقابل الاعتراف قطعت دولٌ علاقاتِها مع “إسرائيل” على خلفية حرب غزة واستمرار الإبادة الجماعية لسكان غزةَ واستهداف لبنان، حَيثُ كانت نيكاراغوا آخرَ الدول التي تقطع علاقاتها بالكيان، إلى جانب كولومبيا وبوليفيا وهندوراس وتشيلي.
الرأيُ العالمي الضاغطُ على “إسرائيل”:
مع مرور الوقت تضاعف كراهية الشعوب لهذا الكيان، حَيثُ إن تسليط الضوء على جرائم “إسرائيل” في غزة والضفة ولبنان، وممارسة حكومة الكيان للتعتيم على جرائمه قادت إلى تعاظم التأييد العالمي لفلسطين ولبنان على وجه الخصوص ومزيدٍ من العزلة والكراهية للكيان الإسرائيلي.
أمس الأول الجمعة، أدلت منظمة “العفو الدولية”، بتصريح أن “إسرائيل” تواصل التعتيم على جرائم وانتهاكات “حرب الإبادة الجماعية” في غزة عبر منع وصول الصحفيين الأجانب إلى الأراضي الفلسطينية، وخَاصَّة القطاع.
اليوم هناك نشاط حقوقي هائل حول العالم يهتف بالحرية لفلسطين ومؤخّراً للبنان، فإلى اليوم هناك أكثر من ٣٠ ألف مظاهرة في قارات العالم خرجت ضد جرائم “إسرائيل” في غزة ولبنان وهذا غير مسبوق منذ نشأة الكيان الإسرائيلي.
وكما قال الصحفي البريطاني ريتشارد ساندرز الذي ساهم في إخراج أهم فيلم وثائقي يفضح جرائم الاحتلال في غزة منذ السابع من أُكتوبر فَــإنَّ “لجوء قادة أمريكا وبريطانيا بالإيعاز لكيان الإجرام الإسرائيلي، بقتل الأطفال والنساء في غزة ولبنان كوسيلة لكسر إرادَة خصومهم عمل غير أخلاقي وسيؤدي إلى نهاية تلك الدول كقوى عظمى، حَيثُ جنود جيش الاحتلال من مختلف الجنسيات يقاتلون في غزة بدافع ديني، وتصرفاتهم التي يصورونها غير مفهومة ومثيرة للاشمئزاز”.
الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس في كتابها المؤثّر الذي يحمل عنوان Drinking the Sea at Gaza (الشرب من بحر غزة) تعلِّقُ في كتابها على ما يجري، بالقول: “بالنسبة لي، تختزل غزة كُـلّ فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتسلّط الضوء على التناقض الجوهري الكامن في “إسرائيل”، بين من يراها منارةً للديمقراطية، ومن يعتبرها رمزًا للظلم والحرمان؛ غزة هي جرحنا المفتوح”.
إن الحرب الدائرة في غزة منذ هجمات حماس يوم السابع من تشرين الأول/أُكتوبر على بلدات وقواعد عسكرية في جنوب “إسرائيل”، نَكَأت هذا الجرح المفتوح. وعلى ضوء هذه الهجمات، وشراسة الردّ الإسرائيلي، وفداحة الخسائر البشرية والماديّة، رأينا أسوأ كوابيسنا تتحقّق أمام أعيننا. فقد أسفر الصراع عن مقتل الآلاف من أطفال غزة وألحق دمارًا جسيمًا بالقطاع، وطالت تبعاته مناطقَ العالم أجمع؛ إذ شهدت عواصم ومدن عربية وغربية مسيراتٍ ومظاهرات غير مسبوقة منذ سنوات؛ تنديدًا بالحرب.
هذ النشاط الشعبي العالمي الذي ما زال مُستمرًّا إلى اليوم على قدر ما عرّى وحشية “إسرائيل” وكشف زيف الصورة المزيف لها، فقد كان عنصرًا ضاغطًا على حكومات دعم الكيان في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وامستردام.
لقد فقدت “إسرائيل” بريقَها بالكامل على المستوى الدولي، وتحولت إلى دولة “منبوذة” تتعرض لمقاطعات اقتصادية وحظر على شحنات الأسلحة من دول عديدة؛ مما دفع الإسرائيليين إلى إخفاء هُــوِيَّتهم في كثير من دول العالم؛ خوفًا من الملاحقة والازدراء، وهي أسوأ صورة تخيّلت “إسرائيل” أن تقدمها للجيل الرابع فيها بعد 76 عامًا على تأسيسها.
وانعكس الرأيُ العام العالمي على مواقف بعض الدول تجاه الحرب في غزةَ ومستوى التعاون العسكري مع جيش الاحتلال. وتم اتِّخاذ القرارات المتعلقة بالحظر تحت ضغوط كبيرة مارستها مؤسّسات حقوق الإنسان الدولية، ومنظمات إنسانية محلية، رفع بعضها قضايا ضد سلطات الدول المعنية، معتمدة على قوانين محلية وقرارات دولية، أبرزها قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الصادر في السادس من أبريل/نيسان 2024، القاضي بحظر تصدير السلاح إلى “إسرائيل”.
وتبنَّت مجموعة من الدولِ قراراتٍ تتعلق بحظر كامل أَو جزئي على توريد السلاح إلى “إسرائيل”، حَيثُ أمرت محكمة هولندية في فبراير/شباط 2024 الحكومة بوقف توريد أجزاء طائرات مقاتلة من طراز “إف-35” إلى “إسرائيل”، بينما قيدت بلجيكا مبيعات الأسلحة إلى كيان الاحتلال، ورفع المدافعون عن حقوق الإنسان في كندا أصواتهم، مندّدين بقصور النظام عن الالتزام بتطبيق المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما دفع السلطات الكندية في العاشر من سبتمبر/أيلول 2024 إلى تعليق 30 تصريحًا لبيع أسلحة لـ “إسرائيل” وألغت عقدًا مع شركة أمريكية تبيعُ ذخيرة للجيش الإسرائيلي. وصرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، في يناير/كانون الثاني 2024 بأن إسبانيا لم تبع أسلحة إلى “إسرائيل” منذ 7 أُكتوبر/تشرين الأول 2023. وفي مايو/أيار أعلنت مدريد أنها ستحظر على السفن التي تحمل أسلحة إلى “إسرائيل” الرسوَ في الموانئ الإسبانية.
وأوقفت هولندا تصدير قطع غيار طائرات “إف-16″ و”إف-35” إلى “إسرائيل” في فبراير/شباط 2024م؛ بناءً على حكم قضائي استصدرته منظمة “أوكسفام نوفيب” بالاشتراك مع منظمة “باكس” ومنظمة “منتدى الحقوق”، بعد رفع دعوى قضائية ضد الحكومة الهولندية؛ بسَببِ تصديرها أسلحة إلى “إسرائيل” تُستخدم في الحرب على غزة.
وأعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في سبتمبر/أيلول الماضي أن لندن علّقت 30 من أصل 350 ترخيصًا للأسلحة.
وفي فبراير/شباط 2024، أعلنت شركة “إيتوشو” اليابانية أنها ستنهي شراكتَها مع شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية لتصنيع الأسلحة؛ بناء على طلب وزارة الدفاع اليابانية؛ لدواع لا ترتبط بالصراع بين “إسرائيل” والفلسطينيين.
وعلّقت الشركةُ اليابانية بعضَ الأنشطة المتعلقة بمذكرة التفاهم، قبل إنهاء الشراكة في نهاية فبراير/شباط؛ امتثالًا لقرار محكمة العدل الدولية الصادر في 26 يناير/كانون الثاني من العام نفسه، والقاضي بوجوب إيقاف فوري لإطلاق النار في غزة.
في المقابل، قاومت الدولُ الأكثر تصديرًا للسلاح إلى “إسرائيل” كالولايات المتحدة وألمانيا والدانمارك الضغوط الشعبيّة، واستمرت في توريده بدون تغيير مهم، لكن يتوقع أن يزداد تأثيرُ هذا المزاج العام في السنوات المقبلة؛ إذ يُظهر الشباب رفضًا أوضحَ من الفئات الأكبر سِنًّا للسردية والجرائم الإسرائيلية.
في رسالة وقّعها أكثرُ من 600 محامٍ بارز وقضاة سابقون في المحكمة العليا في بريطانيا، أوائل إبريل 2024، تضمنت تحذيرًا من أن حكومة بلادهم تنتهكُ القانون الدولي باستمرارها في تزويد “إسرائيل” بالسلاح.
قالت الرسالة: إن هناك حاجة إلى “إجراءات جدية” “لتجنب تواطؤ بريطانيا في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، بما في ذلك الانتهاكات المحتملة لاتّفاقية الإبادة الجماعية”.
وبعد استهداف منظمة “المطبخ المركزي العالمي” في غزة على يد القوات الإسرائيلية والذي كان أحدث ضربة مفاجئة توجّـه إلى أُولئك الذين يصرُّون على ترديد المقولة الإسرائيلية بأن جيشها يبذل قصارى جهده لحماية الأبرياء، أبلغ رئيس الوزراء البريطاني نظيره الإسرائيلي أن الوضع في غزة بات “لا يطاق”، بينما حذر رئيس الحكومة البولندية دونالد تاسك من أن نتنياهو يضعُ التضامُنَ مع “إسرائيل” أمام “اختبار عسير حقاً”.
أواخر العام الماضي، أظهرت استطلاعاتُ الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية أن نظرة الشباب الأمريكي لـ “إسرائيل” كانت سلبية إلى حَــدّ بعيد كما كانت صادمةً لمجتمع الصهيونية ورعاته.
أظهر الاستطلاع أن أغلبية الشباب الأمريكيين بين 18 و24 عامًا تتبنى مواقفَ غير داعمة لـ “إسرائيل”، بل ومناهضة لها أحيانًا، كما يعتقدون أن تل أبيب ترتكب إبادة جماعيةً في حربها على قطاع غزة المتواصلة منذ أكثر من شهرين.
الاستطلاع الذي نشرته صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية بيّن أن 51 % من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو “إنهاء إسرائيل” وتسليمها لحماس والفلسطينيين.
وأوضح الاستطلاع -أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفارد، وشمل 2000 ناخب أمريكي من فئات عمرية مختلفة- أن غالبية الأمريكيين تدعم “إسرائيل” في حربها على غزة، إلا أن 67 % من هؤلاء الشباب يؤيدون وقفًا غير مشروط لإطلاق النار من شأنه أن يُفرج عن المحتجزين في قطاع غزة، ويترك حركة حماس في السلطة.
وردًّا على سؤال عما إذَا كانوا يعتقدون أن حماس منظمةٌ يمكن التفاوُضُ معها لتحقيق السلام، قال 76 % من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا إنهم يعتقدون أنه يمكنُ التفاوض معها.
كما أظهرت النتائج أن غالبيةَ الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا وبين 25 و34 عامًا يعتقدون أن “إسرائيل” ترتكب إبادةً جماعيةً في غزة.
وبحسب الاستطلاع فَــإنَّ 67 % من المستجوبين من هذه الفئة العمرية يرون أن اليهود “ظالمون”، ويجب أن تتم معاملتهم كذلك.
ووفقًا للاستطلاع الذي أوردته صحيفة جيرزواليم بوست، فَــإنَّ 53 % من هؤلاء يعتقدون أنه يجبُ السماح بالدعوات إلى “إبادة اليهود”.
وفي بريطانيا أشار استطلاع للرأي -أجرته مؤسّسة “فوكال داتا” في يونيو/حزيران 2024 لصالح موقع “أنهيرد” الإخباري- أن أغلبية الشباب في بريطانيا “لا يعتقدون بضرورة وجود إسرائيل”.
والواضح اليوم بجلاء أن “إسرائيل” التي كانت تُقَدَّمُ على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، لم يعد بالإمْكَان الحديث عنها كذلك، وقد تجلى أمام العالم الوجه الحقيقي لهذا الكيان اللقيط، بعد مشاهد التعامل العنيف مع أهالي الأسرى الإسرائيليين، ومشاهد القصف والتدمير والقتل الجماعي حاضرة في ذاكرة الشعوب وقد تداولها العالم بحرية غير مسبوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومثَّلت مشاهد وصور جثث الأطفال وقتل عوائل بأكملها ومحوها من السجلات المدنية واستهداف المستشفيات والمدارس والملاجئ والمساجد صورةً صارخةً لانتهاك هذا الكيان الوحشي لحقوق الإنسان.
هذه الصورة العنيفة التي برّرتها “إسرائيل” بعد هجوم يوم الطوفان، واللجوء إلى رأي “إذا لم تنجح القوة، فاستخدم المزيدَ من القوة”، كان محل سخرية واسعة، ومن ضمن ردود الأفعال عليها، ما قاله المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية آفي شلايم: إن “جذور الصراع تعود لبداية الاحتلال بخلاف ما تروج له الرواية الرسمية لـ “إسرائيل”، وإن ادِّعاء اليهود بمشروعية امتلاك الأرض على أَسَاس ديني ادِّعاء باطل تمامًا”.
تصدُّعُ جدار الأمن الإسرائيلي:
لقد شكّلت عملية (طُـوفَان الأقصى) -إلى جانب حضور المقاومة في لبنان على مدار أربعة عقود- قوةً لخرق جدار الأمن والردع الذي كان الاحتلال يضفي عليه هالةً أُسطورية، خُصُوصًا في جوانب تكنولوجية التنصت، والاختراق وتفوق السلاح الإسرائيلي مقابل محدودية سلاح المقاومة. فكلفت الحرب “إسرائيل” فاتورة باهظة، حَيثُ تقدر تكاليف الحرب إلى اليوم ما يفوق 66 مليارًا إلى جانب خسائر العدوّ من القتلى والمصابين والمعاقين والنازحين، وهو ما تحاول التستر عليه ضمن عقيدة بن غوريون الأمنية.
ووفقًا لأرقام متواضعة نشرها معهدُ أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 7 أُكتوبر/تشرين الأول 2024، فَــإنَّ عددَ قتلى الجيش الإسرائيلي خلال سنة من الحرب بلغ 1697 جنديًّا وضابطًا ونحو 5 آلاف إصابة، بينهم 695 جراحهم خطيرة.
فيما عدد المصابين المدنيين الإسرائيليين 19 ألفًا، وعدد الإسرائيليين الذين نزحوا من الشمال والجنوب خلال الحرب 143 ألفًا، وهذا دون الحديث عن النازحين الجدد في “إسرائيل”.
لقد شكّل هجوم 7 أُكتوبر/تشرين الأول 2023 وفشل الجيشِ في التنبؤ به ومواجهته، ضربةً غير مسبوقة لثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه ودولته؛ ومما عزز هذا الأمر مستوى النقد والاتّهامات التي طالت قادة الجيش والأمن من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.
وكشف استطلاع للرأي أجرته قناة “كان” التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية في أُكتوبر/تشرين الأول 2024 أن نحو ربع الإسرائيليين؛ أي حوالى 2،5 مليون شخص، فكّروا في الهجرة للخارج خلال العام الماضي؛ بسَببِ الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي كشفت معطياتٌ رسمية صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين إلى الخارج.
في المقابل، سعت “إسرائيل” إلى ترميم جدار الردع، من خلال إيقاع قدر هائل من الدمار والضحايا في قطاع غزة، وهو ما تأمل أن يوفر لها فرصة لتهجير جزء من سكان القطاع حالما تسنح لها الفرصة لذلك، غير أن عملية الوعد الصادق الثانية عمّقت حالةَ التصدع الأمني الإسرائيلي، إلى جانب فشل الدخول البري جنوبي لبنان وتصاعد مستوى الخوف التي يعيشه الإسرائيليون في المدن والمستوطنات، حَيثُ باتت صفاراتُ الإنذار ومسلسل الهروب إلى الملاجئ والبحث عن إمْكَان آمنة للاختباء، مشهدًا يوميًّا في “إسرائيل”، فيما الصواريخ والطائرات المسيّرة تضرب العمق الإسرائيلي على نحوٍ متصاعد.
الهزيمةُ الاستراتيجية:
يؤكّـدُ الجنرال إسحاق بريك -كان يعمل كمستشار لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بداية العدوان على قطاع غزة- بالقول: “إن كافة المسارات التي اختارتها القيادة السياسية والعسكرية في “إسرائيل” تقود البلاد إلى منحدر زلق، وقد تصل قريبًا إلى نقطة اللاعودة”. موجِّهًا انتقادات حادة لقيادات الجيش الإسرائيلي التي قال إنها لم تجهز الجيش بالتسليح والخطط والتكنولوجيا المتناسبة مع الحروب المستقبلية التي أصبحت تعتمد على الطائرات المسيرة والصواريخ خلافًا للحروب التقليدية، فضلًا عن تحول “إسرائيل” إلى حرب استنزاف طويلة وهو الفخ الاستراتيجي الذي تحدَّث عنه المفكِّرُ الروسي ألكسندر نازاراف الذي اعتبر أن قدرةَ المقاومة على تحويل الحرب إلى حرب بطيئة هو ما سيؤدّي للنصر الاستراتيجي.