الحربُ الثقافية والصهيونية
عبدالرحمن مراد
باستشهاد يحيى السنوار في إطار سلسلة الاغتيالات لرموز وقادة المقاومة الإسلامية تتضح الصورة العامة للمشهد السياسي والثقافي العربي والإسلامي؛ فالقارئ لمجريات الحدث في وسائل التواصل الاجتماعي يجد ترحيباً ورضا من ناشطين عرب ومسلمين، فضلاً عن الصورة المتغيرة للموقف السياسي العربي، الذي لا يكون إلا تعبيراً عن واقع اجتماعي وثقافي أَو نتاج له، مثل ذلك يوحي أن العدوّ نجح بطريقة أَو أُخرى من تغيير المفاهيم واستطاع تعويم المصطلحات حتى أصبح العدوّ المتربص صديقاً، والصديق الناصح والمقاوم عدواً، نقرأ ذلك من خلال التموجات التفاعلية مع حركة الاغتيالات التي تنال قادة المقاومة الإسلامية، فالتفكيك قد بلغ ذروته فأهل السنة يقولون بكل وضوح “إسرائيل” أقرب إلينا من الشيعة ويلوذون بالصمت المريب حين تنال “إسرائيل” من رموز حماس؛ باعتبَار حماس تياراً إخوانياً سنياً، كما أن سياسة القضاء على حركات التحرّر التي بدأت في الألفية الجديدة قد بلغت أهدافها، ويمكن القول إن سياسة صناعة إسلام معتدل التي تبنتها أمريكا استناداً إلى استراتيجية راند لعام 2007م -وقد سبق لنا بيان أبعادها الفكرية والموضوعية في عدد من المقالات- بدأت تؤتي ثمارها، اليوم يتضح ذلك من خلال تفاعلات الواقع وتموجاته، وهو اليوم أكثر وضوحًا من ذي قبل؛ بسَببِ التطبيقات الاجتماعية الحديثة.
وقد سبق لنا القول إن هناك إرادَة صهيونية وأمريكية تعمل على سياسة هدم التطبيقات الاجتماعية، وقد اتسع نطاق نشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المناشط الثقافية والفنية وفي المهرجانات، ومن تابع الجدل الفني والثقافي الذي دار في مصر قبل زمن قصير يدرك أن رأس المال يتحَرّك في هذا الاتّجاه، فرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس خاض جدلاً بشأن الفن الذي يفسد القيم والأخلاق وتقاليد المجتمعات العربية، وقد اتضح دوره في المهرجان السينمائي الذي نظمه، وهو بذلك يؤكّـد على الدور المشبوه الذي يقوم به في المجتمعات العربية على وجه العموم والمصري على وجه الخصوص؛ فرأس المال يرتبط مع الصهيونية في إدارة الأهداف ومعروف أن لها في كُـلّ بلد واجهة مالية وطنية وساويرس واجهتهم في مصر وإلا ليس بمقدوره إدارة مهرجان فني بمئات الملايين دون غاية أَو هدف.
أما في اليمن –كمجتمع تقليدي- فقد كانت لهم سياسة مختلفة فمنذ بداية تسعينيات القرن الماضي بدأت حركة الانفتاح السياسي الذي تظافرت في تعزيز حركته ووجوده عدة عوامل دولية كانهيار المنظومة الاشتراكية، وإقليميًّا كحرب الخليج، ووطنية وتتمثل في تحقيق الوحدة الوطنية والسياسية بين شطري اليمن، ومن خلال هذه المتغيرات دخلت عدة مفاهيم جديدة في القاموس السياسي اليمني كالإرهاب، والتوافق، والتناوب، والشراكة الوطنية، والعدالة الانتقالية، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق النوع، كما لوحظ الإقبال المكثّـف على توظيف بعض المفاهيم الجديدة كالحداثة، والتحديث، والديمقراطية، المجتمع، المواطنة، الحريات، حقوق الإنسان… إلخ، ومن اللافت للنظر أن توظيف تلك المصطلحات كان يتم دون نظر أَو تدقيق أَو حرص من أرباب السياسة أَو جماعة صناعة الخطاب السياسي أَو المؤسّسات ومراكز الدراسات التابعة للمنظومة السياسية، وقد ترك ذلك الإهمال ظلالاً قاتماً على المفاهيم بعد الصراع الذي عاشته وتعيشه اليمن منذ عام 2007م إلى اليوم الذي تشهد فيه شيوع المفاهيم الملتبسة مثل الاستقلال والحرية والسيادة والتحرير… إلخ؛ فالصراع يترك ظلالاً قاتماً على المصطلح وقد يحدث التباساً بغية الوصول إلى انهيار النظام العام والطبيعي، وقد حدث ذلك من حَيثُ يدري أرباب السياسة ومن حَيثُ لا يدرون؛ إذ إن الفجور في الخصومة السياسية يحدث انهياراً قيميًّا وبالتالي تهديداً واضحًا للنظام العام والطبيعي دون مراعاة لأي اعتبارات إما عن جهل أَو غباء سياسي مفرط أَو التباس في مفهوم المواطنة.
لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخَاصَّة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدّد هُــوِيّة وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم، بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتّجاه توسيع المحتوى الدلالي أَو تضييقه أَو تعديله بشكل من الأشكال.
ولذلك نقول إن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأنًا عن المعركة العسكرية، ولا بُـدَّ لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة حتى نحقّق الانتصار الذي نرغب، ما لم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن، ولا بدَّ من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أُخرى فيكون الصراع تعبيراً عن النقص لا استقراراً من توازن الكمال بينهم.
ومن المهم في هذه المرحلة الاهتمام بالجانب الثقافي بمعناه الشامل فالمشترك الثقافي بين كُـلّ الطوائف والفرق والجماعات وأصحاب المشارب الفكرية المختلفة والمتعددة كبير ويمكن الاشتغال عليه، كما يمكننا الاشتغال على التقنيات المعاصرة وبما يحقّق الطموح الكبير للأُمَّـة، فالواقع يرسل رموزه وإشاراته لكننا نتلقاه بوعي غير مكتمل الآفاق، هناك ثوابت لا يمكن القفز عليها وهناك اجتهادات تمس المجتمع والسياسة وتلامس الفكر والفنون والآداب وغيرها من جوانب الحياة، نستطيع عبر الحوار الفكري والثقافي من تصحيح التصورات حولها، وهذا أمر يتطلب تفعيل دور ووظائف كُـلّ الطيف الثقافي المتعدد حتى نصل إلى وحدة إنسانية مشتركة، حينها يتعذر على العدوّ النفاذ إلى حياتنا وتعكير صفو المشروع الإسلامي الكبير، وفي ظني أن إهمال الجانب الثقافي ليس في صالح المرحلة ولا في مصلحتنا ونحن نخوض معركة وجود مع عدو يحاربنا في مستويات متعددة، ولذلك فالحوار مع المختلف تمتين للوحدة المشتركة.