نحن وصايا الشهداء
بشرى خالد الصارم
من محراب الجهاد، ومن مصلى العطاء، من بين وهج زبرجدة النجوم لتهوي ساطعة من السماء إلى الأرض كي تضيء لثلة آمنت بوعد الله، بعد أن أنارت ضلالتهم، وهدتهم لطريقهم السوي، لتصعد مرة أُخرى بعد تحقيق الأمنيات من قهقرة أعداء الأرض إلى السماء، ليكونوا نجومًا مرة أُخرى يستضاء بهم، ويُستدل بهم، ليكونوا الإلهام لمن بعدهم لمواصلةِ طريقهم الذي ابتدأ بهم ليكملوه هم.
ثلةٌ من المؤمنين في عقولهم ما لا يمكن مصادرته، وفي نفوسهم ما لا يمكن محاكمته، وفي إرادتهم ما لا يمكن حبسه، أن لهم أفكاراً عصية على الكسر، ولهم عزة أبيّة على القهر، ولهم صمود لا يحده صبر.
هؤلاء هم الشهداء نبراس العطاء، وروح الفداء، ودرب النضال والبقاء، وهذه هي سيرة الشهيد تبدأ من السماء لتنتهي إلى السماء، هؤلاء هم الذين يرون رفاقهم من بعدهم، طيفهم البهي يحلق في الميدان، ولا تزال أنفاسهم ترتبط بتراب الأرض، فيستنشقون أثرهم، والعيون التي تنام وتستيقظ على حقيقة أنهم امتداد للنعمة الإلهية ماكثين في كُـلّ الأرواح التي تواصل طريقهم، وما كان هدفها إلا هدفهم وهو الجهاد حتى تحرير الأرض المقدسة.
فمن وسط الثغور، ومن غبار المعارك، ومن بين أصوات طلقات البنادق المسبحة بآيات النصر، ومن أطراف الشفاه اللاهجة بذكر الله، غادرتنا أجسادهم وبقيت أرواحهم فينا حبًا لا يُمل، ويقينًا لا يزاوله شك، أجسادهم الممتلئة بإدراكٍ كلي بمن فدى في العاشر من محرم بدمه ودم أهله وإخوته وارتقت روحه إلى السماء ونادى الله عز وجل “إنه يا الله بعينك ومنك وإليك وفي سبيلك” فمّن عليه ذو الجلال والإكرام ببأس شديد وسدد الرميّ لثلة آمنوا بربهم فزادهم هدى، وثبت أقدامهم وشرح صدورهم فأوجعوا العدوّ، وقهقروا جبروته إلى أن فاح عطر الأرض بدمائهم وارتاحت جروحهم وسلموا الراية لرفقاهم من بعدهم.
منهجهم اليوم الذي جعل انتصارات رفاقهم من بعدهم تكلل الوجود بسالة وتضحية وفداء، كانوا هم ملهميهم، والحاضرين في كُـلّ تفاصيلهم، في الثغور، في الخندق والمترس، في الطلقة والقذيفة، في المدفعية والصاروخ، في التسبيحة والتهليلة، في رجاء دعوات كُميل، في سجدات الحمد والثناء، وفي همهمات يا الله سدد يا الله صوب، إلى آيات النصر والتمكين، كانوا وما يزالون الحاضرين أَيْـضًا عند المستجدات، وفي ثنايا أسطر البيانات على لسان سريع البشارات، إلى أن يأتي البيان الأخير؛ بيان النصر الذي سيعلنه من على منبر المسجد الأقصى عند تحقيق وعد الآخرة.
انتصارات دماؤهم من على عبق تراب كربلاء إلى عبق تراب أرض مران، من صنعاء إلى غزة، من العراق إلى الضاحية، من دمشق إلى طهران، وَإلى كُـلّ نسفة تراب في كُـلّ أرجاء الفداء والعطاء، لا تبارح رائحة عطرهم المنسكب على امتداد الأفق لتقذف بأريج دمائهم مع انبلاج كُـلّ يوم جديد بتحقيق الوعد الصادق بأن “قد ولى زمن الهزائم”، فتمتلئ كُـلّ رئتيّ كُـلّ مستضعف ومظلوم في هذا العالم رائحة انتصاراتهم وصمودهم، استبسالهم وثباتهم حتى حكاية استشهادهم.
شهيداً تلو شهيد، وميداناً بجانب ميدان، وعطاء يلحقه عطاء، واليوم وبعد رحيل الشهداء؛ لم يمنعنا فقدهم من حمل مبادئهم التي تركونا عليها، ولم يثننا رحيلهم عن تقديم كُـلّ شيء في المعركة بين الحق والباطل، طالما أنكم يا شهداء علمتمونا كيف نتجسد القواعد الجهادية الخالصة التي باتت تحكم طريقة عملنا وتفكيرنا وتحَرّكنا في هذه الدنيا الفانية، من “ألسنا على الحق إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا” إلى “أرضيت يا رب فخذ حتى ترضى” فنحن دومًا سنكون وصيتكم في أرض المعركة حتى النصر بمعية الله تعالى.