ثباتُ اليمن الاستراتيجي في مواجهة العدوّ.. ثمارُ الإسناد والصمود
إبراهيم العنسي
يتعاظَمُ القلقُ الصهيوني في “إسرائيلَ” كما هو لدى المتصهينين العرب من القدرة والتأثير اليمني على كيان العدوّ في المدى القريب والمتوسط، بحضور تقنية تصنيع عسكري لم تعد حكرًا على دولة بعينها، في ظل تعاون عسكري وتمايز للمحاور والقوى الدولية.
في تقرير “إسرائيلي” بعنوان “هل ستبقى الفوضى الحوثية على الممر الهندي –المتوسطي قائمة؟” تحدث الموقعُ الإسرائيلي “تايمز أوف إسرائيل” كالتالي: (إنه بعد وقت قصير من فوز دونالد ترامب في الانتخابات عام 2024، قام مؤثر إماراتي بتداول تغريدة استفزازية تشير إلى أن “الحوثيين” أعلنوا وقف إطلاق النار؛ خوفًا من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وقد انتشر الخبر بسرعة كبيرة، وخَاصَّة بين مؤيدي ترامب، ولكن سرعان ما تم فضحه؛ باعتبَارها معلومات كاذبة من قبل منصة التواصل الاجتماعي (إكس)، حَيثُ تم تحديد المصدر، وهو حساب مؤيد للسعوديّة معروف بمحتوى مناهض للحوثيين، يروج لرواية ملفقة مفادها أن الحوثيين يخشون الإدارة الأمريكية القادمة).
في الواقع أن مواقف اليمن في ظل النظام الثوري السياسي بصنعاء، قدمت صورة واضحة عن طبيعة وطريقة التعاطي اليمني مع الأحداث.. تجلى هذا بشكل أكبر منذ بدء حرب غزة، وبات جليًّا أن اليمن لا تتأثر بالمتغيرات الأمريكية وصعود الإدارات الحاكمة جمهورية كانت أم ديمقراطية، كما لا تتغير بتصعيد الضغوط أَو حتى بالتحَرّكات الغربية –العربية الموالية لواشنطن على كُـلّ حال.
إلى جانب هذا الثبات في الموقف هناك خط موازٍ يتعلق بالفعل والتحَرّك الفاعل المتنامي، حَيثُ يمكن النظر إليه ضمن مخطّط ورسم بياني أنه يسير في منحنى تصاعدي منذ بداية حرب غزة وحتى اليوم.
فمع تصعيد مستوى الإبادة الجماعية في غزة وحضور المشاريع الصهيونية وانكشاف الأغطية عن مشاريع الترحيل القسري لسكان قطاع غزة والضفة العربية والتطاول على مدينة القدس الشرقية بأعمال الهدم والمصادرة، وقصف لبنان والإعلان الصريح عن مشاريع العدوّ الإسرائيلي في المنطقة لضرب المقاومة الإسلامية وأية حركات ممانعة، مع هذا التصعيد تطور الفعل اليمني في الرد على كيان العدوّ وتحالف الأمريكان المساند له، والمدهش أن يبلغ الموقف والرد اليمني مستوىً متقدمًا من التأثير، حَيثُ طال في بُعدَين عسكري وأمني “استخباراتي” العدوَّ في نقاط حساسة، تجعل التحليل السياسي يقف مدهوشًا من هذا المستوى الجريء من الفعل غير المسبوق في تاريخ المنطقة، وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ الهيمنة الأمريكية على المنطقة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وبالنظر إلى معطيات الواقع اليمني الذي يعيش ظرفَي العدوان والحصار معًا، يمكن فهم حجم التحدي اليمني في مواجهة الهيمنة والاستكبار الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية وفي ظل التدخل الأمريكي المباشر في اليمن والعدوان المعلن عنه منذ يناير 2024م، ضمن تحالف “الازدهار” البحري الذي أضيف كفشل أمريكي جديد بتفاصيل مزعجة لواشنطن وما حمله من مؤشرات على ضعف وتضعضع أمريكي في مسار الصراع الأمريكي –الصيني –الروسي –الإسلامي، وتراجع الهيمنة الأمريكية على المنطقة بما فيها المسطحات المائية والممرات والمضائق التابعة لدول بعينها.
تراكم الرد اليمني:
وبمراجعة سريعة لثبات الموقف اليمني من حرب غزة وإسناد محور المقاومة، في مقابل تصاعد الرد القائم في الأَسَاس على تخطيط وهدف استراتيجي، حَيثُ يمكن فهم جرأة اليمنيين في استهداف ما كان من المستحيل التطاول عليه أَو استهدافه، فاليمن إلى جانب الثبات في الموقف قدَّمَ صورة لتطور الفعل المقاوم بدءًا من تحَرّكه العسكري الجريء في أُكتوبر 2023م بضربة مدينة أم الرشراش “إيلات” المحتلّة، وُصُـولًا إلى استهداف حاملات الطائرات الأمريكية، وما ترتب على هذا الموقف والفعل المساند لفلسطين من ردود أفعال صهيونية أمريكية غربية، بالعدوان على البلاد، رغم أن واقع أمريكا بعد حربين طويلتين في العراق وأفغانستان، يؤكّـد بحسب ديفيد أوتاي -الباحث في مركز والسن الأمريكي، أنها تمر بمرحلة من الانكفاء عن التدخل العسكري “المباشر”، والاتكال على حلفائها في تنفيذ هذه التدخلات كما حصل مع اليمن في عدوان مارس2015م، والتلويح بالعقوبات وتصنيف القائمة السوداء واللجوء لضغوط اقتصادية وإنسانية ومحاولة إثارة الفوضى عبر أدوات الداخل اليمني.
فيما بقي الموقف اليمني ثابتاُ، معبرًا عن نهج أصيل يستند إلى مرجعية دينية حاكمة، ولا يتغير بتغير أنماط ومستويات التأثير وقوة الفعل الخارجي.
والأكيد أن حسابات السياسة وما يرتبط بها في جوانب اقتصادية وعسكرية، لا وجودَ لها فيما يتعلق بالموقف اليمني من حرب غزة والمسألة الفلسطينية؛ الأمر الذي سهّل فَهمَ تصاعد الفعل اليمني ضد التحالف الأمريكي –الصهيوني؛ فهذا الموقف لا يأخذ بمحاذير التساؤل عن ماذا لو صعدت اليمن من الفعل المساند لفلسطين ولبنان، وأية التداعيات التي سيخلفها هذا التحَرّك غير المألوف عربيًّا على مستوى الأنظمة، حَيثُ إن تحليلات ومآخذَ السياسة قادت بلدانًا وأنظمة فاعلة ومؤثرة عربية وإسلامية نحو مواقف سلبية من قضايا الأُمَّــة ويمكن النظر إلى الحالة التركية والمصرية كمثال واضح، على عكس موقف وتحَرّكات اليمن واسعة النطاق في وجه المشروع الصهيوني الجديد.
توالي الأحداث المرتبطة بحرب عزة وتراكم الرد اليمني بقوة وكثافة ضد تحَرّكات أمريكا والغرب و”إسرائيل” سواءً في البحار أَو في الداخل الفلسطيني ثم اللبناني، رسخ لدى الأمريكان صورة غنية بعناصرٍ حيوية عن اليمنيين وعن سلوك اليمن ضمن قصة الصراع وتفاصيل المواجهات البحرية على مدار عام ونيف وتصورات واحتمالات إمْكَانات الرد مع كُـلّ حدث أَو موقف يرتبط بالأحداث الجارية، مع ما تناوله الإعلام الأجنبي والعربي من تحليلات رسخت صورة اليمن كبلد معقد بتفاصيله وتنوعه الحيوي الغامض بأسراره غير القابلة للتداول، والتي تضعه في وضع القوة الجغرافية المتقدمة.
كما رسخت صورة المقاتل القوي، العنيد، والشجاع، والفعل المصاحب للعمليات الذكية، القوية، الكثيفة، السريعة، المفاجئة، والمميتة، ثم الموقف الثابت، الراسخ والمتحدي والذي صنع من أزماته فُرَصًا للتقدم على سُلَّمِ النهوض في سنوات معدودة ضمن خط استراتيجي محدّد، واضح المعالم، حمل في كُـلّ عام من أعوام الحصار جديدًا نحو تغيير واقع الحصار والعدوان وجديدًا نحو النهوض بالبلد الحضاري.
الشعار أصبح حقيقة:
هذه الصورة التي رسخها ثباتُ وشجاعة الموقف اليمني، ما فسّر الحذر الأمريكي الغربي الواضح في التعامل مع قوة صنعاء الجغرافية والعسكرية والشعبيّة وقوة القيادة، حَيثُ قادت سلسلة عمليات ومواجهات البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن وحتى المحيط الهندي رغم اتساعه وصعوبة رصد سفن العدوّ فيه، إلى تجنب سفن تحالف الأمريكي -الإسرائيلي –الغربي المرور في مناطق محتملة للرد الناري للقوات اليمنية، والملفت أن تأثير الردع اليمني ضمن فهم الصورة كان حاضراً حتى ما قبل تشكيل واشنطن لتحالف “الازدهار”، فكان لذلك الردع دور كبير في نأي دول كثيرة بنفسها عن ذلك التحالف، للحد الذي ظهرت فيه أمريكا هزيلة كحال تحالفها الذي لم يصمد طويلاً وسرعان ما غاب ذكرُه وأعلَنَ فشلَه في كسر حصار اليمن البحري ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي.
في 31 أُكتوبر، وبعد إطلاق “صنعاء” صواريخ باليستية على “إسرائيل”، وتعهدوا بمواصلة ذلك حتى توقف العدوان الإسرائيلي في ذلك الأسبوع، بحسب جيسون لاو من موقع سوث24، ونشره أواخر أُكتوبر، ارتفعت عمليات البحث على مِنصة “جوجل” عن “الحوثيين” و”من هم الحوثيون” إلى أعلى مستوى لها منذ بدء العدوان الأمريكي السعودي على اليمن، وقبل أُكتوبر، كانت عمليات البحث الشهرية عن “الحوثيين تتراوح بين 10000-100000 في أرجاء الدول الغربية، لكنها زادت الآن إلى عشرة أضعاف ذلك المعدَّل.
وبحسب مجلة “فورين بوليسي” فَــإنَّ شعارَ “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” وقد استُهينَ به من قبل الخصوم، حَيثُ كانوا يعتبرونه “غريبًا وكوميديًّا في الوقت نفسه”، ليتبينَ لاحقًا أن ذلك الشعار أصبح حقيقةً، واسعَ الحضور خارج البلاد مع ثبات الموقف اليمني وجراءة وقوة الفعل في محاربة الأمريكيين والإسرائيليين على وجه الخصوص.
فيما أصبحت العملياتُ اليمنية موضعَ فخر واستلهام لدى كثير من الشعوب الحيّة والحرّة، وُصُـولًا إلى أن دولًا مضطهدةً تسعى لاستنساخ تجربة اليمن المساند لغزة والمقاوم للهيمنة الأمريكية الغربية، على أمل الخَلاصِ من هيمنة قوى الاستعمار خَاصَّة بإفريقيا.