خرائطُ “إسرائيل” المُتخيَّلة: لبنانُ الهدفُ التالي

المسيرة| عبدالحميد الغرباني

يتأرجَحُ اتّفاقُ وقف إطلاق النار في لبنانَ بين عواملَ تُسهِمُ في بقائه وأُخرى تهدّدُه، وَتبعاً لذلك تتباينُ تقديراتُ المُراقبين بين من يُرجِّحُ انهيارَ الاتّفاق في الأيّام القليلة القادمة، وَالعودة إلى النقطة صفر قبل انتهاء مهلة الستين يومًا المنصوص عليها في الاتّفاق، وَبين من يرى أن يستمر وقف إطلاق النار فيما بعد المهلة، وَالعوامل -حسب أصحاب هذا الرأي- تتمثل في حالة ضعف غير مسبوقة لحزب الله استوفت أركانها مع إسقاط سوريا بما تعنيه من قاعدة عسكرية للحزب وطريق إمدَاد دائمة له، بالإضافة إلى ضغوط القوى اللبنانية المناوئة للحزب في حال قرّر وضع حدٍّ لانتهاكات العدوّ الإسرائيلي، لدرجة قد يجد الحزب معها نفسه في مواجهة مزدوجة لا يأمن فيها ظهره، في ظل مخاوف ظهور جيش الجنوب بنسخته الثانية؛ ما يُجبره على غض النظر عن خروقات العدوّ، وَحتى وإن استمرت في أشكالها الراهنة ومنها التوسع في احتلال بعض القرى الجنوبية التي لم تسقط تحت أعتى غزو بري، ترافقت معه وسبقته أكبر حملة جوية مُكثّـفة على لبنان على مر التاريخ.

والنقطة الأخيرة تشكل أبرز عوامل ترجيح ضعف حظوظ صمود وقف إطلاق النار في لبنان، ويُضاف إليها بنود الاتّفاق ذاته، وَعدم فاعلية لجنة مراقبة الاتّفاق مع اقتصار دورِها على تلقّي شكاوى الجانبين عن انتهاكات الاتّفاق من أيٍّ من طرفيها، وهذه القراءة التحليلية لا يعنيها التنبؤ بمستقبل وقف إطلاق النار في لبنان، وهي تركز على استبيان الرؤية الحاكمة للعدو تجاه هذا البلد العربي؛ باعتبَارها القوة الدافعة للصهاينة اليوم وغداً، أَو قبل وَبعد الاتّفاق، أَو في الماضي والحاضر وَالمستقبل.

 

لبنان موطنُ قبيلة أشير:

لبنان في السردية اليهودية، موطن قبيلة أشير ثامن أبناء نبي الله يعقوب، ومع كُـلّ عدوان يُشن عليه من قبل العدوّ الإسرائيلي، يحتدم التبشير بشكل ملحوظ في الأوساط الصهيونية باقتراب تحقّق جزء من الوعد التوراتي المُدعى تجاه الأرض العربية بين نهرَي النيل والفرات، وتتردّد مقولات من مثل “لبنان جزء من أرض “إسرائيل” الموعودة التي سيعيدها الله إلى “إسرائيل” قريباً” وكما كُـلّ مرة سارع الصهاينة مع العدوان الأخير على لبنان إلى الاستشهاد بما يصفونها آيات تؤكّـد أن لبنان يقع ضمن حدود “إسرائيل” وَتلزم الإسرائيليين دينيًّا بغزو لبنان، مع التشديد على أهميّة فهم رسائل التوراة المتجاوزة للتاريخ، بما تحمل من رسائل عميقة، من الممكن الاستفادة منها في الأحداث الجارية، كما يزعمون، وثمة الكثير مما ينسبه الصهاينة إلى الكتب وَالصحف المقدسة، وجميعها تحث على احتلال لبنان واستيطانه، ومما يتم ترويجه في هذا السياق وينسب لسفر التثنية الآتي: “كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ، مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ، مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إلى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ” وَأَيْـضًا ينسب لسفر التثنية: “تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا وَادْخُلُوا جَبَلَ الأَمُورِيينَ وَكُلَّ مَا يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبَةِ وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ، أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّ وَلُبْنَانَ إلى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَات”، وثمة نماذج أُخرى تحكم رؤية العدوّ تجاه لبنان ولكن تنسب لسفر يوشع مثل: “مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ هذَا إلى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ، جَمِيعِ أَرْضِ الْحِثِّيِّينَ، وَإِلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ نَحْوَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يَكُونُ تُخْمُكُمْ”.

أما من سفر إشعيا فيتردّد على ألسنة الصهاينة الآتي: “ستفرح البرية والبادية ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس ويبتهج ويرنم طربًا، مجد لبنان أُعطي له، شدوا الأيدي المسترخية وثبتوا الركب المرتجفة، قولوا لخائفي القلوب، تشدّدوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الانتقام قادم”.

 

الانتصارُ على لبنان يُمهِّدُ لقدوم المسيح:

والصهاينة لا يقدمون ما سبق كموروث ديني مُجَـرّد، بل يسعون لتنفيذه بكل سبيل ويكرّرون الإعلان عن ذلك بشكل دائم، كما أن هناك جهات يوكل إليها استمرارية الترويج لهذه الأساطير بوصفها توجيهات.

واللافت أن ما يسمى بحركة “غوش إيمونيم” تتولى كبر استهداف لبنان، وهي حركة صهيونية لعبت دوراً في التوسع اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة، بتأييد واضح من كبار مجرمي الحرب الصهاينة، وَهي ترى ضرورة الاستيطان في كُـلّ موقع من أرض “إسرائيل” الموعودة حتى لا يتم الاستيلاء عليها من الغرباء -في إشارة إلى العرب أهل الأرض- ومذ ثمانينيات القرن الماضي روجت “غوش إيمونيم” لفكرة الاستيلاء على لبنان أَو ما تصفُه بالعودة إلى وطن قبيلة أشير ثامن أبناء النبي يعقوب، بحسب العقيدة اليهودية.

حلقة أُخرى ضمن هذا النشاط يتولاها من تُسند لهم مهمة التخصص فيما يوصف بجغرافيا الكتاب المقدس، منهم على سبيل المثال “يوؤال إليتزور”، هذا الصهيوني له حكاية تعود لفترة كان فيها قاتلاً ميدانيًّا ضمن قوات المشاة في غزو لبنان الأول عام 1982 يقول: إنه انبهر حينذاك بالمناظر الطبيعية الخلابة في لبنان وتذكر شوق موسى في العهد القديم لرؤية لبنان وبعد أن زحفت قوات المشاة على طول وادي البقاع، وجد حبات تين لذيذة، فقرّر أن يُردّد قبل أن يأكل التِّين دعاء يُقرأ على الأطعمة المنتمية لأرض “إسرائيل” وَليس ما يُقرأ عند الإمساك بالأطعمة الأجنبية، ذلك أن تين لبنان بالنسبة له فاكهته المستحقة.

على أن ما يستوقفَ بعضَ المختصين بشؤون العدوّ الإسرائيلي هو حجم شعبيّة ورواج أفكار التوسع وَتعجيل نهاية التاريخ وَقدوم المسيح كيما يخلف مُجرِمُ الحرب نتنياهو!، مشاهير الحاخامات على يوتيوب يقنعون جماهيرهم العريضة أن الحرب الحالية هي آخر حرب قبل مجيء المسيح؛ فالآن “قد منح الله الجيل الإسرائيلي الحالي القدرة على أن يتلقى الهدية مرة أُخرى ويغزو الأرض ويستوطنها” وفق تعبير الحاخام إسحاق جينسبيرج، المنشور في صحيفة جيروزاليم بوست الصهيونية وغيرها، ووفقًا لها فَــإنَّ حاخامات آخرين صاروا يردّدون نفس النغمة ويقولون إن الانتصار على لبنان سيرسُمُ طريقًا جديدًا لقدومِ المسيح.

هذا التبشيرُ ينطلقُ من أمريكا أَيْـضًا، وقد شهدت قبيل أن يتوصل لاتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان مؤتمراً لحركةٍ تُدعى “أوري تسافون” ناقش سُبُلَ الاستيطان الناجحة في لبنان، وهذه الحركة تتخذ رمزاً لها الهالك “إسرائيل سوكول” أحد العناصر الصهيونية الصريعة في قطاع غزة مطلع 2024، ذلك أن هذا الصريع كان يحلم أن يستوطن لبنان وأن يعيش في ذلك البلد الأخضر في الصيف والأبيض في الشتاء، وبالتالي فَــإنَّ مهمة “أوري تسافون” هي إحياء حُلم الصريع الراحل.

في الأراضي الفلسطينية المحتلّة نفسها كان قد نشب نقاش مفتوح في أوساط العدوّ حول أين ينبغي أن “تقع الحدود الشمالية لأرض “إسرائيل” دينيًّا وَهل “إسرائيل” ملزمة بغزو ما يتضمنها الوعدُ الإلهي من مناطق لـ “إسرائيل” أم أن تلك المناطق تعد خارجَ حدود إسرائيل” في إشارة إلى لبنان، لا بل وذهب النقاشُ بعيدًا فبحث كيفيةَ التعامل مع الأراضي الزراعية في تلك الأراضي التوراتية في حال غزوها، وَهكذا تكثُرُ شواهدُ عدةٌ أن لبنان لن تكونَ هي فقط الهدفَ التالي للعدو الإسرائيلي، بل يمتدُّ الطموحُ للأراضي المشمولة بآخر خرائط نشرتها مواقعُ العدوّ الرسمية، وهي تَضُمُّ إلى جانبِ فلسطينَ التاريخية الأردنَ وسوريا ولبنان، ولا يمكن أن نعزِلَ عن هذه الخرائط المُتخيلة لـ “إسرائيل” حالةُ توسيع السيطرة على جنوب لبنان بعد اتّفاق وقف إطلاق النار ومقدمات ومؤشرات عدمِ الانسحاب منه بعد مُهلة الستين يومًا المحدّدة.

وحتى لا يقعَ لبنانُ ضحيةً من جديد لنصوصِ العهد القديم والتوراة… وإلخ، المعاد استدعاؤها صهيونيًّا ليس أمام الشعب اللبناني سوى خيار واحد هو المواجَهة المفتوحة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com