متى يُفصِحُ العربُ عن فصاحتِهم؟!

الشيخ علي حمادي العاملي

تدهشُنا العديدُ من اللُّغات حول العالم. هناك لُغاتٌ فيها موسيقى تظنُّ أن الشعوبَ الناطقةَ بها تغنّي، وهناك لغاتٌ سهلةٌ حفظنا بعضَ كلماتها من الأفلام والمسلسلات، وهناك لغاتٌ ثقيلةٌ وصعبة، وبعضُها كثيرة الحروف حتى أن أول ما يخطر على ذهنك مثلًا كيف أنّ طفلًا صينيًّا سيحفظُ أكثرَ من 500 حرف أَو بتعبير أدق أكثر من 500 شكل، كُـلّ منها يرمز إلى مقطع صوتي، أَو تتحيّر كيف سيجدون حاسوبًا تتّسع لوحة مفاتيحه لكل تلك الحروف!!

كلامي ليس عن اللغة الصينية ولو أنها جذّابة للتعرف عليها خُصُوصًا مع ريادة الصين اليوم وبروزها في النظام العالمي الجديد، ولكن حديثي عن اللغة التي لا تنفكّ تدهشنا بل تسحرنا، لا في الحرف والتركيب والموسيقى، أَو الغزارة في الجذور والمفردات فحسب… إن الغوص في بحر الضاد يجعلك تتساءل عن العقل العبقري الذي أبدع وعاءً يحمل وحيًّا عجزت عن حمله الجبال ومنبعًا للفكر والإبداع في كُـلّ زمان وفي شتّى العلوم! أي عبقريّ؟!

يقول د. جورج سارتون: “وهب الله اللغة العربية مرونةً جعلتها قادرةً على أن تدوّن الوحي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تعبّر عنه بعباراتٍ عليها طلاوة وفيها متانة”.

جذبَتْ هذه اللغة الحسناء الأعاجمَ قديمًا وحديثًا، ولم يقتصر الخوض في أبواب سحرها على الناطقين بها، فقد ورد الكثيرون إلى نهرها ليَبلُّوا الصّدى من “قطر الندى”، وعرجَ الذوّاقون على زهورها ليرشفوا من رحقيها، فهذا “سيبويه” الفارسي يترك “رائحة التفاح” وينجذب إلى شذا اللغة فينحو نحوها بطريق الإبداع. وجاء كشّافُ الزمخشري يكشف عن “أَسَاس بلاغتها” وبعض روعتها. والعشاق والعرفاء يدخلون حانتها ليسكروا من خمرها كما فعل “لسان الغيب” الشيرازي.

صحيح أن اللغة العربية هي من بين أكثر ست لغات انتشارا عالميًّا، ولها قداستها عند المسلمين؛ باعتبَار أنها لغة الوحي، وقد تركت أثرًا كَبيرًا في لغات عديدة كالفارسية والتركية وغيرهما، ونقلت معارف وفلسفة وعلومًا من اليونان إلى أُورُوبا في عصر النهضة، وسادت لقرون من الزمن، إلا أنها بدأت تتراجع؛ بسَببِ عوامل عديدة، حتى اتهمها بعضهم زورًا أَو جهلًا بأنها لا تواكب روح العصر.

الاستعمار كان العامل الأبرز رغم أن طبيعة العربية لغة “مقاوِمة”، صمدت في وجه الفرنكفونية كما يعترف المستعمِر نفسُه، فهذا المستشرق الفرنسي لوي ماسنيون يقول: “العربية لغة التأمل الداخلي، مجعولة كي يتذوق أصحابها مقصدًا إلهيًّا، ولها قدرة خَاصَّة على التجريد والنزوع إلى الكلية والشمول، لغة الغيب والإيحاء تعبر بجمل قصيرة مركزة عما لا تستطيع اللغات الأُخرى التعبير عنه إلا في جمل طويلة فضفاضة”. لا شكّ أن لغتنا الغنية حافظت على تراثها، ولكن ربما ضعفت بعض الشيء خُصُوصًا مع تغرّب الكثير من النخب العربية، واستخدامهم للغات الأجنبية. ومن العوامل أَيْـضًا مسألة العامّية واللهجات المحلّية على حساب الفصحى. ولكن العامل الأَسَاس في رأيي هو ضعف الإنسان العربي وتراجع حضوره في الساحة العالمية فتبع ذلك بطبيعة الحال تراجع اللغة حضورًا. هناك من العرب من يخجلون بلغتهم التي حيّرت المستشرقين ممن استعمروا أرضنا حتى رآها بعضهم أنها لغة خالدة، وأنها لغة المستقبل.

في لبنان، حَيثُ ينفي أبناء الوطن الواحد أيَّ تشابه بينهم، وسادت في السنوات الماضية شعاراتُ “ما بتشبهونا” بين مدرسة فينيقية فرنكفونية مسيحية، وأُخرى إسلامية من شبه الجزيرة العربية، هنا تعيش الضاد أزمة كبيرة سواء في المجتمع بشكل عام، حَيثُ أغلب الناس يكتبون العربية على هواتفهم بحروف أجنبية، ويتحدثون بالأجنبية أَو لغة الخليط وهي جمل عربية مطعّمة بكلمات أجنبية أَو العكس وكأنه تنقصنا المفردات، أم في المدارس بشكل خاص، حَيثُ يعدّها الكثير من التلاميذ لغة ثانوية لا يلتفتون لأهميتها، ولا يعرفون عن سحرها وجمالها سوى ما يطفو على سطح الكتب القديمة والمناهج العقيمة، والمسابقات غالبًا تتجه نحو العناوين العملية والرياضة والمختبر وقلّما نجد مسابقة أَو نشاطًا يتمحور حول اللغة كما كان يحصل في الماضي سواء في الشعر حفظًا وارتجالًا وإلقاءً أم في مسابقات أدبية تعمّق العلاقة مع أبجد هوّز..

وإذا أردنا شاهدًا “ميتًا” على معاناة الأبجدية يكفي أن نشاهدَ جلسةً واحدة لمجلس النواب أَو تصريحًا لبعض السياسيين.. عددٌ من هؤلاء لم يدمّـر اقتصادَ الوطن فقط، بل يسعى لتدمير العربية بحيثُ إنه كما يقالُ في مجتمعنا: لو سمعه “سيبويه” لانتحر.

يأتي يوم اللغة العربية في كانون الأول من كُـلّ عام ربما فرصةً لإعادة رسم الهوية الوطنية المشتركة أولًا، ولإعادة التفكير والتخطيط لآليات تساعد في نشر عظمة اللغة وتعريف العالم على فرادتها وثرائها وغناها بالمعاني والبديع والنحو والبلاغة ووو. وإحياء استخدامها في المدارس والمحافل والمجتمع ونشرات الأخبار وفي بلاد الاغتراب وُصُـولًا إلى إعادتها إلى مكانها الطبيعي في مصافِّ العالمية.. إنها لسانُ آدم وحواء، حينَ عُلّمَ الأسماء.. إنها لغة السماء.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com