الوداع الأخير لسيد الشهداء.. غيابُ الجسد وحضورُ الروح

صفاء المتوكل

في ليلة حالكة من ليالي محور المقاومة ارتفعت روح القائد السيد حسن نصر الله، إلى بارئها تاركة خلفها فراغًا لا يملأه سوى التزامنا بوصاياه وعزيمتنا على مواصلة درب المقاومة الذي خطّه بدماء الشهداء وكلماته التي كانت ترعب الأعداء وتبث الطمأنينة في قلوب الأحرار، لم يكن رحيله حدثًا عاديًّا بل كان زلزالًا ضرب أركان الأحرار والمقاومين وجعل الخصوم يتخبطون بين فرحٍ ظاهر ورعبٍ خفي؛ لأَنَّهم يعلمون أن القادة العظماء لا يموتون بل يتحولون إلى أُسطورة تتناقلها الأجيال.

السيد حسن نصر الله القائد الذي هز العروش منذ أن حمل راية المقاومة، لم يكن السيد حسن مُجَـرّد زعيم لحزب الله، بل كان قائدًا استثنائيًّا تجاوز حدود الطائفة والجغرافيا ليصبح رمزًا عالميًّا للمقاومة في وجه الاستكبار العالمي والصهيونية، خطابه لم يكن مُجَـرّد كلمات بل كان نبوءة تتحقّق ووعودًا تصدق ورؤية استراتيجية استبقت الزمن وأربكت الخصوم.

لقد صنع توازن رعبٍ لم يكن متخيَّلًا يومًا بين مقاومة شعبيّة وإحدى أقوى الجيوش في العالم وجعل الكيان الإسرائيلي يعيد حساباته في كُـلّ معركة من التحرير عام 2000 إلى انتصار تموز 2006 وُصُـولًا إلى حرب غزة 2023 حيثُ كان صوته الحاضر الغائب في المعركة يزلزل الأرض تحت أقدام الصهاينة ببياناته وخطاباته.

الوداع الصعب: دموع الرجال وصمود المقاومين وَليس سهلًا على المقاومة أن تودّع قائدها الذي كان ملهمها وسندها، لكن كما كان يقول دائمًا: “دماؤنا ليست أغلى من دماء الشهداء”، فقد رحل السيد كما أراد شهيدًا في طريق المقاومة ليؤكّـد أن القادة الحقيقيين لا يموتون على الفراش بل يسيرون على خطى الحسين وزين العابدين.

مشاهد التشييع المنتظر لن تكون مُجَـرّد وداع بل ستكون تجديدًا للبيعة وستثبت أن محور المقاومة لا يرتبط بأشخاص بل بمشروع ممتد، وإن غاب قائد فهناك ألف قائد سيكملون الطريق، ستتردّد في الشوارع هتافات الولاء، وستُرفع صوره إلى جانب صور عماد مغنية وقاسم سليماني ويحيى السنوار وكلّ قادة المحور الذين رسموا بدمائهم خارطة العزة والكرامة.

ماذا بعد نصر الله؟

يراهن العدوّ على أن غياب السيد حسن نصر الله سيضعف المقاومة لكنه لا يدرك أن نصر الله لم يكن فردًا بل مدرسة وأن فكره سيبقى حيًّا في كُـلّ مقاوم وأن وصاياه ستتحول إلى منهج لكل حرٍّ يرفض الذل، لقد ترك خلفه مؤسّسة عسكرية وسياسية متماسكة ونهجًا عقائديًّا يستحيل اقتلاعه، وجمهورًا مؤمنًا بأن الصراع مع العدوّ ليس معركة تنتهي، بل هو قدرٌ يستمر حتى النصر أَو الشهادة.

إذا كان العدوّ قد ظن أنه بقتل القادة سينهي المقاومة؛ فقد أثبت التاريخ عكس ذلك، من استشهاد السيد عباس الموسوي إلى استشهاد سليماني والمقاومة تزداد صلابة ومع كُـلّ دم يُسفك تُولد ألف راية جديدة.

عروج القائد وبقاء المسيرة، لم يكن نصر الله زعيمًا عابرًا، بل كان مشروعًا مقاومًا متكاملًا وقائدًا استثنائيًّا، جعل الأعداء يحسبون له ألف حساب في حياته وسيرعبهم أكثر بعد استشهاده، اليوم ونحن نودّع الجسد نُدرك أن روحه باقية وأن صدى كلماته سيظل محفورًا في عقول المقاومين، وأن وعده بالنصر لن يموت بل سيتحقّق يومًا ما عندما تُرفع رايات المقاومة فوق أسوار القدس وحينها فقط سيكون الوداع الأخير، ولكن ليس لفارسٍ رحل بل لزمن الاحتلال الذي وعدنا نصر الله بزواله.

سيدي.. كيف لنا أن نودّعك؟

أيها السيد العظيم، يا من كنت لنا القائد والأب والسند، يا من كانت كلماتك تمسح عن قلوبنا الخوف وتزرع في أرواحنا الصبر والثبات، كيف لنا أن نودّعك ونحن لم نتصوّر يومًا أن يأتي هذا الفراق.

سيدي، رحلتَ عنا ولم تأخذ من الدنيا شيئًا إلا ذلك القلب الذي حمل همّ الأُمَّــة، وذلك الصوت الذي صدح بالحق، وذلك الجسد الذي أنهكه الجهاد والسهر في سبيل المقاومة، كنتَ لنا الروح التي تحَرّك عزائمنا والبوصلة التي تهدينا والعهد الذي لا ينكسر.

سيدي، كم حلمنا أن نكون خلفك في يوم النصر الأكبر، أن نسمع منك تكبيرات التحرير في المسجد الأقصى، أن نرى دموعك فرحًا بعد صبرٍ طويل، لكن ها نحن اليوم نبحث عنك بين الدموع والحسرات، نسمع صوتك يتردّد في آذاننا ونشمّ عطرك في رايات المجد التي رفعتها ونبكيك بحرقةٍ لا توصف.

سيدي، لم يكن رحيلك مُجَـرّد فاجعة، بل كان زلزالًا ضرب قلوبنا، وكان ليلًا حالكًا أطفأ نورًا اعتدنا أن يضيء دروبنا، كأن السماء بكت مع بكائنا، وكأن الأرض ارتجفت حين فاضت روحك إلى بارئها، وكأن الكون كله صمت حزنًا على فراقك.

لكن لا لن نقول إنك غادرتنا فأنت باقٍ فينا في حناجر المقاومين، في صواريخ العزة، في خطوات المجاهدين، في كُـلّ طفل تربّى على كلماتك، وفي كُـلّ دمعة وداع تحوّلت إلى قسم بالثأر والنصر.

سيدي، نعدك بأننا سنكمل الطريق، سنحمل الراية التي لم تسقط من يدك، وسنكون أوفياء لدمك الطاهر فسرْ مطمئنًا إلى جوار ربّك قرير العين فها نحن على العهد، حتى يوم اللقاء، حَيثُ لا وداع بعده إلا وداع الاحتلال وزواله إلى الأبد، سلام الله عليك وعلى روحك الطاهرة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com