قمة “غزة” العربية في “القاهرة”: دعم الإعمار.. لا للتهجير.. نعم للوصاية
المسيرة | عبد القوي السباعي
مرةً أُخرى، يعاد طرحُ السيناريو ذاته ولكن بوجوهٍ مختلفة، “ترامب” يقترحُ تهجيرَ الفلسطينيين، والدول العربية ترفض، لكنها في الوقت ذاته تبحث عن صيغةٍ مقبولة دوليًّا لإدارة غزة؛ بمعنى آخرَ: رفض للتهجير وقبول بما هو أبشع، الوصاية على غزة تمهيدًا لتصفية القضية برمتها.
وفي مشهدٍ دراماتيكي لم يكن غريبًا على المطلع العربي المدرك لحقائق الأمور؛ انطلقت القمة العربية الطارئة في العاصمة المصرية القاهرة، الثلاثاء، بشأن تطورات القضية الفلسطينية ومناقشة الخطة العربية-المصرية المتعلقة بقطاع غزة والمدعومة أمريكيًّا.
هذه القمة تأتي في سياق مشهد عربي تطغى عليه الفوضى والكآبة؛ تعبيرًا عن قلق يصل حَــدَّ الخوف وفقدان الثقة بزعاماته المتربعة على عروش الأنظمة، في ظل توحش الاحتلال الإسرائيلي بطبيعته، وليس نتيجة أحداث الـ 7 من أُكتوبر؛ بل هو امتداد لمسار بدأ منذ اليوم الأول للاحتلال وانتهاء بانهيار كامل الاتّفاقيات الموقعة معه.
في هذا التقرير نحاول سبر أغوار الأحداث المتصلة بالصراع العربي الصهيوني، وعكسها على نتائج الواقع، وكلما توغلنا أكثر تبين لنا أن اللوبي الصهيوني داخل المنطقة العربية هو من يغذِّي حالة التنافر والصراع البيني؛ فالانقسام الفلسطيني يعزز تقدمه، ما يجعل الواقع أكثر هشاشة، وكيان الاحتلال يستغل هذا الضعف، كما في لبنان الجريحة وسوريا المنهكة، ويواصل توسيع نفوذه دون الحاجة لذرائعَ جديدة.
تهجير فلسطيني واحد إلى أراضيهم بمثابة إعلان حرب:
في المقابل؛ يستأسد القادة والزعماء العرب بعنتريات رفض التهجير، ويحشدون الناس والإعلام للهتاف بأعلى الحناجر الغاضبة، أن “تهجير فلسطيني واحد إلى أراضيهم بمثابة إعلان حرب”، وبحسب مراقبين، فهؤلاء الزعماء لا يجدون حرجًا في تجويع الفلسطينيين وإغلاق المعابر ومنع المساعدات، ولا ضير إن ماتوا جوعى محاصَرين؛ لكن بعيدًا عن الحدود.
وفي سياق القمة، أشاد رئيس السلطة الفلسطينية، “محمود عباس”، بالخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، داعيًا الرئيس الأمريكي “ترامب”، إلى “المشاركة فيها، ودعم جهود الإعمار على أَسَاس عدم تهجير شعبنا في غزة”.
وقدّم “عباس” الرؤية التي من المفترض أن تكون فلسطينية”، موضحًا أنّها تقوم على تولي السلطة مهامها في غزة من خلال مؤسّساتها الحكومية، وعلى اعتماد الخطة المصرية وإنجاح المؤتمر الدولي لإعادة الإعمار الذي ستستضيفه مصر الشهر المقبل.
ويرى مراقبون أن الخطة العربية التي أعدت في الغرف المغلقة يبدو أنها جاءت لتزيح حماس من المشهد، وتحاول العودة بغزة إلى زمن ما قبل “أوسلو”، بشرعيةٍ جديدة، غير أن الحسابات السياسية وخططها المعلَنة، لم تأخذ في الحسبان ما يريده أهل غزة ومقاوموها، الذين قاوموا أعتى الحروب؛ فالتحدياتُ الماثلة اليوم صعبةً أمام جميع الأطراف.
مصر: تشكيلُ لجنة من المستقلين لإدارة غزة
وفيما تسعى الولايات المتحدة و”إسرائيل” لإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالحهما الاستراتيجية، بما يشمل ضَمَّ مناطقَ، وتهجير قسري، وتصفية القضية الفلسطينية، تُعتبر مخطّطات التوطين والتهجير في لبنان ومصر والأردن، وفرض ترتيبات سياسية أمنية في سوريا، جُزءًا من هذا المشروع.
وبحسب مراقبين، فهناك غياب للإرادَة السياسية العربية لمواجهة هذه المخطّطات، مع اعتماد بعض الدول على التطبيع أَو التوازن مع الولايات المتحدة، في ظل غياب استراتيجية عربية متماسكة تعزز الوحدة العربية أَو حتى المبادرة في ترتيب وترسخ الوحدة الداخلية للبيت الفلسطيني، بدلًا عن السعي لتوسيع شروخه فيمن هو ممثل شرعي وحيد.
وفي السياق؛ وخلال “قمة غزة”، أكّـد الرئيس المصري، “عبد الفتاح السيسي”، العمل مع الفلسطينيين على تشكيل لجنة من المستقلين لإدارة قطاع غزة، مُشيرًا إلى أنّ لجنة إعمار قطاع غزة ستكون مسؤولة عن إدارة شؤونه “تمهيدًا لعودة السلطة الفلسطينية”.
وَأَضَـافَ، أنّ “مصر تعكف على تدريب الكوادر الفلسطينية الأمنية التي ستتولى الأمن في القطاع خلال المرحلة المقبلة”، لافتًا إلى أنّ “خطة بلاده تضمن بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه وإعادة بنائها، داعيًا إلى اعتمادها”.
وبشأن “اتّفاقية السلام” (كامب ديفيد عام 1978م) بين مصر و”إسرائيل”، رأى “السيسي” أنّها “نموذج يُحتذَى به لتحويل حالة الحرب إلى سلام ورخاء”.
رفض التهجير ومنع دخول المساعدات إلى غزة:
وفي الإطار، الخطوة الإسرائيلية المتمثلة بإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات، لا تستوي مع فكرةِ الذهاب إلى الحرب بشكلٍ مفاجئ، في بيئةٍ لا تساعد على سرعة انتشار الجيش الصهيوني مرةً أُخرى، خَاصَّة وأن من جرَّبوا الموت في الخيام لن يخافوا من الموت في بقايا البوت.
وهو ما دعا إليه الرئيس العراقي، “عبد اللطيف رشيد”، في تحَرّك عاجل لإعادة إعمار قطاع غزة وإنشاء صندوق لهذا الغرض، معربًا عن الدعم القوي للخطة المطروحة في هذه القمة فيما يخص “إعادة إعمار القطاع”، رافضًا بشدة أية محاولة لإيجاد مكان بديل للفلسطينيين خارج أراضيهم، محذرًا من المشاريع التي وصفها بـ “الكارثية” والتي تستهدف تصفية القضية.
من جانبه، شدّد الرئيس الموريتاني، “محمد ولد الغزواني”، على العمل؛ مِن أجلِ تثبيت اتّفاق وقف إطلاق النار في غزة وتنفيذ كافة بنوده ومراحله، وعلى “العمل على إقرار حَـلّ الدولتين كشرط أَسَاسي للسلام في المنطقة”.
ورفض الملك الأردني، عبد الله الثاني، بدوره؛ قرار “إسرائيل” منع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، مؤكّـدًا أنّ ذلك يخالف القانون الدولي، وأية مشاريع تهجير للفلسطينيين، مُعلنًا ندعم خطة إعادة إعمار غزة، و”جهود السلطة الفلسطينية في الإصلاح وإعداد تصور قابل للتنفيذ حول إدارة غزة وربطها في الضفة الغربية”.
أمّا ملك البحرين “حمد بن عيسى آل خليفة” فقد أعرب عن رفض كُـلّ مشاريع تهجير الفلسطينيين وندعم الخطة المصرية لغزة.
الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو غوتيريش”، قال في القمة: إنّ “الفلسطينيين تنفسوا الصعداء خلال المرحلة الأولى من اتّفاق وقف إطلاق النار، ويجب أن نمنع بكل الطرق استئناف القتال”، مؤكّـدًا على الحاجة إلى إطار سياسي لإعادة إعمار قطاع غزة وفق مبادئ القانون الدولي، مشدّدًا على جعل غزة يجب جزءًا من الدولة الفلسطينية من دون اقتطاع أي جزء منها.
خلاصة متابعة تفاصيل القمة ومخرجاتها:
في السياق؛ يرى مراقبون أن سياسة “ترامب” في ولايته الثانية قد تختلف، مستدلين بدعوته لوقف حرب غزة، لكن تصريحاته تنفي ذلك؛ إذ يربط وقف الحرب بإطلاق الأسرى الصهاينة فقط، ثم يترك لـ “إسرائيل” حريةَ التصرف في غزة والضفة، مؤكّـدًا أن “هذه ليست حربنا”، كما أظهر تأييدَه لضم أجزاء من الضفة، مُشيرًا إلى “صغر مساحة إسرائيل مقارنة بالدول العربية”.
وبحسب مراقبين؛ فَــإنَّ القمة العربية انعقدت وسطَ استمرار الصراعات التي تستنزف العمل العربي دون تحقيق حماية حقيقية للحقوق الفلسطينية، وباتت أن القضية الفلسطينية تفرضُ نفسَها رغم محاولات تهميشها، لكن الإجماع العربي لا يخدمها ولا يسير وفق ما يطمح إليه أبناء فلسطين.
وفي قراءةٍ تحليلية للبيان الختامي للقمة ومخرجاته، يؤكّـد مراقبون أن الموقفَ العربي يتحدّد وفق المصالح القطرية لكل دولة على حدة، مع الانحياز التام لسياسات “واشنطن”، بل إن بعض الأنظمة تضع شروطًا لإعادة إعمار غزة، متبنية ذرائعَ تتماهى مع أهداف الاحتلال.
في المقابل، يظهر جليًّا وبشكلٍ ملحوظ أن تلك الأنظمة مستعدة لإنفاق المليارات لتوسيع نفوذها في دولٍ عربيةٍ أُخرى، وعلى حساب القضية الفلسطينية وفق مصالحها؛ كونهم لن يتحَرّكوا إلا إذَا مسَّتهم النيران، وبالتالي يرى مراقبون أنه بات من الأفضل أن يتركوا الفلسطينيين يقرّرون مصيرهم، بأنفسهم.
وحين يدفع العدوّ باتّجاه صفقة مؤقتة ينتزع فيها نصفَ عدد الأسرى مقابل بضعة أسابيع من الهدوء وحفنة شاحنات من الطعام دون إحداث تغيير جوهري في المسألة السياسية أَو وضعية الحرب وانتشار قواته، وهذا لا يعني حَلًّا لمشكلة الحرب، وإنما ترحيلًا لها، لكنه يكسبه وقتًا، ويحقّق له إنجازًا بعودة جزء من أسراه، ويحرم المقاومة من نصف أوراق قوتها، وهذا ما ترفضه المقاومة رفضًا قاطعًا، سواءً قبل القمة أَو بعدها.
وبحسب مراقبين، فَــإنَّ المقاومة في غزة بلغت من الرشد السياسي ما يمكّنها من التعامل مع كُـلّ المتغيرات المتسارعة بما يشبه القفزَ فوق رؤوس الثعابين، فبيان القمة العربية لا يقبل كله كما لا يرفض كله، والمؤكّـد أن لها ملاحظات وتعديلات لكنها آثرت الإعلانَ عن ترحيبِها لبيان القمة الختامي وضرورة تنفيذ مخرجاته، وفضَّلت أن يأتي الرفضُ الكلي من العدوّ وهو ما كان.
وعليه؛ فالقادة العرب اليوم أمام قاعدة تفاوض صهيونية “إما الأسرى أَو الجحيم”، وبما تمثله هذه الورقة من أهميّة على حساب التاريخ ومستقبل الأُمَّــة؛ فَــإنَّ التفريط بالقضية ليس سينقل المقاومة إلى مربع ضعيف جِـدًّا، بل تصبح الأُمَّــة أمام العدوّ خاضعة لمعادلة نزع السلاح من الكل أَو التهجير والإبادة للجميع.