اليمن.. حكمة وصواريخ
منصر هذيلي*
يمكن أن نقول في اليمن إنّه ذلك السّهل المُمتنع أَو نقول هو البسيط المُعقّد. خلال سنوات البحث الطويلة كنت أسأل دائمًا عن طبيعة الحقيقة إذَا كانت هناك حقيقة. هل تكون بسيطة أم هي بالضرورة معقّدة مركّبة متشعّبة عصيّة وربّما أَيْـضًا مُستحيلة. قد يكون السبب في ظنّنا أنّ الحقيقة عسيرة مُرتبطا بنظام إدراكنا ونظام معرفتنا. القرآن الكريم يستعرض يقينيات كبرى ويفصّل في كُـلّ الحقائق ولكنّه يعتمد لذلك صورا بسيطة جِـدًّا. يحيلنا مثلا على الحياة والموت وعلى الليل والنهار والظلمة والنور. يحدّثنا عن الإبل والخيل والنحل والنمل ويصف حال الأرض قبل ماء المزن وبعده. هذا من البساطة ومن السّهل. ولكنّ القرآن وهو يخاطبنا هكذا يستدعينا إلى منهج إدراك وفهم سهل وبسيط. إذَا كان نظام إدراكنا يقوم على التّعسير والتّعقيد فسنسخر ممّا يعتمد القرآن لإقناعنا أَو هدايتنا. نحن ننتظر دائمًا الحقيقة البعيدة وهو يقول “وفي أنفسكم”. نحن نجادل ونجادل ونجادل “وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا” وهو يقول “أفي الله شكّ”. نحن نقرأ ونبحث ونجهد أنفسنا لنحصّل اليقين هو يقول عن اليقين أنّه يأتينا “حتّى يأتيك اليقين”. نحن نفهم البحث عن الحقيقة حركة إلى الأمام لا تهدأ وهو يقول أنّ الحقيقة ما تركنا خلفنا بالنسيان وأنّ الحلّ في ذكرى وتذكّر. وكأنّ عقل الإنسان (جملة ما يعتمده للإدراك) فاتح ضرورة على ممكنين: ممكن تبسيط فاتح على الحقّ أَو الله وممكن تعقيد فاتح على الشيطان (هنا صورة الجهل أَو الغفلة). لا أعتقد أنّ المرء إذَا اعتمد التّعقيد منهجًا يُصادف الإيمان. إذَا قال مثلا إنّه إذَا قرأ ألف كتاب وجالس ألف شيخ سيبلغ الإيمان. هذا الكمّ كتبا وشيوخا سيُغرقه في التعقيد أكثر فإذا غرق فسيضيّعُ البسيط. إذَا كان الإيمان هو الحقيقة الكونية والوجودية والمعنويّة الكبرى لا يُمكن أن يكون عسيرا ومركّبا ومعقّدا.
وعليه فالخلل ليس في الإيمان ولا في الله الذي يُحبّ أن يُعرفَ وليس ساديًّا ليجعل شرط معرفته ضنى وتبرّم ويأس. ما يحصل أنّنا نتركّب (تركّبنا بيئتنا) نفسيًّا وذهنيًّا ومعرفيًّا لننظر بعيدًا والله قريب. هدم هذا التّركيب يغيّرنا كَثيرًا ولا شكّ والجهد الحقيقي والذي يُفترض أن نكون باذلين له هو ذلك الجهد الذي يأخذنا إلى إعادة التّركيب. مرّات أقرأ كتابا يستعرض صاحبه كُـلّ عضلات البلاغة ويستدعي كُـلّ الحجج ويستشهد بعشرات الفلاسفة والمفكّرين فأسأل عن خلاصة الحديث أَو زبدته فلا أجد خلاصة ولا أجد زبدة. كُـلّ الأمر أنّ صاحب الكتاب يعيد إنتاج تعقيد بُرمج عليه ونال بفضله شهادة وترقّى وتوظّف واشتهر. في القرآن الكريم حديث عن الكتاب والحكمة، حديثا عنهما وصلا ولكن بعد فصل. الأنبياء يعلّمون الكتاب والحكمة. لا جرأة لي على تفسير القرآن ولكنني أعتقد أنّ الكتاب متن وأنّ الحكمة منهج. الحكمة من الحكم، على الأقل اشتقاقًا، أَو أنّ الحكم من الحكمة. الحكمة ما بها يُحكمُ الكتاب. كتاب من دون حكمة يأخذ قارئه إلى غير ما يأخذ إليه الكتاب ضرورة بل قد يأخذه إلى ضدّ ما يفترض أن يأخذ إليه. واحد مثلي، وقد تكون الأغلبية المسلمة مثلي أَو في وضعي، هل نملك الحكمة ونحن نقرأ الكتاب؟ لا أظنّ. نحن، ربّما، منذ انتقال النبيّ، كتاب بلا حكمة أَو على الأقل كتاب من دون ضمان حكمة. الكتاب مُنير ولا شكّ ولكن ماذا إذَا صادف عيونا أخذت على الظلمة؟ حينها ستُسقطُ العيون من ظلمتها على الكتاب. حتما يكون هذا، إذَا لم يكن كلّه فبعضه. “جاءكم من الله نور” هذا يطلب أهليّة نور وقدرة نور. ما علاقة هذا باليمن؟ أحسب والله أعلم أنّ اليمن مجتمع حافظ قيّاسيًّا على فطرته. لم يتمدّن كَثيرًا ولم يتحضّر كَثيرًا كما صرنا نفهم التمدّن والتحضّر. حافظ على فطرته وبساطته والفطرة بسيطة والإسلام دين الفطرة. لم يغرق اليمنيّ في ظلمة نحسبها نحن نورا. حافظ، انتظاما جمعيًّا وأعرافا وقيما وأذواقا، على بنياته القديمة والمتوارثة. لم يفهم بالتالي الله فلسفة ولم يفهمه بلاغة وخطابا. فهمه إحساسًا تلقائيًّا وفهمه قريبًا غير بعيد. هذا اليمني يقرأ القرآن وكأنّه يتنزّل عليه. ليس بينه وبين القرآن زمان. انظروا كيف يتحدّث اليمنيون على القنوات الإخبارية، حَيثُ كثير من الفهلوة والحجاج العقيم والجدل الفارغ. كلمات اليمني قليلة ومباشرة وعمليّة. لا يحتاج الله حجاجا طويلا ولا يحتاج الحقّ تبريرا وما يجب أن يكون سيكون ويمضي اليمني فيه. إذَا كان الواجب قصف بوارج أمريكا فَــإنَّه يكون وَإذَا كان الواجب قصف مطار بن غريون يكون أَيْـضًا ولا مشكلة ولا حساب ولا أخماس في أسداس. إيه هذا ليس هيّنًا. هو بسيط ولكنّه يصلنا معقّدا؛ لأَنَّنا ما عدنا ندرك إلَّا تعقيدا. يحضر اليمن مُعجزة؛ لأَنَّنا نعجز عنه، عن فهمه وعن السلوك مثله وعن استحضار الطاقة التي تحَرّكه. أبني على هذا أنّه لا وجود لمعجزة أصلا. عندما نعجز عن شيء يصبح ما نعجز عنه مُعجزا فإذا كان قلنا أنّها المُعجزة.
لا يرى اليمنيّ نفسه مُعجزا ولا يرى نفسه يأتي المُعجزات ومن حقّه، مع ذلك ولذلك، أن يرانا عاجزين ونحن كذلك. لا يُؤمن أحد بالله ويخاف غيره ولا يؤمن بالله ويطمع في غيره وهكذا إلى ما لا نهاية: الأمور بسيطة جِـدًّا وهي بساطة مُزعجة. إذَا فكّرنا فَــإنَّ جيل الإيمان الأول نظر بهذه العين وقارب بهذا العقل. عين حكمة وعقل حكمة. فكّرت كَثيرًا الليلة في “نصر الله والفتح”. سألت عن النصر والهزيمة هل ينتصر الله بنصر عمر وهل ينهزم بهزيمة زيد؟ هو فوق النصر والهزيمة وهو فوق كُـلّ الثنائيات التي تشغلنا ونتورّط فيها. المناط الرباني حقا مناط معرفي: “أحببت أن أُعرف”. نصر الله، هكذا أرى تنسيبا، أن يُخرجنا تعالى من نظام التعقيد والفتح أن يدخلنا في نظام البساطة. بعبارات أُخرى من ظلمة البعد إلى نور القرب. عندما يكون من هذا الذي يكون فينا (وعيًا ومنهج إدراك) يكون حولنا ما هو صورة ما يكون فينا. نصر المعارك من نور اليقين وهزيمتها من وسوسة الشياطين. يمن الصواريخ والمسيرات هامّ ولا شكّ ولكن يمن الحكمة والإيمان أهم بكثير. والله فعّال لما يريد.
* كاتب تونسي