الحديدة والخديعة
عبدالعزيز أبو طالب
مؤخّراً صرَّحَ الأمينُ العامُّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه يجبُ على الأمم المتحدة أن تعترفَ بدورها ومسؤوليتها عن مجزرة “سربينيتشا” البوسنية نهايةَ القرن الماضي.
لم يكُنْ ذلك مفاجئاً بالنسبة للشارع العربي والإسْلَامي الذي اعتاد على خذلان المنظمة الأممية منذ قيامها وخلال مسيرتها الطويلة، سواء مع القضية الفلسطينية أَوْ القضايا العربية الإسْلَامية، وما أكثرَها.
في 26 مارس 2015 قادت السعوديّةُ تحالفاً شن عدواناً بشعاً على اليمن، البلد الفقير الذي أنهكته الحروبُ والسياساتُ الاقتصادية الفاشلة، طال العدوانُ ليس فقطْ مراكِزَ القوّة العسكرية المتواضعة، بل شملَ جميعَ مفاصل اقتصاده الهش، بداية بالإنْسَان الذي تعرض للمجازر الوحشية، مروراً بالمنشآت الاقتصادية والمصانع التي بتدميرها انضمَّ طابور طويل من الأُسَر العاملة إلى خانة العاطلين في زمن الحرب والحصار.
اصطدم التحالُفُ العدواني بصمود الشعب اليمني وقيادته التي استطاعت أن تتكيَّفَ مع الوضع الكارثي، فوازنت بين الموارد المتناقصة باستمرار والاحتياجات المتزايدة لشعب يتعرّضُ للقتل والحصار.
على نطاق واسع يُعتقد أن النظام السعوديّ قصد من وراء هذه الحرب القذرة على اليمن أن يستعيدَ دورَه الإقْليْمي المهيمن على هذا البلد، بعدما أطاحت أحداث (ثورة) 21 سبتمبر بوكلائه في الداخل، كما هي رسالةٌ أُخْرَى إلى الدول المجاورة بأن لا تتجرّأ على مخالفة الدولة القائدة للمنطقة، وربما للعالم الإسْلَامي، لكن الانتكاسات التي مُنِيَ بها الجيشُ السعوديّ ومشاهدَ فرار جنوده وتفجير آلياته ربما عكست صورةً لا ترغَبُ بها الرياض، بينما تعتقدُ أنها صنعت من أموالها وسُمعتها تلك الصورة الصادمة.
في البحرين التي تدخّلت فيها القوات السعوديّة إلى جانب النظام القمعي هناك، كان المواطنون يصرخون في وجوه الجنود السعوديّين: “اذهبوا إلى الحوثيين الذين داسوا عليكم، واقتحموا أراضيكم”.
لم تقتصر الجهودُ السعوديّة في سبيل إركاع البلد الفقير على القوة العسكرية، بل عمدت إلى حصاره والعمل على وقف مرتّبات موظفيه، واستخدمت وسائلَ متعددةً شملت الحصار الاقتصادي ومنع الصادرات، ونقل البنك المركزي إلى عدن وتحويل السفن إلى مينائها؛ من أجل حرمان السلطة الوطنية في صنعاء من العائدات الجمارك والضرائب.
وبينما تبقى لليمن رئة واحدة يتنفس منها –ميناء الحديدة- يسعى النظام السعوديّ للسيطرة عليها تحت ذرائعَ واهيةٍ، كالادعاء بأنه يتم تهريبُ الصواريخ الإيرانية عبرها!!!، ولكن حقيقة الأمر أنها تسعى لتجفيفِ مصادر تمويل الجيش واللجان الشعبية؛ لإرغامهم على الاستسلام، أَوْ ربما تسوية مُذلة تُرضي كبرياءَ النظام السعوديّ الذي اهتزَّ بشكل صارخ على أيديهم.
ربما راهن النظامُ السعوديّ على أنه بمجرد نقل البنك المركزي إلى عدن وما نتج عنه من انقطاع المرتبات، فإن ذلك كان كافياً للضغط على السلطات في صنعاء للقبول بما أعدّه له التحالف، فكانت المبادرة الصريحة من مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ -الذي تم رفض لقائه؛ بسبب انحيازه الواضح-، تمثلت مبادرته الأخيرة في المساومة على تسليم ميناء الحديدة مقابل تسليم المرتبات، لكن وعي الشعب اليمني بمواقف الأمم المتحدة التي خذلت العربَ والمسلمين كثيراً جعلتهم لا يثقون بهذه المنظمة التي تراجعت يوماً عن إدراج التحالف السعوديّ من قائمة العار المنتهكة لحقوق الطفل تحتَ الضغط السعوديّ المعلن.
كانت تلك مبادرةُ الوسيط الأممي، مؤخّراً طرح البرلمان اليمني مبادرةً أثارت الكثيرَ من الجدل حين طالبت في أحد بنودها بوضع جميع المنافذ البرية والبحري والجوية تحت “سلطة محايدة”!!!، وبالتحديد الأمم المتحدة؛ وذلك رغبة في أن تقوم المنظمة الدولية بصرف المرتبات لموظفي هذا البلد المنكوب.
حسناً قد يكون هذا العرض مغرياً، ولكن الكثير يعتقدون أنها لن تفيَ بذلك، وإنما هو مجرد محاولة سعوديّة للضغط على الجيش اليمني ولجانه الذين يشكّلون عقبةً أمام التحالف السعوديّ لاجتياح اليمن ونشر الفوضى في عموم محافظاته، أسوةً بما فعله في عدن وغيرها من المحافظات الواقعة تحت سيطرته.
يجادل هذا الفريق بأن التحالفَ السعوديّ والأمم المتحدة على السواء لم يستطيعا الوفاءَ بتعهداتهم بصرف مرتبات الجنوب حتى بعد نقل البنك المركزي!، والاستيلاء على مبلغ 400 مليار كانت معدةً للطباعة في روسيا، وتحويل السفن التجارية إلى ميناء عدن؛ للاستفادة من العائدات الجمركية والضرائب، بل ظلت تتعذّرُ بحُجَجٍ واهية؛ للتنصل من مسؤولية صرف المرتبات.
تذهَبُ بعضُ الآراء إلى أن ثمة قراراً محسوماً سلفاً بعدم صرف المرتبات حتى لو توفرت الأموال الكافية، يتعلق هذا القرارُ بضرورة خلق حالة من الفقر تدفَعُ بالشباب العاطل إلى معسكرات التحالُف كمرتزقة، وهو الحاصلُ فعلاً في المحافظات الجنوبية وتعز التي يُدفَعُ بأبنائها إلى معارك ضد إخوتهم من أبناء بلدهم خدمةً لتحالف العدوان.
ولا تزالُ الأحداثُ والوقائعُ تدفع بالكثير من الأدلة القوية التي تزيدُ من قناعة المواطن اليمني بعدم الثقة بالتحالف السعوديّ والأمم المتحدة التي لم تستطعْ أن تجريَ تحقيقاً جديًّا في جريمة كجريمة القاعة الكبرى مطلع أغسطس من العام المنصرم.