البيت السياسي العربي ومحنة سوء التسيير
محمد لواتي
رئيسُ الولايات المتحدة الأميركية “نيكسون” استقال من منصبه؛ بسبب فضيحة التجسّس فقط على الحزب المعارِض له. ولم نسمع بمسؤول يستقيل من منصبه؛ بسبب الحرب الإجرامية (الإبَادَة الجماعية) على اليمن أَوْ سوريا وغيرهما، فضلاً عن الوباء.
إن الأخطاء تلد الأخطاء، وما دام الاختيار قائماً على الخطأ أي على حساب الرأي العام فإن الكارثة الحاصلة لا تكون الأخيرة، وأن الجثث التي تلاعبت بها الأمواج لن تكون الأخيرة أيضاً؛ لأن الشتاء السياسي يتكرّر كُلّ سنة؛ ولأن إمطار الحروب ضد الإسْلَام والمسلمين صارت كأنها قدر حاصل في كُلّ لحظة.
الشعوب العربية قد تعبت من لعبة الموت التي تمارس عليها تحت ضغط الأحداث. إذن لا يمكن بناء الدائم على الكذب كما يقول “أندري مارلو”: إن البناء الدائم لا يتم وفق آليات مستعارة وخطب تتراكم فيها الأوهام ولا تستقطب الخصائص الكبرى للأُمَّـة ولا الخصائص السياسية القائمة على مبدأ التفاعُل بين ما هو حاصل وما هو متوقّع.
إن اجترارَ الكلمات للتدليل على هشاشة الحاضر ووعي الماضي حسب منطق الوهّابية لا يعني في الواقع أية إضافة للفعل البشري. فالفعل المتعدي للمستقبل هو ذلك الفعل الذي ينشئ من الخطأ واقعاً أفضل يهم المجتمع وليس العكس. إذَا تمكّن السياسي من استقطاب هذا المفهوم وحرّر قدرة الواقع من امتياز التيار الفئوي أَوْ الطائفي -غير الأخلاقي وغير الإنساني – ولو أعطي هذا الامتياز أخلاقيات التأريخ والدين برؤية عقلية لا طائفية فيها ولا تشبّث بما هو من الفعل الجامد أَوْ المستنفد، فإنه بالتأكيد يكون الكل قد وضع خارطة الفكر السياسي في مساحتها الإنسانية. إن إتاحة الفرصة للذين يؤمنون بالوظيفة السياسية على أنها خدمة عامة وليست انغلاقاً على الذات وتسلطاً على الآخر بلا ضمير هي وحدها القادرة على فك خيوط عدم الاستقرار وعدم الانسجام بين الحاكم وصفوف المجتمع معاً. فالمعجزة لا تبرّر وجودها بالظروف الصانعة لها ولكن بالتغيير الناتج منها وإليها إيجابياً. والتغيير عندنا اليوم كعالم إسْلَامي ينشد الواقعية الإسْلَامية الجامعة لا الطائفية بإيجاد آليات جديدة لنظام جديد يكون الشعب صانعاً له وفق مبدأ الديمقراطية المحقّة لا الهشّة وليس أيضاً وفق هاجس الخوف منها. وإذا حدث واختار الشعب فإن الخدمة العمومية ستكون أحد اهتمامات هذا الاختيار ولن يكون لدعاة الطائفية مجال للافتراء على الأمّة بأنها أمّة غير ناضجة لفهم حقائق الواقع وحقائق متغيّراته.
من المحزن إن تتحوّل ثقافة الأمّة الإسْلَامية مع أناس همّهم فسادها وإفسادها إلى حصاد الهشيم في حروب عبثية أمام ثقافة الذي يريدنا في مؤخّرة الركب، ثم يتوارى رصيدنا الجهادي أمام ثقافة التجهيل المتعمّد من قنوات تدّعي الاستقلالية وهي رهينة العبودية والوثنية لأشخاص أوجدتهم الظروف، ظروف الفتاوى السوداء وقد كانوا من قبل أشبه بعابري سبيل؛ لأن الذين يتحكّمون في دوائر صنع القرار يؤمنون بالأحادية في الفكر وبالاختزال للتأريخ في قراءة الأحداث، إن الرأي العام يؤمن بشيء ويتمنّاه لكن ما يحدث في الواقع يصدمه وبشكل كارثي، وفي كُلّ مرة تتراجع ذاكرته باتجاه النسيان، وبالتالي باتجاه اللاوعي بالأحداث، وأحياناً بفعل الغزو الاستعماري المرحّب به من أنظمة الحكم وأحياناً بفعل الجفاف السياسي. وأمام هذا الخزّان المفرط في الأخذ بوصايا الأجنبي لا شيء يتغيّر باتجاه الحد من هذا الحاصل، طالما إن منطق النظام في بناء الدولة قائم على دواعي الخارج.
منذ إلغاء الموقف الإسْلَامي الموحّد وبروز الطائفية بواسطة النظام السعودي، فقد تحوّل صانعو المأساة إلى أباطرة في الفهم السقيم وتبييض الأموال وتحوّل المجتمع إلى أطلال من حيث المبدأ والاعتقاد، وتقلصت مساحة الرأي والرأي الآخر بهذا التحوّل نحو الاستبداد المطلق، تبعتها وسائط الاتصال العمومية لتصير وسائل للتضليل في أغلب الأحيان والتدمير للقِيَم الروحية والأدبية، وحتى المثقفين نالهم منها الكثير من سوء التقدير، فهل يكون الطوفان البشري الذي نراه اليوم في شوارع العالم من أجل القدس والرافض للانحراف والفساد بداية لحملة وطنية على الفساد والمفسدين أم أن التغيير في هذا البلد أَوْ ذاك باتجاه الرأي العام يبقى حبيس الكلمات وقدر الساسة من لا يقدرون على فهم ثقافة بناء الدولة؟.