أوصياء آدم في عياله
حمود عبدالله الأهنومي
من حسنات برامج التواصل الاجتماعي أنها تكشِفُ عن اتجاهاتِ ومُيُول الكثير من رُوّادها، وأتاحت الفرصة للتعبير عن الرأي والرأي الآخر، والتفاعل مع الأحداث بشكل مواكب، وبقدر ما عكست رغبة اليمنيين العارمة في طرح آرائهم حول كُلّ صغيرة وكبيرة تمر بها البلاد، فإنها أيضاً برهنت أن البعض يرى “القذى” من القضايا الصغيرة، ولكنه لا يرى “الجذع” من موبقات العدوان ومرتزقته.
أن يشتغلَ هذا البعضُ بقضية صغيرة “لا ترى إلا بالمجهر الاجتماعي”، ويكون فيها “أسمع خلق الله”، في نفس الوقت الذي هو فيه “أصم أبكم عن” مجازر جماعية وفظائع مهولة بحق اليمنيين في كُلّ جزء من هذا الوطن الغالي؛ فتلك فاقرة الدهر، وبلاء الأيام الذي لا حدود له، وهو بهذا إنما يقدِّم خدمة عظيمة للعدوان شعر بذلك أم لم يشعر.
يتميز اليمنيون اليوم أن صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم سياسيون، ولا يمكن لأحدهم أن يفوِّت فرصة الإدلاء برأيه في أية قضية، وهي ظاهرة إيجابية تعكس الوعي السياسي لدى كثير منهم، الوعي الذي بات صخرة تتحطم عليها مشاريع العدوان التدميرية، وليس آخر ذلك موقف اليمنيين من خيانة الثاني من ديسمبر الماضي؛ حيث تنبه الكثير منهم بسرعة قياسية ومن خلال تراكماته الواعية أن تلك معركة تخدم العدوان، وتسير على منواله.
غير أن ظاهرة “التسيس المتنطِّط” قد تتحول في كثير من الأحوال إلى ظاهرة سلبية؛ وذلك حين ينصِّب “المفسبك” أو “المُتَوْتِر” نفسه خبيرا استراتيجيا كبيرا، وقائدا سياسيا مجرِّبا، ومختصا علميا ضليعا، ومستشارا عالميا بلا حدود، ومفتيا شرعيا لم يرعف به زمان، وقائدا عسكريا لا شريك له، ومحلِّلا أمنيا لا مثيل له، لا يؤوده أمر من الأمور، ولا تفوته قضية من القضايا، إلا ويشارك فيها، سواء توفرت له المعلومات الكافية، أم لم تتوفر، وأسوأ أولئك هم الذين مردوا على الاعتماد على التحليل والاجتهاد بعيدا عن النص والمعلومة، والذين إذا لم يجد أحدهم معلومة فإنه لا يتردّد في اختراعها وترويجها على أنها حق لا مرية فيه.
لستُ على يقينٍ أن هذه السلوكات “المنطاطية” و “الفقاعية” هي موروث لمرحلة الحاكم العربي الذي ظل يكرِّس نفسه على أنه الأوحد، والأعلم، والفرد الذي لا شريكَ له في السياسة والفكر والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتاريخ والعلم والفقه والأدب والشعر والقصة والرواية والعمود الصحفي والشعر الحر والنثري والمسرحي، وأنه “ابتاعُه كلُّه” على حد قول إخوتنا المصريين.
لكنني على يقين أن إحدى معضلات كثير من العرب واليمنيين هو أنهم ماهرون في لوك الألفاظ الجامحة، والغرق في الأوهام الكاذبة، وجريئون على إطلاق التعميمات الظالمة، والأحكام الجاهزة، والتحليلات الغريبة، وخبراء فعلا في سوء الظن، وقبح الطوية، ونسيان القطعي من الأحداث، والجنوح إلى الموهوم والخيال منها، من غير دليل ولا برهان.
لا أدعو إلى لجمِ ظاهرة النقد الجميل، والتي تشكِّل اليوم أهم الرقابات الشعبية المعاصرة على سلوك الحكام؛ فهذا مكسب لم يعد في وسع شعبٍ التنازل عنه، ولكنني أعيب “أوصياء آدم في عياله” الذين “يتنطِّطون” في كُلّ وادٍ بدون خبرة، ويحكمون في كُلّ قضية بدون حيثيات، وينظِّرون في كُلّ مجال من دون أدنى معرفة، وينشغلون بالنقير والقِطمير من أمرِ هذا العالم، ولكنهم لا يكلِّفون أنفسهم بالبحث عن الفرق بين الحقيقة والإشاعة، والثابت والمتغير، والقطعي والموهوم.
إنهم أولئك الذين لا يتبيّنون في خبرٍ جاءهم، ولا يتلكَّأون عن الخوض في أي أمر ورد على خواطرهم، مخالفين أدبَ القرآن الكريم، (ولا تقف ما ليس لك به علم)، و (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة)، الذين بالتأكيد يساعدون العدوان في إرباك المشهد الوطني، والتشويش على القيادة الحكيمة، والنبش المقزِّز في كُلّ ما يجب ستره دينيا ووطنيا وضرورة.
إنهم “المتجشِّئون من غيرِ شِبَع”، و “المدَّعون ما ليس لهم ولا فيهم”، و هم (في كُلّ وادٍ يهيمون)، و (يقولون ما لا يفعلون)، الذين يفتئتون بجهلهم في تقدير الأمور على من توفّرت له المعرفة، وأدوات التقدير، ومن هو معني بالنظر والتقدير والقرار.
لتحلَّ على “أبينا آدم” السكينةُ والطمأنينة، فقد ترك لنا نحن اليمنيين قدرا كبيرا من هؤلاء “الطحاطيح”، الذين صدق الشاعر حين وصف أحدهم قائلا:
وكأن آدمَ حين حمَّ حمامُه… أوصاك وهو يجود بالحوباءِ
ببنيه أن ترعاهمُ فرعيتَهم… وكفيتَ آدمَ عَيلةَ الأبناءِ